تمهيد
ربّما يكون من أهمّ دواعي كتابة هذه السّطور هي عمليات الإرهاب الدمويّ العنيف الّذي تقوم به وتتبنى مسؤوليته بشكل دائم جماعات إسلاميّة متطرفة منذ عام 2001 وحتّى اليوم، في أنحاء شتّى من العالم، سواء في المجتمعات الإسلاميّة أم في بلدان ومجتمعات الغرب الأمريكيّ والأوروبيّ. ولم يكن آخرها التّفجيرين الإرهابيين اللّذين تبنتهما (داعش) في مصر يوم الأحد بتاريخ 9 / 4 /2017 في كنيستين للأقباط في مدينتي طنطا والإسكندريّة أثناء قدَّاس ديني حيث ذهب ضحية التّفجيرين عشرات الضحايا والجرحى من المواطنين المصريين الأقباط. دون أن نلحظ أي ردّ فعل شعبيّ كبير واسع قويّ شاجب ومستنكر لكلّ هذه العمليات والتّفجيرات الإرهابيّة، في الشّارع الإسلاميّ عموما، على غرار ما حصل أثناء نشر الرّسوم الكاريكاتيريّة السيّئة الصيت، المسيئة للرّسول (محمّد). طبعا باستثناء بعض الأصوات القليلة المعزولة والخجولة هنا وهناك، مع أنّ هذه التّفجيرات الإرهابيّة الّتي تحصل باسم الإسلام، سواء في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة أم في مجتمعات الغرب المتقدّم هي أكثر إساءة للنّبي محمّد وللإسلام كدين عالميّ، في عالمنا المعاصر، من تلك الرسوم الكاريكاتيريّة.
وكلّ ذلك يعني – كما أفترض هنا – أنّ الرّوح الإسلاميّة تعاني من أزمة حقيقيّة وخطيرة.
ما المقصود بالرّوح الإسلاميّة؟:
لكن بداية، وبعيدا عن الدلالة الميتافيزيقيّة, أرى ضرورة توضيح ما أعنيه بـ “الرّوح” هنا تحديدا .. إذ توجد لهذه الكلمة دلالات عديدة مترادفة ومتباينة لها علاقة بجذر الفهم والتّفسير، ودون الدخول في تفاصيل قد تخرجنا عن سياق فكرة المقال، فالرّوح الّتي أقصد الإشارة إليها هي تلك الّتي تضمرها مستويات الوعي الثّقافيّ والأخلاقيّ والعلميّ الّتي تحكم سياق وإنجازات لحظة حضاريّة عالميّة تتكوّن وهي ما يمكن تسميته بـ (روح العصر). لكن داخل هذه اللّحظة توجد لحظات مجتمعيّة أخرى تشكّل مكوّنات هذه اللّحظة العالميةّ. وهذا ما يلخصه في الغالب مستويات الوعي الجمعيّ الأخلاقيّ والثّقافيّ لكل ّمجتمع بخصوصيته داخل المجتمع العالميّ، وهو ما يمكن تسميته بروح المجتمع الّتي تتداخل مع روح العصر سواء بتضاد وتنافر أو بتناغم وتشارك.
وربّما تكون العلاقة بينهما ضمن هذا لمستوى في الحالتين مفهومة بل ومضبوطة داخل الحدود الجغرافيّة لهذه المجتمعات بخصوصياتها البشريّة الثّقافيةّ والأخلاقيّة.
لكنّ المشكلة الخطيرة تكمن في مستويات الوعي الثّقافيّ والأخلاقيّ لجماعة بشريّة كبيرة، دينيّة خصوصا، توجد باتّساع وتتمدّد داخل عدّة مجتمعات متباينة في تطوّرها الثّقافيّ وغالبا ما يأخذ شكل التّداخل أو العلاقة مع روح العصر في هذه الحالة مستويين رئيسين هما:
-: شكل التّناغم والتّشارك وهو ما بدأت تأخذ به الرّوح المسيحيّة في الغرب والعالم – وربّما أغلب الديانات الأخرى كما في جنوب شرق آسيا – منذ القرن السّابع عشر كما سأشير إليه باختصار في السّطور القادمة
-: شكل التّضاد والتّنافر لدرجة العداء المستحكم. كالعلاقة الّتي تحكم الرّوح الإسلاميّة بالعالم المعاصر أو روح العصر العلميّة والثّقافيّة وغالبا ما يرسم هذا لتضاد والتّنافر مع الأخر حدود الانقسام العموديّ وجها لوجه بدلا من أن يرسم حدود التّنافس الأفقيّ، لذلك كثيرا ما تكون روح المجتمع أو الجماعة الدينيّة على هذا الأساس، تعاني من اضطراب بسبب علاقتها الملتبسة مع روح العصر الأقوى ممّا يؤسّس لبداية صراع مرير معها يؤدي لارتكاس خطير تعيشه هذه الجماعات.
فالرّوح الّتي أقصد الإشارة لها هنا تعني .. كما أزعم .. طريقة وعي الذّات والعالم في علاقتهما المتبادلة في سياق لحظة زمنيّة أو تاريخيّة مَّا.
والرّوح الإسلاميّة راهنا، وفق هذا المنظور، تعني مجمل نظرة المسلمين وموقفهم الثّقافيّ والأخلاقيّ الملتبس والمتباين بعض الشّيء، من العالم المعاصر، المؤسّس في النّهاية على تمسّكهم الحرفي بنصّهم المقدّس، والأحاديث النبويّة المروية، وأرثهم الفقهي القديم, دون إعادة النّظر في أيّ منها أو محاولة فهمها من خلال سياقها التَّاريخيّ البعيد (الزّمني) الخاصّ، أو على ضوء مستجدات وعلوم العصر الحديث. ومن ثمّ محاولة محاكمة العالم المعاصر من خلال هذا الموروث فقط. وكلّ ذلك أدى ويؤدّي إلى اضطراب وانشطار عميقين في الشخصيّة الإسلاميّة عموما، ممّا أنتج أزمة روح خطيرة تكون أغلب مخرجاتها الواقعيّة على الأرض تعميق الشَّرخ والحروب الطائفيّة المذهبيّة بين المسلمين من جهة، وأعمالا وتفجيرات إرهابيّة كتعبير عن كراهية ورفض مطلق (للأخر الكافر) من جهة ثانية.
السُّؤال الملح اليوم:
هل يمكن إنقاذ الرّوح اﻻسلاميّة. بشقيها السّنيّ والشيعيّ.. وبكلّ مذاهبها وفرقها و”هرطقاتها” الأخرى، من انغلاقها المذهبي القاتل والمدمّر .. ومن فتاوى التّكفير والحروب الطائفيّة .. وفكرة الجهاد القروسطي المقيت والمتخلّف .. ومعاداة العلم وأفكار التّقدم والتّحرر؟.
وإﻻّ كيف يمكن إنقاذ مجتمعاتنا من هذه الرّوح الإسلاميّة الّتي تفتك بمجتمعاتها بأبشع ممّا فعلته وتفعله الحروب الاستعماريّة.. والتّدخل الخارجي .. والأنظمة الاستبداديّة .. مجتمعين؟!.
طبعا لا تبدو الإجابة سهلة على هذا التّساؤل المزدوج قبل أن نعرف ولو بإيجاز كيف تمّ ذلك في الغرب المتقدّم منذ قرون وفي أوروبا تحديدا ..
عن أزمة الرّوح المسيحيّة وكيفيّة تجاوزها:
يتّفق أغلب الباحثين والمؤرّخين أنّ العصور الوسطى استمرّت حوالي 1000 عام تقريبا منذ القرن الخامس الميلادي وحتّى أواخر القرن الرّابع عشر منه وكانت تتميّز باستبداد السّلطات الكهنوتيّة المسيحيّة على كلّ مناحي ومستويات الحياة السياسيّة والاجتماعيّة والعقليّة في أوروبا.
لكن مع بدايات تشكّل وظهور المقدّمات الأولى لعصور النّهضة الأوروبيّة منذ أواخر القرن الثّالث عشر مع الكشوفات الجغرافيّة وما رافقها من اكتشاف طرق تجارة بريّة وبحريّة جديدة بدأ المناخ العقلي والرّوحي العام السّائد في أوروبا يتخلخل ومن ثمّ يتساءل.
فحركة النّهضة الّتي ولدت على خلفيّة مغامرة اكتشاف المجهول، أو العالم الجديد، في الضّفاف الأخرى البعيدة خلف البحار والمحيطات الكبيرة في الكرة الأرضيّة، شجّعت على فكرة المغامرة وحركة الأسفار البعيدة خارج أوروبا خصوصا باتّجاه جنوب شرق آسيا وصولا حتّى الصين، كما باتّجاه العالم الجديد، الأمريكيتين. بقصد التّجارة أو التّعرف والاكتشاف.
فالسّفر هو امتداد ومن خلال الامتداد نكتشف النّسبي كما يقول الباحث الفرنسي (بول هازار) في كتاب المرجعي الهامّ عن تلك الفترة (أزمة الضمير الأوروبي)، لأنّ لكلّ حيّز مكاني جغرافي في العالم ولكلّ شعب حقائقه الخاصّة الّتي تتفارق أو تتناقض مع حقائق الشّعوب الأخرى، وبالتّالي فهمه الخاصّ فيه وقناعاته الدينيّة المختلفة، يقول (بول هازار):” كلّ الأفكار الحيويّة، كالملكيّة والحريّة والعدالة، صارت محلّ مناقشة من جديد بفضل الأمثلة المستمدة من البلاد البعيدة”.
وبذلك تكون عصور النّهضة الأوروبيّة الأولى قد عملت على مراكمة خلخلة مستمرّة في العقل الأوروبيّ العام السّائد الّذي كانت العقيدة الدينيّة المسيحيةّ نواته وجوهره. فنتج عن ذلك أيضا خلخلة في الثّابت والمستقرّ في لاهوتها المسيطر طيلة قرون. ومن الطّبيعيّ أن يترافق ذلك أيضا مع بداية نزوع إنسانيّ يؤمن بالإنسان أوّلا ممّا ولّد حركة إنسانيّة متفائلة بمواجهة سلطة الكهنوت الدينيّ المتجهّم الّذي لا يعترف بقيمة الإنسان ودوره الفاعل والمستقل في الحياة.
وعلى خلفية هذه الخلخلة التاريخيّة ظهرت ثورة أو حركة الإصلاح الدينيّ المسيحيّ في أوروبا خلال القرنين الخامس عشر والسّادس عشر فتأسّست على أساسها طائفة مسيحيّة جديدة سمّيت (البروتسنانت) أي (المحتجين) الّذين نقدوا بشدّة الأبّهة والفساد في الكهنوت المسيحيّ الكاثوليكيّ المسيطر وتعاليه واستغلاله لجمهور المؤمنين الكبير فعارضوا بشدّة ما سمّي آنذاك بيع صكوك الغفران للمتدينين العاديين البسطاء من أجل خلاصهم الدنيويّ ودخولهم الجنّة في الآخرة، كما قامت هذه الحركة بأهمّ عمل مجدّد في العقيدة الدينيّة المسيحيّة، -طبعا بمساعدة الاختراع الجديد المطبعة- حين عمل روّاد هذه الحركة على ترجمة الكتاب المقدّس “الإنجيل” من اللّغة اللاتينيّة كلغة كهنوتيّة وحيدة نخبويّة متعالية تحتكرها وتفرضها الكنيسة الكاثوليكيّة كلغة رسميّة وحيدة، إلى أغلب اللّغات واللّهجات الوطنيّة والمحلّية في أوروبا، وكان ذلك بمثابة إعادة صياغة جريئة ومتقدّمة للكتاب المقدّس بلغات ولهجات جديدة مختلفة كليا عن اللاتينيّة، صياغة مكّنت جميع النّاس من قراءة الإنجيل وفهمه بشكل قريب من طباعهم وميولهم الشخصيّة وثقافتهم المحليّة كما تعكسها لغتهم أو لهجتهم الخاصّة بعيدا عن شروح وأضاليل رجال الدّين المتحكّمين بالنّص المقدّس ولغته المقدّسة “اللاتينيّة”، وبشرحه وإيصاله بما يخدم تحكمهم بعقول وأرواح النّاس وضمان مصالحهم وامتيازاتهم فقط، الأمر الّذي ساهم كثيرا في عمليّة محو الأميّة في أوروبا.. كلّ ذلك ساهم بدوره وبشكل كبير في تكوين نظرة جديدة للدّين وعلاقته بالإنسان والحياة مختلفة كليّا عمّا كان سابقا.
طبعا عارضت الكنيسة الكاثوليكيّة هذه الحركة بشدّة منذ البداية ولاحقت، بل وحاربت أهمّ رجالاتها متّهمة إيّاهم بالهرطقة والكفر والخروج عن الدّين الصَّحيح والقويم ما أدى إلى انشقاق عميق وكبير في الكنيسة المسيحيّة في أوروبا منذ ذلك الوقت أدّى بدوره إلى انقسام دينيّ أحدث صراعات مذهبيّة عنيفة كبيرة وكثيرة، ثمّ إلى انشقاقات متتالية وظهور تيّارات ومذاهب جديدة لكلا الطّرفين داخل البلدان الّتي ظهرت فيها هذه الحركة، وبالتّالي إلى انقسام سياسيّ جغرافيّ كبير داخل أوروبا بين دول الشّمال كألمانيا التّي كانت مهد حركة الإصلاح الدينيّ، وهولندا وانكلترا الّتي استقبلت المذهب البروتستانتي بتأييد. وبين دول الجنوب كفرنسا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال الّتي ظلّت محافظة على المذهب الكاثوليكي ورأس الكنيسة البابويّة في روما كممثّل وحيد عن الدّين والعقيدة المسيحيّة الصّحيحة والقويمة.. وكلّ هذا أدّى إلى صراعات دمويّة متتالية، كما لعب هذا الانشقاق دورا في إشعال حرب الثّلاثين عاما في أوروبا بين عامي1618 – 1648 م.
ولعلّ من المفيد هنا أن أقتطع هذا المشهد من كتاب (بول هازار) حيث يروي فيه ما جاء على لسان أحد الشّهود المحتجين (البروتستانت) أو بعضهم كمثال واحد له دلالة كبيرة وقويّة على عمق الأزمة الّتي مرّت فيها الرّوح المسيحيّة في أوروبا آنذاك:
“يا للذكريات الأليمة! لقد أقبلت الجنود، وطوقت الطّرق ومنافذ المدينة، حيث نصب الحرّاس، ثمّ أخذوا يتقدّمون وسيوفهم مشرعة صائحين: “القتل! أو الكثلكة! وبين صيحات السّباب والانتحاب، أخذوا يشنقون النّاس، رجال ونساء، من الشعر ومن الأقدام، على أسقف الغرف أو منحنيات المداخن. وكانوا يعذبونهم باستنشاق دخان القشّ المبلول, وينتفون شعر اللّحى والرّؤوس، وكانوا يلقون بهم في نيران أشعلت خصيصا لهذا الغرض، ولا يخرجونهم منها إلاّ نصف مشويين, وكانوا يغللونهم بالحبال، ثمّ يغطسونهم في الآبار، ولا يخرجونهم منها إلاّ بعد وعد بتغيير الدّين.”([1]) لذلك بدأت تظهر بوضوح كبير منذ النّصف الثّاني من القرن السّابع عشر ميلادي من خلال أبرز مفكريه وفلاسفته آنذاك .. أزمة تسمّى بـ”أزمة الضّمير اﻷوروبي” كما يشير الباحث الفرنسي (بول هازار) استمرّت حتّى أواخر الربع اﻷوّل من القرن الثّامن عشر الّذي دشّن انتصار العقل.
من هذا المفصل التّاريخيّ بدأت أزمة الرّوح المسيحيّ بالظّهور والتّفاعل أكثر وقد حاولت بعض أهمّ وأكبر العقول المسيحيّة في أوروبا آنذاك منذ عام 1660 محاولة إنقاذ الرّوح المسيحيّة من الانقسام والتّشتت والضّياع الّتي آلت إليه بعد كلّ هذه المجازر والحروب، عبر مصالحة تاريخيّة بين الكاثوليك والبروتستانت, لكن لم تنجح أبدا.
من هنا بدأ الضّمير المسيحي الأوروبي المضطرب والقلق في نفس اللّحظة التاريخيّة إيّاها بتطلّع جديد متجاوزا فيه مسألة إنقاذ الرّوح المسيحيّة باتّجاه إنقاذ الروح الأوروبيّة والإنسان الأوروبي عموما ممّا هو فيه من مستنقع الحروب الدينيّة القاتلة. من خلال التّفكير ببناء مستقبل إنساني جديد، وهو ما كان فعلا، حيث تمّ إنقاذ الرّوح المسيحيّة، أيضا، من خلال تجاوزها كليا، نحو الاهتمام بالرّوح الأوروبيّة وبمصير الإنسان الأوروبي الحديث.
طبعا أغلبنا صار يعرف مآل الرّوح المسيحيّة في أوروبا والغرب عموما منذ انتصار العقل والتّنوير والثّورة الصناعيّة .. والعلميّة اليوم .. حيث انزوت الرّوح المسيحيّة .. عموما .. بعد أن تصالحت مع روح العصر الحديث في ركنها الخاصّ بهدوء.
وماذا عن الرّوح الإسلاميّة:
لعلّ الفارق الكبير بين المسيحيّة الأوروبيّة والإسلام، لجهة موضوع هذا المقال، هو أنّ الإسلام اكتشف نفسه أكثر واكتمل فقهيّا في نفس الفترة التاريخيّة للعصور الوسطى لكن عبر الامتداد في المكان والزّمان، على العكس من المسيحيّة الأوروبيّة الّتي كان اكتشاف الامتداد عند شعوبها بداية اللّحظة المفارقة لهيمنة الكنيسة عليها وبداية تصدّع في وحدة الكنيسة وسيادتها المطلقة وبالتاّلي بداية البحث عند شعوب أوروبا عن هويّة انتماء مجتمعيّ وطنيّ إنسانيّ جديد خارج المؤسّسة الكهنوتيّة. مع فارق أنّ الامتداد في نهاية القرون الوسطى الأوروبيّة كان اكتشافا لمجاهل جغرافيّة جديدة خارج حدود العالم القديم حوض البحر الأبيض المتوسّط وأواسط آسيا، وهذا ما ساعد كثيرا على مراجعة الكنيسة لذاتها وظهور مقدّمات ثورة الإصلاح الدّيني فيها الّتي عمّقت أزمة الرّوح فيها الأمر الّذي نتج عنه أزمة في الضّمير الأوروبيّ ككلّ ساهمت في خروج الشّعوب الأوروبيّة من آسر الكهنوت الدينيّ لها باتّجاه الفضاء الإنسانيّ الأوسع.
بينما الامتداد بالنسبة للإسلام كان منذ القرن السّادس الميلادي ضمن حدود العالم القديم فقط، ولعلّ هذا ما يفسّر في أحد أسباب انغلاق الإسلام على نصوصه القديمة وعلى ذاته حتّى اليوم.
لذلك كان الامتداد في الإسلام يذيب النسبيّة والفوارق بين الشّعوب والحضارات تحت سلطة اللاحم الدينيّ المؤسّس على الحاكم الخليفة (أمير المؤمنين) فكانت تنتقل هذه الحاكميّة بين أعراق شتّى تجمعها راية الإسلام وصولا إلى الخلافة العثمانيّة الّتي استمرّت كما نعرف أربعة قرون.
ثمّ أنّه عبر هذا الامتداد طوّر فكرته الجهاديّة حول أنّ العالم ينقسم إلى دارين دار الإسلام ودار الحرب (من أسلم سلم) فدار الحرب هي تلك الّتي لم يفتحها الإسلام بعد أو لم تدخل فيه، لذلك فالجهاد فيها فرض كفاية بشكل عام وفرض عين في بعض الحالات الخاصّة والطَّارئة.
لعلّ كلّ هذا مكّن الإسلام من كونه دين دولة أكثر من كونه دين تقيّة شخصيّة خاصّة، كما آلت إليه المسيحيّة في الزّمن الحديث والمعاصر. وكان هذا وما يزال أحد دواعي اعتداد المسلمين بدينهم دون أن ينتبهوا أو يعترفوا بأنّ معايير هذه الدّولة بتشريعاتها وأدواتها القروسطيّة تقادمت مع الزّمن ولم تعد صالحة في العصر الحديث ومع ذلك فهم مصرون على دولة الإسلام حتّى إحياء الخلافة من جديد .. وهذا ما يسمّى في الفكر الحديث بـ(الوعي الشّقي) أو (الوعي المقلوب) الّذي يتمسّك بثوابت ويقينيات الماضي بمواجهة مستجدّات الزّمن الحديث كتعبير عن أزمة الرّوح الإسلاميّة في العصر الحديث.
إضافة لذلك فإنّه في نفس الفترة التاريخيّة الّتي كانت تكتشف فيه شعوب أوروبا إنسانيّا وتتقدّم مجتمعيّا خارج سطوة المؤسّسات الكهنوتيّة الدينيّة كانت الشّعوب العربيّة والإسلاميّة تخرج من دور الفاعل الكبير في التّاريخ لتغفو طويلا في ظلمات التّمسّك الحرفيّ بالنّصوص المقدّسة والفقهيّة ودوائر الطّرق الصوفيّة العديدة، وما زالت حتّى اليوم.
لذلك .. ربّما لهذه الأسباب مجتمعة لم يكن من الممكن قيام حركة إصلاح دينيّ في الإسلام أو ظهور “لوثر مسلم” أو “فولتير عربي” حسب تعبير المفكّر السوري الرّاحل (جورج طرابيشي). وذلك لانتفاء الأسباب والمبرّرات المجتمعيّة والإنسانيّة الملحة والضّاغطة، لا سيّما بعد إخفاق مشروع عصر النّهضة العربيّ أوائل القرن العشرين والّذي رافقته محاولات متواضعة لم تأخذ طابع الحركة .. لكن جدية .. لإصلاح ديني في الإسلام.
لذلك، أيضا، لم نلحظ نشؤ طائفة “المحتجين” في الإسلام خصوصا أنّ الإسلام انقسم منذ بداياته إلى طائفتين تتقاتلان حتّى اليوم لأسباب تتعلّق بأحقيّة الخلافة والحكم، وليس لأسباب دينيّة كهنوتيّة أو فلسفيّة عميقة.
حتّى التّفكير الفلسفي تمّ اغتياله في الإسلام منذ القرن الثّالث عشر مع أنّ فترة الحضارة العربيّة الإسلاميّة قبل كبوتها المديدة، شهدت أزهى مراحل الاشتغال في الفلسفة ترجمة وشرحا وتأليفا.
لذلك فالإسلام اليوم بشقيه السنيّ والشيعيّ محكوم بأمور تخصّ كلّ منهما بعيدا عن محاولة المصالحة بينهما أو مسألة مصالحة الإسلام مع العصر الحديث.
فالإسلام السنيّ ما زال مسكونا بفريضة الجهاد العالميّ لنشر الإسلام في العالم الجاهلي، غير الإسلاميّ، تبعا للتّقسيم الّذي يقسّم العالم إلى دارين دار الإسلام ودار الحرب “الجاهليّة”, حيث لم يتمّ تجاوز ذلك حتّى اليوم، وهذا يعني في النّهاية إحياء مستمرّ لفتنة عالميّة بين المسلمين وغير المسلمين من الشّعوب الأخرى.
أمّا الإسلام الشّيعي فما زال مسكونا بمسألة أحقيّة الخلافة لآل البيت الّتي صادرها منهم بني أميّة منذ ما يقارب ألف وخمسمائة عام، وبالتّالي فالثأر لمقتل الحسين ما زال واجبا شرعيّا بالنّسبة لهم، وهذا يعني في النّهاية إحياء مستمرّ لفتنة واقتتال دائمين بين المسلمين أنفسهم.
وكلّ ما يجري حتّى اليوم، من اقتتال طائفيّ داخليّ بين المسلمين سنّة وشيعة.. وما يجري من عمليات وتفجيرات إرهاب منظّم تقوم بها جماعات سنيّة سلفيّة أصوليّة متطرّفة تتكاثر وتتوالد باستمرار، على مستوى العالم بل وحتّى داخل المجتمعات العربيّة والإسلاميّة يفسّر ذلك.
لهذه الأسباب مجتمعة تتعمّق أزمة الرّوح في الإسلام دون أن تتحوّل إلى أزمة ضمير مجتمعيّ وطنيّ في بلدانه، بل إنّ أحد أهمّ أسباب إخفاقات ثورات الرّبيع العربيّ الحالية -كما أزعم- هو سيطرة الإسلام السّياسيّ والجهاديّ بكلّ شعاراته ومسمياته وأدواته عليها بحيث استطاع تحويلها إلى ثورة مضادّة، والأمثلة على ذلك منذ 6 سنوات صارت واضحة تماما في كلّ من مصر وليبيا وسورية واليمن, كما في حروب العراق المستمرّة منذ عام 2003، قد تكون تونس وحدها الاستثناء الخارج نسبيّا من هذا النّفق ربّما بحكم ظروفها الخاصة.
وبعد ذلك نعود لنسأل:
هل من الممكن انقاذ الرّوح الإسلاميّة من أزمتها الحالية في علاقتها بالعصر الحديث والعالم المعاصر؟
أم أنّ أزمة الرّوح هذه مجرّد وهم في ذهن ومخيلة كاتب هذه السّطور لأنّ الإسلام مستمرّ بحالته الجهاديّة الصّحيحة الّتي لا يقوم إلاّ بها، بكلّ قوَّة.. ؟
وهذا يعني مزيدا من التّفجيرات الإرهابيّة في كنائس الأقباط في مصر، كما في مساجد ومدن وأحياء الشّيعة والسنّة في أنحاء العالم الإسلاميّ، ومزيدا من العمليات الانتحاريّة الإرهابيّة في أوروبا وأنحاء شتّى من العالم وكلّها تستهدف وتقتل المديين والمؤمنين الأبرياء؟!!!.
سؤال.. لا أزعم إمكانيّة الإجابة عليه.. فالسّطور السّابقة كانت محاولة في تشخيص المشكلة فقط.
أمّا الجواب … فحوار عام مفتوح للجميع.