التمايز بين الفكرة والمفهوم، يكمن في نظام إنتاج كل منهما، حيث إن المفهوم نتاج لمجهود ذهني وعملية بناء وصياغة أمتن وأدق من عملية إنتاج الفكرة، وثمة محاولات للتمييز بين الفكرة والمفهوم، سقطت في مزالق دلالية واضحة، وأكبر مثال على ذلك تحديد "لوروي" الذي يعتبر المفهوم كينونة متصفة بالثبات، مع أن المفاهيم بما هي نتاجات تمثلات ذهنية، هي حصيلة حركية تفكير ونتاج لعملية دائمة من التأسيس وإعادة البناء.السؤال الإشكالي الذي يلح على الباحث المغربي الدكتور الطيب بوعزة في الدراسة التي نشرها على موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث في قسم الأبحاث المحكمة تحت عنوان "في مفهوم المفهوم ومحددات المقاربة المفاهيمية"، هو تحديد دلالة المفهوم من خلال إبصار وتتبع عملية تشكيله وتكوينه؛ أي بلغة "هوسرل" ينبغي أن نمسك ابتداء بـ "الحوافز" التي تؤدي إلى ابتداع المفاهيم.
بما أن المفهوم، وفق الباحث، مكون من مكونات الخطاب والمتن، فلا بد أن يلحقه التعدد والاختلاف، سواء على المستوى الدلالي أو على المستوى الوظيفي. ومن هنا، لا بد من الإشارة إلى تعدد التوظيفات المنهجية التي يكتسبها الجهاز المفاهيمي ومكوناته داخل المتون الفلسفية. ومن ثم من الصعب الجزم بكون المفهوم يقوم بدور أو أدوار معدودة محددة.
فالمفهوم، حسب الدراسة، عبارة عن صيرورة، حيث ينمو ويتشكل، وتتكثف فيه ليس فقط دلالات ومعان، بل أيضاً حلول لاستفهامات إشكالية ملحوظة، ومن ثم لا ينبغي فصل المفهوم عن الإشكال، ولذا فالمفهوم بوصفه أرقى درجات الإنتاج النظري للعقل، فإنه يحمل هو أيضاً هذا السمت الإشكالي.
إن إنتاج المفاهيم والاهتمام بها والاحتراس من التباس الدلالة وانزياحها والحرص على ضبطها ضبطاً دقيقاً واضحاً متميزاً من قبل الفلسفة، يرجع إلى استشعارها خطورة اللغة وانزياحها الدلالي والتباس معانيها. ومن ثم يمكن أن أقول إن ضرورة التحديد المفاهيمي ترجع بالأساس إلى طبيعة اللغة ذاتها .
غير أن التوجه الفلسفي المعاصر، كما يرى الباحث، لا يستهجن هذا الانزياح الدلالي الذي يسم اللغة، بل بالعكس يستهجن ضبطه؛ لأن تحديد الدلالة إفقار للغة لا إغناء لها، وإذا كانت قد تصاعدت في اللحظة الفلسفية المعاصرة أصوات تنادي الخطاب الفلسفي بأن يبدل من آلياته وأساليبه المفاهيمية التجريدية الباردة، ليعانق أسلوب الخطاب الأدبي الشعري، فإن البعض يتشبث بشدة بالمفهوم، مؤكداً قيمته وضرورته للخطاب الفلسفي.
والواقع أن تلك الأصوات الرافضة لفلسفة "المفهوم" ليست رافضة لأسلوب في الكتابة، ولا حتى رافضة لأسلوب في التفكير يقوم على التجريد والصياغة المفهومية، بل هو رفض يتأسس على مناهضة الخلفية الميتافزيقية الثاوية خلف التفكير المفاهيمي التقليدي؛ غير أننا نرى هذا الرفض لم يخل هو الآخر من تصور ميتافيزيقي، ولذا نستطيع القول: إنه ليس رفضا لأسلوب في الكتابة والخطاب، بل هو رفض "ميتافيزيقي" ناقد لنوع من الـ "ميتافزيقا"، هي ميتافيزيقا المفهوم، أكثر منه نقداً لإجرائية المفهوم وللاشتغال به.
إن التفكير في اللغة مدخل إلى التفكير في الإنسان والعالم - لأن الوجود - بكل شمولية دلالة اللفظ - لا يعطى للإدراك الإنساني أجساما وأشياء صماء، بل يعطى أسماء؛ أي لغة، ومحتوى اللغة كما يقول لوي يمسليف: "هو العالم ذاته هذا الذي يحيط بنا".
وفي هذا السياق، يشير الباحث إلى أن كل هذا وغيره، يؤكد قيمة المفهوم ومحوريته داخل الفكر الفلسفي، واستعصاءه على الاختزال والتهميش. ومن ثم، فنقدنا لتلك الدعوات المستهجنة المنادية باستبعاد المفهوم، الدافع إليه هو أننا نرى أن الاشتغال على المفهوم ليس أسلوبا منهجيا لدراسة المتن الفلسفي وقراءته فحسب، بل هو أسلوب التفكير الفلسفي ذاته؛ فالفلسفة تفكير في المفاهيم وبها.
إن المتون الفلسفية هي في الغالب متون ثرية من حيث الكم المفاهيمي الوارد داخلها، وهذا ما يستوجب تصنيف هذا الكم أولا، وإلا استحالت المقاربة المفاهيمية إلى عمل معجمي يقوم على تعداد المفاهيم وتركيمها وتحديد دلالاتها.
إن عملية تعريف مفهوم ما، تستلزم حسب "كوسوطا" ضبط دلالته، والمرجع/السياق الذي يحيل عليه، والعلاقة/ العلاقات الرابطة بين المفهوم ومرجعه، والقواعد التي تسمح باستخدامه واستعماله.
لكن تصور كوسوطا، يبقى مجرد، بحسب الدراسة، تصوراً نظرياً؛ وبالفعل من بين ما تتمايز به مذاهب التفكير وأنساق التفلسف واتجاهاته اختلاف جهازها المفاهيمي، أو بتعبير آخر اختلاف وتمايز الدلالات المعطاة لمكونات هذا الجهاز، فضلا عن الأسلوب الخاص في استثمارها داخل خطاب الفيلسوف. ومن ثم للانتقال من مستوى التصور النظري إلى مستوى أجرأته وتطبيقه على نص محدد يحتاج من التعديل والتحوير مقداراً غير قليل.
إن إنتاج المفاهيم والاهتمام بها والاحتراس من التباس الدلالة وانزياحها والحرص على ضبطها ضبطاً دقيقاً واضحاً متميزاً من قبل الفلسفة، يرجع إلى استشعارها خطورة اللغة وانزياحها الدلالي والتباس معانيها.
ثم إن المفهوم لا يكون في الغالب صورة صوتية مبتدعة؛ بمعنى أن إنتاج المفاهيم هو في الغالب إعادة بناء دلالي لمفاهيم وألفاظ متداولة سابقاً؛ ولذا فالعمل الذي ينبغي الالتفات إليه هو ممارسة التفكير النقدي في الدلالة المعطاة له سابقا، ثم تأمل عملية بنائها الدلالي على نحو جديد. ومن ثم يجب أن نضيف إلى الترسيمة عنصر الدلالة اللغوية، والدلالة/ الدلالات الاصطلاحية السابقة للمفهوم، لأنهما عنصران أساسيان لفهم الدلالة الجديدة.
كما أن مقاربة مفهوم ما داخل متن فلسفي تحتاج، بحسب الدراسة، إلى استحضاره داخل نسيجه المفاهيمي؛ لأن هذا المفهوم لا يرد منفرداً معزولاً؛ ومن ثم نحتاج إلى إضافة المفاهيم المتعالقة إلى الترسيمة تكميلا لها، فتستحيل بهذه الإضافات إلى ترسيمة أخرى هي الترسيمة التي نقترحها لتنظيم عملية المقاربة المفاهيمية.
لقراءة الدراسة كاملة يمكن الضغط هنا