أنطوني جيدنز anthony giddens عالم اجتماع، بل وأبرز منظر اجتماعي بريطاني في الحقبة الأخيرة، وفيلسوف ذو رؤية عميقة، تولى منصب مدير جامعة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية ومستشار توني بلير رئيس وزراء بريطانيا السابق. وقد اهتم بدراسة الفعل الاجتماعي وبواعثه وأهدافه ومقاصده، والواقع الوجودي للحياة الحديثة وبخاصة طابعها الاقتلاعي، والمواقف الثاقبة الناتجة عن "التحول اللغوي" فى الفلسفة، ودور الفعل فى صياغة الواقع الاجتماعي بأبعاده المختلفة . وبذلك يشارك جيدنز العديد من علماء الاقتصاد، وعلماء السياسة، وعلماء الاجتماع وفلاسفة الحياة والأخلاق واللغة، يشاركهم اهتمامهم بالفعل ذلك أن الإنسان لا يوجد إلا بقدر ما يعمل وبالعمل يتحقق الإنتاج ويتقدم المجتمع ويتعدل الواقع الخارجي، وتصنع الذات، ويتفاعل البشر مع بعضهم البعض . وبالنسبة للواقع العالمي المعاصر، فقد تحدث عنه كثير من المفكرين محاولين رصد أهم ظواهره والوقوف على التحولات الجذرية التى غيرته وأثر ذلك في النشاط الإنساني .. فمثلا ألان بلوم Allan Bloom يري في كتابه " أفول العقل الأمريكي " the closing of the american mind أن الناس اليوم عراة روحيا، غير مترابطين، ومنعزلين، مجردين من أي رابطة موروثة أو غير مشروطة تربطهم بأي شئ أو بأي إنسان . إن باستطاعتهم أن يكونوا أي شئ يريدونه، ولكن ليس لديهم أي سبب محدد ليكونوا أي شي محدد . ويقول دانييل بل Daniel Bell " إن الافتقار إلى منظومة إيمانية أخلاقية moral belief system عميقة الجذور هو النقيض الثقافي للمجتمع والتحدى الأعمق على طريق بقائه " .
وفي الاتجاه نفسه يري جيدنز أننا نحيا في عالم يترنح على حافة الكارثة، فقد انحرف عن مجراه الأصيل بطريقة يصعب معها إعادته إلى صوابه . فما يسميه ماركس " فوضي السوق " يبدو في عصرنا كظاهرة عالمية . إننا نحيا فى ما يسمي " الاقتصاد الرأسمالي العالمي " الذي فيه تشكل العلاقات الرأسمالية الاقتصادية كفة الميزان للعالم وحتى على الجانب الإيجابي أو الأكثر أهمية، نحن نحيا في نظام الدولة القومية العالمية وهو نظام لا نظير له فى التاريخ، ولكن فيه من الهشاشة الواضحة في تحطيم قواه العظمى التى تسلح بها على الفوضى السياسية في النظام العالمي . ([1]) كما أن عالمنا الذي نعيش فيه اليوم يسوده الاغتراب والاضطراب واللايقين " عالم منفلت " runaway worldمما يشكل أساسا عميقا لحالة العجز عن التنبؤ بالمستقبل . وإننا ندفع دفعا للعيش في نظام كوني، ومع أننا لا نفهمه فهما كاملا إلا أننا نشعر جميعا بتأثيره فينا . ([2])
ويؤكد جيدنز أن ملامح المجتمع المعاصر تبدو مشوشة وتهز الأساليب القائمة لحياتنا أينما وجدنا . فهو ليس - على الأقل في هذه اللحظة – نظاما عالميا تدفعه الإرادة الإنسانية الجماعية . بل إنه يظهر إلى حيز الوجود بطريقة فوضوية اعتباطية تؤثر فيها عوامل مختلفة . وهو ليس مستقرا أو آمنا بل إنه يدعو إلى القلق كما أنه مقسم بشكل عميق . ويشعر العديد منا أنه قد سقط في قبضة قوى لا قبل لنا بالسيطرة عليها . ([3]) كما أصبح التناقض الظاهري روتينيا في المجتمعات المعاصرة، وليس هناك طريقة بسيطة للتعامل معه . فهناك الموجات الحارة وانحسار البرودة وأنماط غير معتادة من الجو . وفي هذه الظروف يسود مناخ أخلاقي جديد فى مجال السياسة يتسم بالشد والجذب ما بين الاتهام بإثارة الذعر بين الناس من ناحية، والتعمية على الحقائق من ناحية أخرى ... فنحن نعيش فى عالم نخلق فيه المضار بأنفسنا، ونتعرض فيه لمخاطر قادمة من الخارج مثل المخاطر الأيكولوجية العالمية وانتشار الأسلحة النووية واندماج الاقتصاد العالمي . ([4])
ويرجع جيدنز هذا الوضع المأسوي لعالمنا المعاصر إلى عوامل عديدة منها :
1- زيادة أمراض التغذية على صعيد الحياة اليومية ومن بينها مرض الخلفة anorexia أي مرض فقد الشهية للطعام ومرض البوليميا bulimia أو الضور والشره المرضي للطعام وتتجه جميعها إلى التمركز في بلدان العالم الأول، ولكنها بدأت الآن فى الظهور داخل بلدان العالم الثالث أيضا . والملاحظ أن الناس في كثير من أنحاء العالم يتضورون جوعا، ليس لأخطاء ارتكبوها بل لأنهم يعيشون في أوضاع يسودها فقر مدقع . وتشهد أجسادهم النحيلة على شدة المظالم على الصعيد الكوكبي . إن الجسم النحيل المريض الخلفة واحد بين الجميع، ولكنه يعكس ظروفا اجتماعية ومادية شديدة التباين . إن مريض الخلفة يتضور جوعا حتى الموت وهو فى بحر من الوفرة، وينتشر مرض الخلفة فى عالم يكتظ بسكانه ويحظى لأول مرة فى التاريخ بوفرة غزيرة من كميات الطعام التى تتجاوز كثيرا الحد اللازم للوفاء بالاحتياجات الغذائية الضرورية . ([5])
وتوجد علاقة وثيقة تربط هذا المرض بالعولمة، ذلك أن ابتكار النقل بالحاويات والوسائل الجديدة لتجميد الأطعمة – وهي ابتكارات ترجع إلى بضعة قرون فقط – تعني إمكان تخزين الأطعمة لفترات طويلة وشحنها إلى مختلف أنحاء العالم . ومنذ ذلك التاريخ شرع كل من يعيشون في بلدان ومناطق الوفرة الكبيرة في اتباع أسلوب الحمية أي النظام الغذائي . معنى هذا أن كل امرئ أخذ قرارا فاعلا بشأن كيف وماذا يأكل في ضوء الأطعمة المتاحة على مدى العالم تقريبا . وطبيعي أن اتخاذ قرار بشأن ما يأكله المرء هو أيضا قرار بشأن " الكيفية " التى يكون عليها بالنسبة إلى جسمه، وتتجلى نتيجة ذلك في مرض الخلفة وليد النظام الذاتي الصارم في التغذية الذي يتبعه الأفراد الذين يعانون من توترات اجتماعية محددة وبخاصة النساء في ريعان الشباب . ([6])
2- وجود مصادر متنوعة للمعلومات تؤثر في خيارنا بين البدائل alternatives منها : المعارف المحلية، والتقليد، والعلم والاتصالات الجماهيرية . وهذه المصادر أصبح لها تأثير كبير في مجال العلاقات الشخصية . إذ أصبح الأفراد اليوم هم الذين يقررون ليس فقط متى ومن يتزوجون، بل ما إذا كانوا يتزوجون أولا . ويواجه الرجال والنساء مهمة اتخاذ قرارات صعبة بشأن الحصول على أطفال في ظروف تبدو غير طبيعية وغير مألوفة . ويضطر المرء أحيانا إلى أن يحسم رأيه بشأن حياته الجنسية ونوع العلاقات وكيفية بنائها .
3- تفريغ جوانب كثيرة من حياتنا من المهارات المتطورة محليا ووجود تغيرات ثورية في زماننا حدثت نتيجة التفاعل بين التحولات المحلية والكوكبية، وواقع التحول التقني technological change في حياه البشر . وتفاقم الفقر على نطاق واسع وهو ما يصفه البعض بعبارة " محرقة الفقر " Holocaust of poverty ([7])
4- تحول علاقتنا بالبيئة إلى علاقة إشكالية في جوانب عديدة: فالموارد المادية اللازمة لاستدامة الحياة البشرية وبخاصة أسلوب الحياة في المناطق الصناعية في العالم أصبحت مهددة بالخطر على الأرجح خلال مستقبل متوسط المدى . وقائمة الأخطار التى تهدد البيئة التى نحيا فيها تشمل : احتمال تفاقم احترار كوكب الأرض نتيجة إنتاج ما يسمى " غازات الدفيئة greenhouse gases " ونفاد غشاء الأزون، وتدمير الغابات المطيرة والتصحر وتسمم المياه إلى درجة سوف توقف على الأرجح عمليات التجدد الحيوي فيها .
5- انتشار أسلحة الدمار الشامل مقترنا بحالات يلوح فيها إمكان استخدام العنف الجمعي. صحيح أن انتهاء الحرب الباردة حد من إمكان وقوع مواجهة نووية يمكن أن تدمر الحياة البشرية على الأرض بيد أن الخطر لم ينتف تماما . وتوجد الأن حوالي خمس عشرة دولة تملك أسلحة نووية، وتزايد العدد منذ نهاية الحرب الباردة بسبب ظهور عدد من الأمم النووية الجديدة عقب سقوط الاتحاد السوفيتي . وبات انتشار الأسلحة النووية أمرا مرجحاً نظرا إلى الأعداد الكبيرة من المفاعلات " السلمية " الموجودة الأن ولها قدرة على إنتاج البلوتونيوم، علاوة على التجارة العالمية ذات الصلة عمليا في هذا الشأن . ([8])
6- وجود قمع واسع النطاق للحقوق الديمقراطية، وعجز أعداد متزايدة من الناس عن تطوير ولو جانب ضئيل من إمكاناتهم البشرية . ويبدو أن نظام الحكم العسكري على طريق الأفول . ولكن كان هناك لا يزال حتى عام 1993 أكثر من خمسين نظام حكم عسكري في أنحاء مختلفة من العالم . وتفيد منظمة العفو الدولية أنه يوجد في أكثر من ثمانين بلدا في مختلف أنحاء المعمورة نزلاء أودعوا السجون بتهم تتعلق بقضايا الرأي، لا لشيء سوى الدين أو اللغة أو الأصل العرقي . ([9])
ومهما يكن من أمر، فقد رصد جيدنز في عرضه لمصادر أزمة الإنسان المعاصر عدة مخاطر تواجه البشرية في الوقت الراهن منها : العنف واسع النطاق، وانتشار الشك، وفقدان اليقين، وبناء محطات قوى نووية nuclear powers والحروب المدمرة، والعولمة التى امتد تأثيرها إلى العالم كله، والمخاطر الناجمة عن احترار كوكب الأرض وثقب الأزون، وفوضي الاقتصاد الكوكبي والتلوث بأشكاله المختلفة، والتحولات العميقة التى طرأت على حياتنا السياسية والأخلاقية ....... الخ .