نحن نعيش في عالمٍ يُعاني من عدم تأقلمه مع التغير السريع في عالم التكنولوجيا، والتي أصابتنا بما يسمى اليوم بالـ infobesity أو بتعبيرٍ أصح إنتاجنا لمعلوماتٍ أكبر بكثيرٍ مما نستطيع التعامل معه وبتسارعٍ مُضطرد، مما فتح المجال أمام الكثير من الناس للوصول إلى المعلومات وتغيير مواقفهم. باختصار، أتكلم هنا عن بزوغ نجم الإلحاد والتزايد المُتسارع لتحوّل الشباب إليه بعيدًا عن أديانهم، ممّا دفع أنصار الأديان إلى الخوض في مفاهيمٍ ودفاعاتٍ لم تكن موجودةً من ذي قبل، ولم تُذكر في الفلسفة القديمة أو أصول المُحاججات الفاسدة، ومنها أخصّ بالذّكر مُحاججةً واجهتني عدّة مراتٍ خلال محاوراتي مع المدافعين عن الأديان وأطلقت عليها اسم “محاججة المفجر الانتحاري”. [size=44][size=44]محاججة[/size] [size=44]المفجر[/size] [size=44]الانتحاري[/size][/size]
تعتمد هذه المحاججة كليًا على استخدام نزاهة الموقف العلمي وتواضعه أمام ما يجهل ضده، متجاهلةً أو جاهلةً بالمبادئ التي يقوم عليها المنهج العلمي تمامًا، ليس بهدف إقناع الخصم بموقف المحاجج بل بهدف الوصول إلى أنه فقط مخطئٌ دون الوصول إلى أيّة نتيجةٍ كنوعٍ من الانتصار الدونكيشوتي وهي تقوم على الشكل التالي :
تبدأ بسؤال الطرف الآخر (المتبني للمنهج العلمي) عن مدى يقينه من الواقع على شكل : “هل أنت متأكدٌ أنك لا يمكن أن تكون مخطئًا حول ما تعتقده عن الوجود؟”
هنا على الإنسان النزيه والصادق مع نفسه أن يقول بصدق: نعم يمكن أن أكون مخطئًا، فنحن لا يمكننا الجزم بشيءٍ إذا ما كنا نتكلم بشكلٍ علمي. وهنا يقوم المحاجج بتحويل (لا نستطيع الجزم) إلى (نحن لا نعرف شيئًا) وتكون نتيجة المحاججة كالتالي:
– لا يمكننا التأكد من وجودنا أو وجود أيّ شيءٍ بشكلٍ مؤكد، فكل شيءٍ يمكن أن يكون وهمًا أو خطأً حتى الواقع والوجود، وعليه فإنّ موقفك (من الدّين أو الإله أو غيره) هو موقفٌ خاطئٌ لأنك لا يمكن أن تكون متأكدًا منه.
قد يبدو للوهلة الأولى أن في المحاججة شيءٌ من الحقيقة، وأنها مقنعةٌ بالفعل، إذا كنا لا نستطيع تأكيد وجودنا فما المانع من أن يكون كل شيءٍ مجرّد وهمٍ أو حلمٍ أو شيءٍ لا نستطيع حتى تخيله؟ وأنّ كل ما نعرّفه على أنه واقعٌ هو لا شيء؟ وبالتالي لا نستطيع الحديث عن الحقيقة إلا من باب التعصب الأعمى أو الغرور.
لقد سمّيت هذه المحاججة باسم (محاججة المفجر الانتحاري) كونها تنسف “ظاهريًا فقط ” محاججة الخصم، كما أنها بنفس الوقت تنسف أيّة محاججةٍ أو موقفٍ يقدّمها مقدّم المحاججة، فهي عندما تنفي الواقع فإنها تنفي كل شيءٍ ناتجٍ عن هذا الواقع بما في ذالك المفاهيم والافتراضات الدينيّة التي يتبناها مقدّم المحاججة.
ولكن عليكم أن تدركوا أنّ هذه النتيجة ظاهريةٌ فقط بسبب تجاهل الأسس التي يُبنى عليها المنهج العلمي والتي لا تقلّل من قيمته وسأقوم بشرح لماذا.
ما يجهله الكثيرون أن المنهج العلمي يقوم على ثلاث افتراضاتٍ أساسيةٍ، وهي افتراضاتٌ غير قابلةٍ للاختبار أو التأكيد، وهي كالتالي:
افتراض أنّ الكون أو الوجود موجود.
افتراض أننا نستطيع اكتساب معرفةٍ عن هذا الكون والوجود وتكوين صورةٍ عقليَّة له.
أنّ الصورة العقليّة التي لها قدرةٌ تنبؤيّة أفضل من الصورة العقليّة التي ليس لها قدراتٍ تنبؤيّة.
هذه الافتراضات الثلاث التي لا يمكن اختبارها أو التأكد منها تجريبيًا، هي أساس المنهج العلمي كله وهي مصدر تواضع ونزاهة من يتبنى المنهج العلمي. ومما يستحق التنويه له هو أنّ لديها أقل قدرٍ ممكن من الافتراضات الممكن تبنّيها بدون الوقوع في تناقضاتٍ داخليّة.
[size=44][size=44]الصورة[/size] [size=44]العقليّة[/size] [size=44]للواقع[/size] [size=44]والواقع[/size][/size]
قد يتساءل أحدكم، وماذا تعني بالصورة العقليّة للواقع؟ وهل تختلف عن الواقع؟ هنا أقول أننا ككائناتٍ عاقلةٍ لا نتعامل مع الواقع بشكلٍ مباشر، بل نقوم ببناء صورةٍ عقليّةٍ أو (موديل) للوجود في عقلنا ومن ثم نتعامل معها.
عندما ننظر إلى جسمٍ ما (ولنقل أنها كرة)، نحن لا نتعامل عقليًا مع الكرة بل نتعامل مع الصورة الموجودة في عقلنا عن الكرة من مفاهيم وأفكار وصور، وكلما كانت الصورة العقليّة مطابقةً للواقع كلما كانت ذات قدرةٍ تنبؤيّةٍ أكبر. عمليًا لا يمكن للصورة العقليّة أن تكون مطابقةً 100% للواقع. ففي المثال السابق، لا يمكن أن تكون الكرة واقعيًا كرةً مُطلَّقة كما في الصورة العقليّة لها، لأننا هنا نهمل أن الذرات المكونة لها كنقاط سيكون بينها زوايا، وبالتالي تنتفي الكرويّة على المقياس الذري، ولكن الصورة العقليّة قريبةٌ جدًا من الواقع لدرجة أنها تؤخذ على أنها حقيقةٌ تجاوزًا. ومن هنا نميز أهميّة الافتراض الثالث، حيث أننا لا نتعامل مع حقائق عقليًا بل مع صورٍ لهذا الواقع في عقولنا وبالتالي أقرب هذه الصور إلى الواقع هي أصلحها، ولا يوجد طريقةٌ أخرى لاختبار تقارب الصورة مع الواقع أفضل من اختبار الصورة تنبؤيًا.
عندما وُضع أول تصورٍ لجزيء الـ DNA عام 1953 على يد جيمس واتسون وفرانسيس كريك وموريس ولكنز، لم تكن نظريتهم مبنيّةً على ملاحظةٍ أو قياسٍ مُباشر، بل عن طريق اختبار الصورة أو الموديل. اليوم استطعنا بواسطة المجاهر الالكترونيّة الدقيقة من تصوير ورؤية هذا الجزيء الخلّاب، ولكن عندما وُضعت النظريّة وُضعت على شكل تصوّر، ومن ثم تمّ اختبار هذا التصوّر ومدى تطابقه مع الواقع عن طريق وضع تنبّؤاتٍ، إن صحّت أثناء التجربة فإنها تثبت الصورة النظريّة أو الموديل الذي وضعوه.
نستطيع قول المثل بالنسبة للصورة الذريّة أو الموديل الذري الذي وضعه الفيزيائي نيلز بور عام 1913 والذي يُعرف اليوم بموديل بور الذري، حيث أنه عندما تم تقديمه لم يكن باستطاعة أحدٍ مشاهدة الذرة أو قياسها، ولكن لأنّ طريقة المنهج العلمي غير محدودةٍ فقط بحواسنا الخمس نستطيع رسم صورةٍ للواقع ومن ثم اختبار مدى قدراتها التنبؤيّة وبالتالي اختبار الصورة أو الموديل، فالتي يكون لها قدراتٍ تنبؤيّةٍ أكبر نتبنّاها كحقيقةٍ وصورةٍ أكثر تطابقًا مع الواقع.
ومن هنا نأتي بالافتراض الثالث الذي يقول بأنّ الصورة العقليّة التي لها قدرةٌ تنبؤيّة أفضل من الصورة العقليّة التي ليس لها قدراتٍ تنبؤيّة.
إذن أين نحن من هذا كله وكيف يمكننا القبول بنمهجٍ قائمٍ على افتراضات؟
الجواب هو أنك لا يمكن أن تعيش حياةً إدراكيَّةً بدون وضع الافتراضات، الافتراضات هي الطريقة التي نستخدمها لرسم الصورة العقليّة التي نستخدمها في إدراكنا للوجود، ولكن هذا لا يعني أننا نستطيع افتراض ما نشاء وقتما نشاء وعلينا أن نحرص على أن يكون لدينا أقل قدرٍ ممكنٍ من الافتراضات والمتمثلة بالثلاثة المذكورة أعلاه.
الغريب أن المدافعين عن الموقف الديني يجدون أن وجود هذه الافتراضات يطعن في قيمة المنهج العلمي، متناسين أن كل ما لديهم هو افتراضات إضافيّة غير مبررةٍ وغير ذات قدرةٍ تنبؤيّةٍ تعتمد أساسًا على هذه الافتراضات الثلاث، بل والأغرب أنهم يُظهرون غرورًا كبيرًا في التعامل مع افتراضاتهم ويصفونها بأنها حقائق مُطلَّقة. هم يعرفون أن الله موجودٌ، ويعرفون بالتأكيد أن دينهم هو الدين الصحيح، ولا يمكن أبدًا أبدًا أن يكونوا مخطئين أو حتى يعترفوا بإمكانيّة قدرتهم على الخطأ. وبعد ذلك يأتي هؤلاء أنفسهم ليكلّمونا عن النزاهة والأخلاقيّة في طرح المعلومات.
وهنا أسأل، متى قدّمت أيّة ادّعائاتٍ أو افتراضاتٍ غيبيّة أو دينيّة أيّة قدرةٍ تنبؤيّة أو نجحت في تأكيد نفسها تجريبيًا؟
وهل نحن بحاجةٍ لوضع افتراضاتٍ أساسيةٍ جديدةٍ لا مبرر لوجودها ولا تخدم أيّة ضرورة؟
هل قدّم التفكير الغيبي والديني أي شيءٍ مقابل ما قدمه المنهج العلمي من حضارةٍ وتكنولوجيا ومعارف؟
المنهج العلمي يدرك أنّ التبني لهذه الافتراضات الثلاث الأساسيّة دون القدرة على التأكد منها تجريبيًا هو نقطةٌ سوداء ضروريةٌ نوعًا ما. وأعتقد أنّ كل المتبنّين للمنهج العلمي يجب أن يصلوا إلى السلام والتقبل بما يخصّ تبنّي هذه الافتراضات لأنه بدون افتراضها لن يكون هناك علمٌ أو وجودٌ أو إدراك، لن يكون هناك شيء، وسنهيم في وجودٍ لسنا حتى متأكدين من وجوده ودون إمكانيةٍ لوجود العلم والمعرفة. وبرأيي، أن إدراك هذا الواقع هو الذي يمنح العلم نزاهته وتواضعه ودون تبنيهٍ للمطلقيات في الأحكام.