http://alawan.org/wp-content/انسجاماً مع توجّهاتها الحداثيّة أفردت مجلة "الحديث" الحلبية بين صفحاتها فضاءات موسّعة للتعريف بأعلام شرقيّين، خاصة ممّن غفلت عنهم الذاكرة الجمعيّة العربيّة. من بين هذه الصفحات وقع الاختيار على مادّة صحفية تعود لعام 1957، وفيها يقدم سامي الكيالي تعريفه لقراء المجلة بمريانا المراش (1848-1919).ليس بخاف على أحد أنّ محاولة التأريخ لشخصية نسائيّة يعتبر فعل تجديدٍ في فضاء الثقافة العربية في العقود الأولى من القرن العشرين. وللإنصاف لا بدّ من القول إنّ أوّل محاولة للتعريف بمريانا المراش بعد وفاتها كانت بقلم جرجي نقولا باز في كانون الأول/يناير عام 1919، وذلك في مجلة "الخدر" النسائية لصاحبتها عفيفة صعب. رغم أنّ لبيبة هاشم كانت سطرت تعريفاً مختصراً عن مريانا المراش وهي على قيد الحياة في مجلّتها "فتاة الشرق"، إلا أنّها طلبت من الباحث التاريخي اسكندر المعلوف، بعد وصول خبر وفاتها إلى مصر، كتابة ترجمة عنها لباب "شهيرات النساء" في "فتاة الشرق"، وذلك في حزيران/يونيو عام 1919.
تمرّ السنين وينتصف القرن العشرين، فيحبّر الكيالي تعريفه بمواطنته التي تقاسم معها الانتماء لذات المدينة.
تتميّز مقالة الكيالي في تناولها لمريانا المراش بكونها الأكثر إحاطة بشخصية الرائدة الحلبية، ذلك لأنها تحاول الاقتراب من خصوصية فرديتها في الإطار الثقافي العام الذي تفاعلت معه في صالون دارتها. ولا تغفل المقالة عن عقد وشائج الصلة بينها وبين مثقّفي عصرها كرزق الله حسون (1825-1880)، وفرنسيس فتح الله المراش (1836-1873)، وجبرائيل الدلال (1836-1892)، وقسطاكي الحمصي (1858-1941) من بين آخرين. أما من وجهة النظر النسويّة فالروابط التاريخيّة تعقد بينها وبين وشخصيات نسائية عربية أخرى كعائشة التيمورية (1840-1902) ووردة اليازجي (1838-1924) ووردة الترك (؟-1873)، إضافة لشخصية لاحقة عليها هي مي زيادة (1886-1941) لتوازي الظروف الاجتماعية والنفسية فيما بينهما.
أصدر الباحث والصحفي سامي الكيالي (1898-1972) مجلة "الحديث" في حلب عام 1927، وبقيت تصدر بانتظام حتى عام 1959. وليس بخاف على أحد فرادة هذه المجلة وأهميتها في الدعوة للتجديد الفكري والأدبي والفني، ففيها ظهرت مقالات وقّعتها شخصيات عربية متنوّعة المشارب الحداثيّة كطه حسين، توفيق الحكيم، محمد حسين هيكل، جميل صدقي الزهاوي، اسماعيل مظهر، أحمد زكي أبو شادي، اسماعيل أدهم، سلامة موسى، شفيق جبري، عمر أبو ريشة، أمين الريحاني، سامي الكيالي، رئيف خوري، حميد الانطاكي، إلخ. فكانت "الحديث" بحقّ من أهمّ الدوريات في تاريخ الصحافة السورية في النصف الأول من القرن العشرين إلى جانب "مجلة الرابطة الأدبية" الدمشقيّة التي أصدرتها الجمعية التي تحمل الاسم نفسه عام 1921، وضمّت بين أعضائها شخصيات أدبية وصحفية من مقام شفيق جبري، خليل مردم بك، أحمد شاكر الكرمي، حليم دموس، ماري عجمي، نجيب الريس، سليم الجندي.
على التوالي نترك لقارئ "الأوان" صورة مريانا مرّاش كما أظهرها سامي الكيالي:
مريانا مرّاش (1848-1919)
سامي الكيالي
حين أذكر مريانا مراش أذكر تلك الفترة الغامضة من الحياة الأدبيّة التي عرفتها حلب، والتي كانت تضمّ طائفة من الأعلام في طليعتهم رزق الله حسون، وعبد الرحمن الكواكبي، وجبرائيل الدلال، والشيخ كامل الغزي، وقسطاكي الحمصي وغيرهم من الأعلام، فكانت هواية الأدب تجمع بينهم وتؤلف بين قلوبهم برباط من الود وثيق، فلا يكاد أحدهم، ينظم قصيدة أو يكتب مقالة أو ينشئ مقامة حتى يبحث عن صديق أديب تتجاوب نفسه معه، وكثيراً ما كانوا يلتقون في منازل بعضهم يتناشدون الشعر وينثرون النكات ويتحدثون هذه الأحاديث التي تمس المعدة والمجتمع، فإذا تجاوزت هذه الأحاديث أنباء السياسة كانت الأحاديث مهموسة وفي جو من الخوف والذعر، إذ لم يكن العهد الحميدي الذي نشأوا في ظلاله ليسمح لهم أن يتحدثوا هذه الأحاديث بروح منطلقة.
في تلك الفترة نشأت مريانا مراش.
وكان بيت أبيها من البيوتات العريقة التي لها مشاركة بحياة الفكر والأدب، وكان لأخويها فرانسيس وعبد الله. والأول شاعر طبيب، والثاني تاجر أديب أثرهما غير المنكور في توجيهها نحو حياة الفكر. فبعد أن أتمت دراستها البدائية في مدرسة مار يوسف – وكانت قد دخلت المدرسة المارونية في الخامسة من عمرها – انتقلت إلى المدرسة الأنجيلية في بيروت التي أنشأها الدكتوران إدي وورتبات، فدرست فيهما مبادئ اللغة العربية والحساب وبعض العلوم، وفي الخامسة عشرة من عمرها أخذ أبوها يعلمها الصرف والنحو والعروض، ثم تتلمذت على أخويها اللذين أشربا قلبها حب الأدب، فحفظت في بدء نشأتها الأديبة، الكثير من شعر سلطان العاشقين عمر بن الفارض، وكان شعره الوجدي قد غزا البيوت الحلبية وغير الحلبية فما من بيت إلا وقد حفظ بعض أفراده أكثر قصائد هذا الشاعر المتصوف، ولا أعلل الأسباب بل أروي أطيافاً من واقع تاريخنا القريب. ففي بيتنا نحن كانت عمتي تحفظ ديوان الفارض كله مع أنها امرأة أميّة لا تقرأ ولا تكتب، وحين سألتها كيف أتيح لها حفظ هذه القصائد التي تربو أبياتها على الثلاثة آلاف بيت قالت: كان أبوك يحفظ شعر ابن الفارض في سويعات فراغه، وكنت أنصت إليه باهتمام وأنا ملمومة على نفسي في زاوية البيت، فلا يكاد يتم حفظها حتى أكون قد حفظتها معه، وحين أعيد ترتيلها على مسمع من أذن جدك كان يبارك طفولتنا دون أن يثيره العجب!
ومريانا مراش كغيرها من السيدات الحلبيات ممن حفظن الكثير من شعر ابن الفارض، وكان للشعراء العذريين أثرهم في نفسها، وكما أحبت شعر بن الفارض وأما الغزليين عمر بن أبي ربيعة تعلقت بشعر لامارتين ودي موسيه. كانت ترى في تعبير أولئك الشعراء عن وجدهم وحبهم وشعورهم وأحاسيسهم إثارة لوجدها وحبها وشعورها وأحاسيسها، وهي فتاة في رونق الصبا، فكانت تمر أيام صباها بهذا الجو من الشعر والموسيقى والجمال.
وعرف أدباء تلك الفترة، وهم يترددون على بيت أبيها، ما ينبض به قلب مريانا من حب للأدب، وميل إلى قول الشعر، إلى ولع بالموسيقى، فأحبوا فيها هذه الخصائص، وكانت ملاحتها وسحر جاذبيتها بدأت تجتذبهم، وليس كالأديب إنسان يعشق الجمال ويحترق في سنا أضوائه، فإذا اقترن الجمال بالجاذبية، وكان من جملة عناصره الأدب والشعر والموسيقى والذكاء والانطلاق، كان ذلك مدعاة لأن ترقص النفوس على مباهجه وأضوائه.
نعم، في بيت مريانا مراش كان يجتمع أدباء تلك الفترة، وربما كان بيتها أول صالون أدبي عرف في الشرق العربي، فكانت تعقد الاجتماعات، وتطول السهرات، وتكثر المواجيد والمطارحات.
ففي زاوية من زوايا بيتها كانت تنزّل ربة الإلهام على قريحة أديبنا الكبير قسطاكي الحمصي فيكتب إلى جبرائيل الدلال المقيم في باريس قصيدة يبثه فيها عواطفه ويبلغه شوقه ويحدثه عن معابثات إخوانه ويشير إلى المآكل الحلبية التي تتفنن مريانا في صنعها لهم، وتثير هذه المقطوعة الشعرية قريحة الدلال فيجيبه بقصيدة طويلة يشكره فيها على عواطفه، ويصف شوقه إلى حلب، ويتنكر لأولئك الذين أكل الحسد قلوبهم فلم يعرفوا فضله، ويقايس بين مآكل حلب الدسمة ومآكل باريس الشهية – أي شتى أصناف مآكلها مادة معنى – ثم يمدح صفات مريانا ويشيد بنبوغها والقصيدة طويلة اجتزئ بعض مقاطعها حيث يقول:
حلّ بي نظمكم بأحلى المواقع/ قول لطفٍ ظرف الدعاية جامع
ورغبتم ومن ذكرتم حضوري/ في حماكم، وأن أكون المسارع
وذكرتم لنا ضروباً من الحلوى/ التي تأكلونها بالمرافع
وبها تصنعون أقراص شيبان/ ولو زبنجاً وغير صنائع
ذا طعام إن لذّ فهـو غليظ/ كظة للرغيب غصة بالع
أين هذا مما هنا يصلح الطاهـي/ طعاماً للهضم يصلح نافع
عندنا البحر نجتني أفخر الأسماك/ وتأكلون الضفادع
وهكذا، وبعد أن يمايز الدلال بين دسامة مآكلنا وشهي مآكلهم يرمز إلى فتيات باريس الجميلات، إلى ظرفهنّ ورقتهنّ، إلى سحر قدودهن وعذوبة أحاديثهن ثم يشير إلى غربته التي استعاض عنها بحرية التفكير، ونحن نعلم أن الدلال من شعراء حلب المفكرين تأثر بفولتر وروسو وغيرهما من أحرار الفكر فكتب قصيدته – العرش والهيكل – التي هاجم فيها المشعوذين من رجال الدين والمستبدين من رجال الحكم فأودت به هذه القصيدة الثورية إلى السجن حيث قضى نحبه بين جدرانه الباردة – نعم، استعاض الدلال عن حلب ولياليها وسهراتها ومآكلها بجو باريس المشبع بالحرية فقال:
وإذا لم يكن هنا غير أن الحر/ فيها يعيش دون منازع
فهو يكفي حظاً لقلبي وإن سالت/ على غربتي غروب المدامع
لم تبقّ لي الأرازل بالشهباء/ من مأرب ولا من مطامع
ورغم من ذلك فقد ظلّ حنينه مشبوب الأوار إلى تلك السهرات وإلى أصدقائه الأدباء ، فيخاطب قسطاكي الحمصي بقوله:
لا ولا أشتهي سواكم ولا أرغب/ فيها من بعد تلك الوقائع
غير قرب الفريدة اللطف ذات الصون/ والحسن والذكاء والبدائع
ربة الفضل والفضائل مريانا التي/ ذكرها يسر المسامع
والتي زانها الكمال إذا زان سواها/ الحلي وسدل البراقع
هذه المطارحات الأدبية كانت تدور في ظلال السهرات الماتعة التي تعقد في بيت مريانا مراش، ونحن نعلم أن صالونات الأدب التي ترعاها السيدات المترفات والأديبات الموهوبات هي ملتقى كبار الرجال من أدباء وشعراء ومفكرين، ولن أتحدث عن صالونات الأدب في الغرب، فحسبي الإلماع إلى هذه الصالونات الأدبية في شرقنا العربي – من صالون الأميرة فاطمة إسماعيل الذي كان يضم أعلام مصر من محمد عبده إلى قاسم أمين إلى سعد زغلول إلى غيرهم من الأفذاذ، إلى صالون هدى شعراوي زعيمة الحركة النسائية في الشرق العربي، إلى صالون أديبة العرب الآنسة مي حيث كان يجتمع في صالونها كل يوم ثلاثاء أكابر أدباء العرب وشعراءهم والصفوة المختارة من القضاة والساسة والصحفيين، فكانوا يتباحثون ويستلهمون ميّاً، ولاسيما حين تجلس وراء "بابها" فتسمعهم بعزفها الرائع مقطوعات من موزار وبيتهوفن، وتنشدهم مقطوعات من شعرها الإفرنسي ونثرها العربي فتختلط سحر الموسيقى بسحر شعرها ونثرها وسحر حديثها ونكاتها وكان الأدباء والشعراء والقضاة يرتقبون حلول يوم الثلاثاء – يوم اجتماعهم في صالون ميّ بشوق زائد، وإلى هذا أشار شيخ شعراء مصر إسماعيل صبري باشا، وكان من قضاة مصر البارزين وقد تخلف عن الاجتماع لسفره عن القاهرة فقال:
روحي على دور بعض الحي حائمة/ كظامئ الطير تواقاً إلى الماء
إن لم أمتـع بمـيّ ناظـري غـداً/ أنكرت صبحك يا يوم الثلاثاء
وكانت مريانا مراش أول أديبة عربية فتحت بيتها لاستقبال الأدباء، مع أن العصر الذي عاشت في ظلاله كان عصر تزمت وتقاليد، كما أنها أول أديبة سورية كتبت في الصحف كما روى الفيكونت دي طرازي صاحب كتاب "تاريخ الصحافة العربية" ففي العام 1870 نشرت عدة مقالات في مجلة "الجنان" وفي جريدة "لسان الحال" وفي غيرهما من صحف ومجلات بيروت، فمن مقالاتها مقال عنوانه "جنون القلم" شكت فيه حال انحطاط الكتاب وحرضت على تحسين الإنشاء وترقية الموضوعات والتفنن فيها، وقد أفادت أيما فائدة من اختلاطها بأدباء عصرها، فنهجت نهجهم، وسارت على غرارهم، فنظمت مقطوعات من الشعر الوجدي، ومدحت ورثت، ووصفت وتغزلت(1)، ولم يكن بيتها ملتقى الأدباء والشعراء فحسب بل كان يؤمه رجال الحكم ورجال السلك الأجنبي فمدحت الوالي جميل باشا، ذلك الرجل العمراني الذي كان أول من أسس المدارس المدنية في حلب، من ابتدائية وإعدادية، وكانت حلب محرومة من المدارس المدنية وليس فيها سوى الكتاتيب والمدارس الدينية الإسلامية وبعض مدارس الإرساليات، بل إنه أول من وسع الجادات وافتتح الشوارع وأهمها الشارع الذي يبتدئ من باب الفرج حتى جامع زكي باشا، وهو الذي بنى قصراً لسكنى الولاة وبنى قصراً لسكناه ففي الأرض المعروفة بجنينة بيت الناقوس آنئذ لذلك سمي شارع الجميلية باسمه، أقول أن مريانا مراش قد مدحت جميل باشا هذا، كما مدحت بعض رجال السلك السياسي الذين كانوا يترددون على صالونها الأدبي، مدحت السيد أيوانوف قنصل روسية وأشادت بصفاته إشادة عالية، فما قالته مرحبة:
بزغت شموس السعد بالشهبـاء/ فجلت لياليها من الظلماء
قشعت غيوم الضيم عنها فانجلت/ كعروسة تزري ببدر سماء
وغدت بها السكان تمرح بالهنـا/ وتجر ذيل مسرة وصفـاء
وكأنما مريانا مراش كانت تنظر إلى المستقبل البعيد بحدسها الباطني حين عبرت عن سرور الجماهير التي تصفق اليوم لموقف الروس من العرب- موقفهم إلى جانبنا ضد المطامع الاستعمارية التي تكشر عن أنيابها لابتلاع سورية، وجعلها لقمة سائغة بأفواه جيران من الشمال وأعداء من الجنوب !/2017/01/arton7710.jpg