إيناس يونس ثابت - اليمن
الفرح حكاية لا تنتهي
مسكين أيها الفرح، لا مكان لك في قلوب الفتيات المخضبات بالجمال الهائمات في نزف القصائد، ولا في لحن الأغاني أو حديث العابرين وقصص الغرباء. وكلما طرقت قلبا تسارع الحزن ينهال منه ولو فتحت كتابا رأيته يضطجع بين أوراقه ويلمع فوق أحرفه وكأننا لا نطلق البسمات بل ننام على وثير الدمع وزفرة الصدر كل ليلة، ونحيا على وزن واجمين واجمين واجمات واجمات.
الذنب ليس ذنبك يا عزيزي، الذنب ذنب أقوال ادّعت أنك وهم لا يدوم وأن الحزن مفتاح بوابة الصبر والصبر ممر للجنان، أغرقوا أنفسهم في الحزن وحفظ أدق تفاصيله حتى الصغيرة لتصبح لهم ذكريات ورمزا للحياة، وعبروك كلمح البصر ونسوك كأنك لم تكن.جهلوا أنك أقصر طرق الجنان، فالأتقياء يفرحون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
إن نفسا لم تذق طعم الفرح هي نفس ميتة، فالفرح حكاية لا تنتهي طالما النفس على قيد الحياة والأمل، فهو ينبوع يتفجر من القلب بلا نهاية أو حدود، يروي جنبات النفس ويمنحها وقودا للأيام، هو زائر بلا ميعاد في أي عمر وأي درب شاء.
فيا أيها الفرح سأكون لك وفية وأروي ثماني حكايات لي معك، فلتحي أيها الفرح وابق معنا.
الحكاية الأولى
في عيد ميلادي التاسع أهدتني أسرتي فستانا بلون الأحلام وحذاءين زهريين صغيرين، ذبت فرحا وارتديت الفستان وانتعلت الحذاء فنما جناحان على ظهري، حلقت في مرح وطرت أعلى من عربة سندريلا.
رأيت النجمات الفضية تكتسي ثوبها من صبغة أمي ومن أطراف ثوبي والقمر أطلّ من وراء الغيم في شكل هلال يرتدي ثوبا من توت وعنب، و قصر زهري كبير مد يديه نحوي يناديني وأنا الأميرة أختال بفستاني بلا منافس.
وأخيرا حصلت على الثوب الذي أريد، لا طفلة أسعد مني فلم ينقصني سوى زهرة على رأسي، لا، بل أنا زهرة وثوبي شجرة أزهار.
فكرت في إضاعة فردة من حذائي، فإن أضعت واحدة أترى يأتي الأمير ليلبسني إياها؟
حدق في الهلال بعجب وأنا أفكر ثم سأل في غيرة:من منا أجمل يا فتاة؟
أجبت:أنا يا سيد هلال.
الحكاية الثانية
في المدرسة كنت سعيدة إذ كنت محط أنظار التلميذات فسعين إلى تقليدي، وسعدت أكثر بانضمامي لمجموعة بارزة شقية.فيا لهنائنا حين نخربش على سبورة الفصل قبل دخول المعلمة فتثور غضبا وتجهل الفاعل.
وحين نهرب من الفصل مرارا، وهذه مغامرة شيقة تفوق مغامرة القراصنة العظيمة، ينظر لأصحابها نظرة شجاعة وإكبار، وحين أخبئ الحلوى في درج طاولتي المدرسية، آكلها سرا، أقرمشها وأتعمد إصدار صوت حتى إذ التفتت المعلمة نحوي تظاهرت عيناي بالبراءة.
وحين أفوز بنيشان نجمة على صدري، في المدرسة كان فرحي لقاء وضحكة الأصحاب.
الحكاية الثالثة
ذات ليلة تساءلت من أكون؟ حاولت اكتشاف ذاتي وسبر أغوار نفسي ومعرفة قواي وما يختبئ في بئر نفسي العميقة.رميت دلوا لأعماقي وحين رفعته وصار بين يديّ رأيت نجمة، نجمة وهاجة براقة لا تأفل، كالنار والنور معا.رعيتها وكبرتها، وكلما كبرت كانت فرحتي معها تكبر.
الحكاية الرابعة
فخورة بفستاني الطفولي الأحمر ولفائف شعري في أول يوم جامعي لي.سقطت كتبي من يدي على السلم، انتابني حرج وجموع الناس في غدو ورواح، دنوت أرضا أجمع كتبي فهبت نسيم طيبة وامتدت يد شاب تساعدني، احمرت وجنتاي ولم أرفع عيني لأرى عينيه.
حدثت نفسي وأنا أمدّ لساني كطفلة ناسية مكاني:"يا لحظي الطيب"، سمعت منه ضحكة صغيرة، أحرجت أكثر ونهضت بسرعة، نظرت لعينيه فسقطت، سقطت درجةدرجة، تطايرت كتبي من جديد.
مدّ يده يساعدني على النهوض، تجاوزتها بكبرياء مصطنع، نفضت ثوبي ويديّ، ناولني منديلا لأمسح كتبي، نسيت نفسي ثانية وأغمضت عينيّ أشم المنديل بنفس عميق حتى ارتفعت ووقفت على أطراف أصابعي:"أمم".ثم فتحت عينيّ.ضحك بشدة، فخجلت أكثر وهربت.
بعد عامين قال لي إن "أمم" هذه أوقعته فيّ حبا، فكانت فرحتي.
الحكاية الخامسة
رأيت بالأمس عينيك القادمتين من السماء فصنعت لأجلك أجمل ليلة، أنا وأنت وثالثنا القمر. أتذكر الآن قول رفيقة لي:"إذا التقيت به فأحبيه كما لم تحبي من قبل، كوني له نهارا كشجرة زيزفون واعتكفي مساء للتغريد له".
جلست على الكرسي أسند ظهري للوراء ليداعبك الهواء، أشعلت الشموع فوق سطح الماء وصوت فيروز يدوي في فضائنا، وضعت مشابك ذهبية في شعري لأكون في عينيك الأجمل، أطعمك براحة يدي قبلة ومن فمي دعاء.
وأحضرت لأجلك كتابا، فهل تسمح أن أعرفك بأبطال الكتاب؟ سأعرفك، هذا غزال جميل كعقلك، وهذا حصان أصيل كطبعك، وهذا أرنب ناعم كخدك وعلى خديك غمازتان تقتلاني.
مررت يدي على بطني الكبيرة المستديرة وأقسمت لك: "وحدك حتى تكبر فرحتي".
الحكاية السادسة
كان العمر أخضر والقلب أنضر والفرح يسكن قلبي إلا أن عمقه فارغ، كان الكون يدعوني إليك ولم أنتبه رغم إيماني بك، أنا التي أعرفك مذ كنت ترابا، فالإيمان خفي والحب خفي أيضا لا تراه العين بل البصيرة، وأصدق الحب ما تجاوز زخرف المادة وتوغل إلى روحها.
ناديتني بحب، أنت المتفرد في عليائك ولا حاجة لك بالحب مني، فأدنيتني منك وأفضت في كرمك، فأدركت لطائفك حتى أصغر ذرة في الكون.
أضأت وحدة مختبئة فيّ، فخط سطر نور من قلبي إلى أعلى نقطة في السماء مستجيبا لندائك وهلّ غيث محبة وجمال ينسكب في صدري فأورقت حتى آخر أعماقي حبا وغابات فرح.
الحكاية السابعة
مات قريب لي بمرض عضال، قالت لي صديقة حينها:"ها قد بلغنا الأربعين وودعنا عهد الصبا والفرح والأحلام".
صدقتها وظننت أن الأحلام ستنقضي وفرحتي بمطلع الشمس ستؤول إلى الزوال، سأودع عهد الراحة وأبدأ بزيارة الأطباء وسماع أنباء الرحيل، وبعد أن كان حلمي بيتا دافئا فوق السحاب سأنتظر بيتا صغيرا في باطن الأرض اكتفي فيه بدعوة الأحباب.
ظننت الهمّ وحده سيزورني يؤرقني بشبح الغياب والتفكير في حال الأبناء والأصحاب بعدي، فمن أين ستأتي المسرة؟
ظننت كثيرا والظنون آثام، فلا زال في العمر متسع للفرح وقراءة كتاب وزيارة أوطان عزيزة والغوص في الفنون والموسيقى والآداب.الفرح في عقلي ولساني سيظهر فعمر الأربعين حكمة الأنبياء.
الحكاية الثامنة
دمعت عيناي وعيون السماء مساء، فأسرّت لي نفسي: عيشي مع الحزن كأنه يموت غدا وامكثي مع الفرح كأنه يعيش أبدا.