الحكاية أشبه بتراجيديا إغريقية، لكن السقوط ها هنا سببه الحبّ، الحبّ وحده. في مقدور الشغف أن يصنع المعجزات وأن يحوك النكبات أيضاً، إذا تكسّر على صخرة الصدّ. هذا ما تُعلمنا به قصة مارغا خيل رويسيت (1908-1932) الرسامة والنحّاتة الريادية التي وضعت نهاية لحياتها في ربيعها الثاني بعد العشرين في جريمة اقترفتها ضد نفسها، وذريعتها عدم تلقيها الحبّ مبادلةً من الشاعر خوان رامون خيمينيث.
افتُتِنَت الشابة بالشاعر الاسباني خوان رامون خيمينيث، في عقده الخامس، الذي خلّدته جائزة نوبل الآداب. لكن الشاعر أبى أن يطأ في رفقتها أرض الشغف. وإذا كانت يوميّات صاحبة “الشخصيّة الثورية والمصممة ومثال الحيوية والنزوة القادرة”، كما وصفها خيمينيث، تصدر اليوم، فكأنها حصاة ترمى في مياه راكدة لتترك حلقات كثيرة تنمو حولها. كُتب في السجلات الأدبية أن حكاية العشق المأسوي وغير المتبادل، انبثقت في جوار غوته. ففي حين أضاف خيمينيث الى منجزه بعض أبيات الشاعر الألماني بمثابة بوصلة لمساره، رافقَت مارغا من خلال مجموعة من رسومها، سيرة خُصصت لغوته أيضاً وأيضاً. يمكن الإدعاء ان طيف غوته بدا قريباً وإلى حدّ مريب، من خيار مارغا. ألم يكتب الشاعر الألماني أن التصرّف هو مرآة يبيّن كل شخص فيها صورته؟ والحال انها جعلت تصرفها الأحمق مرآة شديدة الوفاء لما أرادت أن تظلّ عليه الى الأبد. رغبَت في أن تعتقل في الصورة الأحبّ إليها، محبوبة خيمينيث فحسب. من قبيل المصادفة المباغتة، أن يلتقي الإثنان، للمرة الأولى، في أحد المسارح، بينما ابتكرت حكاية رحيلها في فصول عدة، تطورت تدريجاً، قبل أن تسدل الستارة. شهيرة هي تفاصيل ذلك اليوم المشؤوم، هذه الساعات القليلة والمحمّلة بؤساً. جاءت الشابة إلى منزل الشاعر في العاصمة الإسبانية مدريد، لتضع على مكتبه دفتراً ذا غلاف أصفر. نبّهته قائلةً: “لا تقرأه الآن”. ثم انسحَبت في هدوء. بدت اللحظات اللاحقة كأنها خاتمة مبرمجة لحياة انتهت على عتبة الخيبة. غادرت الشابة المكتب قاصدةً محترفها حيث أتت على كل منجزها. تركت منحوتاتها مفتتة أرضاً، ثم مرّت بمتنزه ريتيرو، أشهر متنزهات مدريد، قبل أن تقصد منزل أحد أقاربها وتضع حداً لحياة باتت عاجزة عن تحملها. سمّاها خيمينيث “الطفلة”، وهي بدت في حركتها الأخيرة قادرة على جميع نزوات الأطفال.
ترك انتحار مارغا طعماً مراً في يوميات خيمينيث وزوجته زنوبيا. لأن الثنائي كان على معرفة وطيدة بالشابة التي دخلت حياتهما من باب موهبتها. وفي حين أوكلت بنحتِ ملامح زوجة خيمينيث، وجها من حجر، اختلجت في نفسها أحاسيس دفينة راحت تقولبها على سجيتها. في الدفتر الأصفر المتروك عن قصد، سكبت مارغا كل مشاعر العشق حيث نقرأ بأسلوب التهديد المبطّن: “لا أستطيع العيش من دونك… كلا … لم أعد قادرة على العيش من دونك… أنتَ، تبدو كأنك تستطيع العيش من دوني. ينبغي لك العيش من دوني إذاً…”. أما في الكتاب الصادر للتو (لدى “مؤسسة خوسيه مانويل لارا”)، فمزيج من الحب والغبطة والخيبة والكثير من الصمت أيضاً، حيث أضيفت إلى نصوص مارغا، رسوم وصور ومقالات وقصائد وملاحظات بقلم خيمينيث وزوجته كذلك. ها هنا يكتب الشاعر في نص “إٍسبان العوالم الثلاثة”: “إذا ظننتِ أنك ستخلدين كذكرى عبر الموت فأنت مخطئة يا مارغا. ربما سيتذكّرك عدد قليل، لكن ذكرانا عنكِ ستكون وفية لك وثابتة أيضا. لم ننسك، ولن أنساك أبدا. وإن وجَدتِ تحت الأرض الراحة والحلم والرضى، الأمور التي غابت عنك فوق الأرض. لتستريحي في سلام، سلام لم نعرف كيف نمنحك إياه، يا مارغا العزيزة جدا”. الكلام في شابة أحبته وظل يتأمّل صورتها القائمة فوق مكتبه لأعوام طويلة. والحال انه يمكن إيجاد البورتريه عينه يتصدّر غلاف اليوميات.
الكتاب الذي يرى النور اليوم، تحقيق لرغبة الثنائي خيمينيث الذي أراد سرد الحكاية المأسوية، على ما جرت عليه تماماً، من دون إضافات أو أسطرة. ارادا أن يوجها على هذا النحو، تحية إلى روح فتية استعجلت الغياب. غير ان منفى خيمينيث ثم سرقة مخطوط الكتاب خلال اقتحام منزله في 1939 سيجعلان المشروع فكرة عصية على التحقق. أحاط التردد بمشروع إصدار اليوميات أيضا لأن في ثنانياها جرعة كبيرة من التراجيديا غير المتخيلة وإنما المعيشة. شذرات من الكتاب فحسب نشرت في 1997 في صحيفة “أ. ب. ث” الإسبانية بيّنت خيط الودّ الذي جمع بين الشابة والثنائي. بعد ثلاثة وثمانين عاما على موت مفتعل وغير ضروري، يليق بالروايات العشقية ولا يصلح لحياة لم يكن تسنى لها أن تبدأ، نقرأ مارغا متوجهة إلى زنوبيا: “ستسامحينني…! أغرمتُ بخوان رامون! الغرام يحصل وإن لم يكن الذنب ذنبك، حصل لي أنا في الأقل.. شعرت بذلك على نحو تلقائي تماما… يمكن المرء أن يتقرب من أشخاص لا يشعر إزاءهم بالإنجذاب.. بغية أن يتفادى كل الأخطار.. لكن ذلك لأمر سخيف حقا”. في احد نصوصها تخطّ مارغا إقراراً ممزوجاً بالوجع: “انتحرتُ لأني لم أستطع أن أكون سعيدة”، لتضيف: “ثمة حلاوة في فجر اليوم الأخير”. كان خيمينيث شاعر المفاجآت وسيظلّ. شاعر فضّل الكتابة على النشر. شاعر لم يُرِد الإدعاء ولم يدع نفسه يدّعي ان منجزه انتهى. شاعر آمن بأن منجزه عمل مستمر. صوت بحث عن الخارج على التصنيف، أسُمّيَ الكمال أم الله أم الحقيقة أم الجمال. موت مارغا الخاطفم، جعل خيمينيث يعاني العجز الكتابي. يعود إلينا الآن مواربة، من خلف غشاء الحبّ الرقيق، يتمعن في كلام مارغا: “لا أريد العيش من دونك. حبّي لا متناهٍ … والموت لا متناه هو الآخر!”.