.. أو الموروث الشعبي؛ أو من أعمال سابقة؛ في إطار
المصدر التقني الأساس في تحديد النوع، فإذا كان النص دراميا أو روائيا كانت
مصادره التقنية هي ( الحبكة – اللغة الصراع – الشخصيات – الفكر...)
...هذه العناصر تنسج بمادة إما من الواقع أو من التاريخ أو من الموروث
الشعبي بما فيه الحكاية الشعبية والأسطورة والطقوس... .
التاريخ.. الواقع.. الموروث الشعبي، ثلاثة
مصطلحات؛ ولكل مصطلح خصوصيته، و من المهم جدا تحديد الفوارق والعلاقات
بينها؛ فالتاريخ والواقع كلاهما يعتمد على الحقيقة سواء كانت حقيقة
تاريخية أو حقيقة واقعية ولكن الفرق بينهما أن التاريخ ماضي في حين أن
الواقع حاضر، ولهذا الفرق أهميته ؛ فما حدث في الماضي قد يكون غريبا أو
حتى مرفوضا في الواقع أما ما يحدث في الواقع فهو عادة معروف مألوف
كقاعدة ...
أما الموروث الشعبي فإنه يختلف عن التاريخ والواقع
في كونه يمثل مرحلة تحول من الحقيقة إلى الرؤية .. من الحقيقة الجزئية
المحدودة بالزمان والمكان التاريخي أو الواقعي إلى الرؤية الإبداعية
الكلية غير المحدودة والتي تتجاوز الزمان والمكان التاريخي أو الواقعي إلى
الزمان والمكان الإبداعي.
والعلاقة دائمة وحتمية بين الواقع والتاريخ
والموروث الشعبي ( الفن ) فالتاريخ كان واقعا والحكاية الشعبية أو
الأسطورة عادة مصدرها حادثة أو واقعة تاريخية ثم بفعل الخيال الشعبي وهموم
الجماعة الشعبية ورؤاها تتحول من حقائق جزئية إلى رؤية عامة تحمل قيم
الجماعة الشعبية التي تتجاوز الزمان والمكان . ومن هنا تكتسب استمرارية
تداولها وأهميتها أيضا .
بقيت نقطة مهمة وهي إشكالية الحقيقة التاريخية
والتي تنسحب أيضا على الحقيقة الواقعية ، وأقصد بذلك ما يقدمه اتجاه ما
بعد الحداثة ؛
إن التاريخ بمفهوم ما بعد الحداثة في حالة من
الاختلاف والتغير بسبب اختلاف التأويل؛ تأويل المؤرخ وتأويل القارئ
الذي يمثل مستوى من تأويل التأويل ، وهذا نتاج طبيعي لهدم المركزية
مركزية " اللوجوس" على حد تعبير " درايدا ".
وأنا كباحث أرى أن الحقيقة التاريخية قد تواجه
إشكالا في النقل أو التأويل ولكن كل هذا لا يلغي وجود الحقيقة.
وفي الإبداع يكون مصدر النص دالا قابلا
للاستبدال برؤية المبدع التي بدونها يبقى النص حبيس قيمته المصدرية سواء
كان تاريخا أو تراثا شعبيا أو واقعا... من هنا تأتي أهمية الاستبدال التي
تشكل قيمتها الدلالية الجديدة . والاستبدال يحتمل أكثر من دلالة فهناك
استبدال تقني وهو ما يسمى باستبدال المجاز بالحقيقة، وهو ما يشكل أسلوب
النص، وهناك استبدال موضوعي، وهو الذي نقصده هنا وهو استبدال الرؤية
الإبداعية بالحالة المصدرية للنص ، سواء كان استبدال الرؤية الإبداعية
بالحقيقة التاريخية أو الواقعية ، أو استبدال رؤية شعبية برؤية أخرى جديدة
. وهذا ما سندرسه في هذه القراءة.
قراءة في
لوحة تشكيلية :في لوحة( نابليون أمام أبو الهول)[حفر على
نحاس] للفنان" نحميا سعيد"(**)
وهي من مطبوعات معرض باريس الدولي سنة 1937م. والتي تصور " نابليون "
بشكل يبدو شامخا كعملاق ضخم يكاد يطاول أبو الهول ...
في اللوحة مجموعة دوال تاريخية وأهمها الآثار
الفرعونية؛ واللوحة مقسمة إلى قسمين يتوسطهما أبو الهول ويفصل القسمين ؛
القسم الأيمن :مجموعة شخصيات(ضباط فرنسيين أو شخصيات رسمية) عملاقة
يتقدمها "نابليون" وكأنه عملاق أيضا بعكس ما عرف عنه تاريخيا من قصر
القامة ... يقف في مقابل أبو الهول ويده على سيفه وكأنه يريد أن يبارزه في
حين أن رأس أبو الهول في وضع كأنه يتراجع أمام نابليون الذي يقف بثقة مع
تقدم الفرنسيين من خلفه !!! والذين يتقدمون في شموخ وثبات.
أما في القسم الذي يقع في يسار اللوحة فهناك
مجموعة آثار تاريخية تضم تابوت ورمز الهيئة العامة للكتاب الشهير الرجل
الذي يجلس في حالة قراءة وهو محمول على أجساد مقزمة وفي مقدمة هذا القسم
رجل ضئيل جدا ويكاد لا يصل إلي مستوى ركبة نابليون وهو منحني ...!!
إن الآثار الفرعونية وأبو الهول في مقدمتها ،
حقائق تاريخية ونابليون أيضا حقيقة كشخصية تاريخية و دخوله مصر أيضا
حقيقة ؛ ولكن الفنان استبدل هذه الحقائق بالرؤية الفنية وهي التي
تجاوزت الحقيقة إلى دلالات أخرى ... ( وهذا لا يعني أنني اتفق معه في
رؤيته بل على العكس ، فتقزيم الإنسان المصري وتضخيم نابليون أمر مستفز
بالنسبة لي ) هذه الدلالات تبدأ بالمعنى البسط المباشر وهو التضخيم
والتجسيم مقابل التقزيم للإنسان وللمفردات الأثرية ..
إن الفن هو خصوصية اختيار، اختيار ما يدفع إلي
التغير والتحول من حالة سلبية إلي حالة إيجابية أومن حالة موت إلي حالة
حركة أو من حالة استسلام إلي حالة تمرد .. ولكن حينما يقف الفن عند
حالة إحباط ويزيدها تهويلا فهذه المشكلة تعني أن الفنان لا يعرف ولا
يعي خطورة ما يعمل أو انه يعي ويهدف إلى المزيد من التدمير والإحباط.
إضافة إلى دلالات خاصة بلغة المفردات التشكيلية؛
وهي اللون والخط والتكوين.
واسترسالا في كشف المزيد من الدلالات بعيدا عن
النموذج السابق ، فمثلا اللون الأبيض والأسود وهما لونان محايدان
تشكيليا سنجد لهما تداعيات شتى في الدلالات : فاللون الأسود دال
ودلالات تتولد عنها مثل الحزن الشؤم أو الشر مقابل الأبيض ؛ النقاء
.. الشفافية .. البراءة ثم يبدأ نوع آخر من الاستبدال للدلالة وهو
المرتبط بالخبرة الاجتماعية والاقتران الشرطي مثل اقتران اللون الأبيض
بالمرض وذلك من خلال حضوره المقترن بالمستشفيات وسيادة اللون في ملابس
الممرضات والأطباء والملاءات وألون الجدران وأرضية المستشفى كلها لونها
ابيض هنا يكون الاقتران الشرطي قد نقل الدلالة أو على حد تعبير المصطلح
قد استبدل دلالة بدلالة تكاد تصل إلى حد التضاد مع الدلالة التى أشرنا
إليها سلفا .. إضافة إلى اقتران اللون الأبيض بالبرودة والصقيع وهذا يكون
في المناطق الثلجية كما انه قد يقترن بالفرح من خلال ارتباطه بثياب
الزفاف كما نعرف ..، وهكذا تتوالد الدلالات كل هذا ونحن مازلنا في حدود
لونين محايدين. بمعنى إننا لو كنا بصدد لوحة تتضمن الألوان... فان الدلالات
تكون أكثر قدرة على التعدد والاختلاف والاستبدال.
ولعل أقدم أ لإشارات لهذا التعدد قد وجد في
القرآن الكريم ، فمثلا اللون الأصفر جاء ذكره بدلالات خير مثل قوله تعالى
(( بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين )) وفي مكان آخر استبدل دلالة
السرور بالعقاب والخوف في قول تعالى في وصف ريح العقاب ((كأنها جمالات
صفر ))
ونصل إلى مستوى أبعد من الدلالات وذلك ما يتعلق
بالتكوين فالتكوين في القسم الأيمن من اللوحة منتظم الإيقاع بحركة
الضباط الفرنسيين الذي يقودها نابليون ، حركة منتظمة توزيع المسافات ومستوى
الرؤوس بتناسب مع المنظور يملأ القسم الأيمن من اللوحة بشكل يوحي
بالحركة والديناميكية والحياة .. كل هذا مقابل الإيقاع المرتبك في القسم
الذي يملأ الجزء الأيمن من اللوحة والذي يمثل الإنسان والآثار المصرية
والتي لا يبرز فيها سوى أبو الهول بدلالته المباشرة كأثر تاريخي لا
يملك إلا السكون أمام حركة وفعل الإنسان الذي تمثل في نابليون
مقابل انشغال مجموعة من المصريين بحمل أثارهم وهناك أربعة تكوينات بشرية
مقزمة جدا جدا !!! تبدو أن لا علاقة لبعضها ببعض !!!!!!!!؟؟؟؟؟؟؟؟
إضافة إلى التكوين الرأسي والأفقي فالشخصية "
نابليون " تكوينها رأسي شامخ وهذا دلالة الشموخ والقوة كما يقف شاب
وليس منحنيا كعجوز أو مائلا وكل هذا له دور في اللعب بالدلالة مقابل
التقزيماتوانفراط الإيقاع
..ومع هذا يمكننا إن نستبدل دلالة القوة والشموخ
بدلالة الجمود والتصلب خاصة وانه كان واقفا كعسكري في حالة انتباه..ولكن
هذا الاستبدال قابل للجدل لأن بقية عناصر اللوحة تؤكد المعنى الذي
أشرنا إليه
إذا الاستبدال يكون أما على مستوى المفردة
بمفردة أخرى أو على مستوى دلالة المفردة ذاتها باختلاف تداعيات الدلالات
أو على مستوى أكثر وضوحا وبساطة وهو استبدال الحقيقة بالرؤية أو
استبدالا ا لكل المشتت بالجزء لغرض شمول الكل المكتمل والموحد وهذا موضوع
تكنيكي بحاجة إلى موضوع آخر مستقل .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ