مع اشتراك عموم البشر في جملة من الأشياء والحالات المسببة للخوف الغريزي
إلا أنهم يتمايزون أحياناً بأنواع مختلفة وطريفة من الخوف وبشكل مبالغ فيه
من أشياء نفترض نحن البشر الأسوياء أنها لا تخيف مثل فوبيا الصراصير،
القطط، الخفافيش، الأزرار، الفراشات، الجاذبية، الدجاج، النجوم، القمر،
الموز، الرقص، البالونات وسواها بصورة هستيرية لا يحتمل معها أن يفكر فيها
أو يسمع باسمها أو يحدق إلى صورها في كتاب.
ومع أن الخوف شعور إنساني طبيعي إزاء طارئ معجز تصعب معالجته فإنه معرض
إلى أن يصبح حالة مرضية تستوجب المعالجة إذا وصل بالإنسان إلى درجة تعوقه
عن ممارسة نشاطه اليومي بصورة معتادة وتدفعه إلى سلوكيات لا تتوافق مع كم
ونوع الأفعال التي يواجه بها. وهو شعور مادام فردياً فإذا تجاوز الفرد إلى
المجتمع تحول إلى ظاهرة لها عندئذٍ مسمى جديد هو "ثقافة الخوف" يتم تعريفها
في الأدب السياسي كثقافة بدائية بائسة تؤسس وتعلل وتؤطر شكلاً خرافياً من
الخوف يتملك المحكوم تجاه الحاكم وتبرر عجز المحكوم المطلق ليس فقط عن
إبداء رأيه على الملأ ولكن على عائلته أو أقرب مقربيه بل قد يمتنع، عند
تشبعه بهذه الثقافة إلى حدودها القصوى، عن التهجس برأي والتفكير فيه أو
استحضاره ذهنياً في اليقظة أو المنام خشية أن تجري محاسبته على ذلك عند
اشتهاره بالقتل أو السجن أو التشريد كما هو الأمر في كثير من دول الاستبداد
العربي المحكومة بأيديولوجيات راديكالية جعلت من ثقافة الخوف سقفاً واطئاً
ينيخ بظله الثقيل على مجاميع هائلة من البشر – في طور التحول إلى مواطنين
- ينمو هذا الشعور في داخلها كخلية سرطانية نشطة ويتناقله أفرادها بالتجربة
الشخصية أو العدوى كضريبة للانصهار الإلزامي داخل أتون الدولة بمفهومها
الشرقي.
يقودنا هذا التعريف بالضرورة إلى تخيل سلطة مادية فاعلة تستمد من وهم
التعاقد الاجتماعي المزدوج – المنقوض عملياً – نوعاً من القدرة المكتسبة
على الأفراد كل على حدة، وهذا الاستفراد بالضبط هو ما يجب أن نضع تحته أكثر
من خط لأنه جوهري ومرشّح لأن يتحول من مدماك في جدار الخوف إلى ثغرة فيه
بمجرد أن يجري التنبيه إليه ومحاولة تجاوزه، فعلى الجانب السياسي تقف
الدولة – الممثلة في النظام الممثل في الحزب الممثل في الحاكم - بكل
جبروتها وأذرعها القانونية واللا قانونية في مواجهة مواطنٍ عاجز، عليه من
الواجبات أضعاف ما له من الحقوق، يتم تجهيله وتجاهله باستراتيجية ممنهجة
،تقوم في ركنها الأول على تثبيت كينونته كفرد لا يمثل سوى نفسه، وعزله ما
أمكن ليس فقط عما يحدث خارج أسوار الحدود الوطنية، ولكن عزله عن أقرانه في
الداخل للحيلولة دون إنشاء أية تجمعات أو روابط أو أحزاب مختلفة سواء على
الأرض أو ضمن عوالم الشبكة العنكبوتية. وعلى الجانب الروحي يقف اللاهوت بكل
عظمته وتعاليه إزاء مؤمن خاطئ أو حمّال أزلي للخطيئة الأولى يطالبه بهجر
مغريات الحياة والاستغفار ليل نهار والتمسكن والتخشع وتعليق قلبه بالجامع
وعقله بالماضي الإسلامي المجيد لهدف واحد هو إخراجه من الحاضر وترحيل نفسه
إلى الآخرة قبل جسده، بينما يتكفل المجتمع – المدفوع إلى التخلف دفعاً -
بما له من قوة ضغط بردع أي فرد يقارب حواف العرف والمألوف والمتوارث مما قد
يكون متداخلاً مع الدين والسياسة أو متخارجاً معهما.
تخللت ثقافة الخوف مفاصل الدولة الإسلامية منذ نشأتها فانتشرت أو انحسرت
تبعاً لسطوة الخليفة أو ضعفه، حتى وصل الأمر بأحد أولئك الخلائف البغاة أن
توعد رعيته : "والله لا يأمرني أحدكم بعد مجلسي هذا بتقوى الله إلا ضربت
عنقه" وقبل ذلك بلغ الضعف بأحد أكابر الفقهاء أن قال إذ سئل عن رأيه في
تولية يزيد بن معاوية : "أخاف الله إن كذبت وأخافكم إن صدقت"، وقبل هذا
وذاك قال نبي الإسلام فيما يشبه نبوءة تاريخية حية: "من رأى منكم منكراً
فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فقلبه وهو أضعف الإيمان"
فرسم لمقاومة المنكر مساراً واضحاً ومنطقياً، يتدرج بالإيمان من أقواه إلى
أضعفه، وبالفعل من ماديته إلى معنويته، تناسباً طردياً مع ازدياد شعور
الخوف أو نقصانه داخل قلب المؤمن بدءًا من اليد التي قد تعني المقاومة
العنفية المسلحة فاللسان – والقلم أحد اللسانين – الذي قد يعني الترويج
والإثارة والتحريض على الفعل، فالقلب حيث محل السر ومعقد النية وحيث لا فم
ينطق ولا أذن تسمع ولا يضر المنكر عندئذٍ فتيلاً إلا كما يضر عود الكبريت
في علبته بزيوان الحقل المتنامي.
ومع تراث رائع كالذي ورثناه عن خلفاء المسلمين الوارثين المورثين ثم عن
آخر إمبراطورية مسلمة اثخنتنا بالفرمانات والسفر برلك والبصاصين والخوازيق،
ليس من المنتظر أن تفارق الصورة البغيضة للدولة الذاكرة الشعبية باعتبارها
أحد تجليات النظام السياسي الحاكم لا الإطار الذي يحيط به، وليس من
المأمول أن تقع معجزة تنتقل بشعوبنا من حضيض الاستبداد إلى علياء
الديمقراطية.
ما حدث لاحقاً في التاريخ العربي المعاصر هو أن الشعوب قد تفتّت إلى أفراد
لم تعد تملك، لطول العهد بحالة السكون، الرغبة ولا القدرة في المقاومة
الواعية أو الفاعلة لثقافة الخوف أو التصدي لها من واقع التغول السلطوي
المباشر والممارس عليها أولاً، والدوران في عجلة المعاش اليومي ثانياً،
والجهالة المخزية التي تسود أوساطها ثالثاً، مصورة لها أن الحياة أنصبة
مقدرة وأن الدنيا مقامات متفاوتة وأن لله ميزانين واحد لأبناء الذوات وآخر
لأبناء الخادمات، وكنتيجة طبيعية لهذه الجهالة اندغمت في ذهن جهلة العوام
مصطلحات متباينة، كالدولة والحكومة والحزب الحاكم والرئيس ورجل الأمن وشرطي
المرور، بشكل فاقم من شعور العامي بالوحدة والضعف والعجز في مواجهة كتلة
متماسكة متراصة ومتفوقة لا تكاد تملك من مقومات الدولة الحقيقية سوى القوة
الفيزيائية العارية.
هكذا نمت شجرة الخوف وهكذا طرحت أنضج ثمارها وهي "قتل روح المبادرة "
الفردية منها والجماعية، فأما الجماعية – وقلما تتاح بسبب التخلل الأمني
الهائل – فتجابه عادةً على أنها تحرك غير محسوب لشراذم ضالة (خونة، مخربين،
جرذان، إرهابيين، عملاء، مهلوسين..) خرجت على الإجماع الشعبي العارم الذي
يسبح بحمد القائد، وعلى وليّ النعم إعادتها إلى جادة الصواب بالأسلوب الذي
يراه مناسباً – غالباً العنف –، أما الفردية فالسجن أو الاغتيال أو النفي
هي الثالوث الذي ينتظر شاربي حليب السباع من باب أن أية مبادرة فردية في
مجتمعات وحدوية ووحدانية ومتوحدة كمجتمعاتنا إنما تحمل في داخلها نوازع
الاختلاف (الفتنة، البدعة، الانشقاق ..) وليس في الكون كله أمة تكره
الاختلاف كما نكرهه نحن ولنا تاريخ طويل من الحكم الواحد والرأي الواحد
والعقيدة الواحدة يشهد بذلك، وإذا كانت أمم العرق الأصفر متشابهة شكلاً
وصورةً كما يخيل إلينا دائماً، فإننا أمة متشابهة فكراً وثقافة وسلوكاً إلى
درجة مضحكة (مسيرات مليونية مؤيدة، إجماع برلماني تام، أمة بأسرها
بأيديولوجية واحدة، نسب انتخابية خرافية 99 % ، صحف لا تختلف سوى في
أسمائها..) فيغدو المختلف، والحال هذه، متهماً والمبادر مغامراً.
من شأن ثقافة الخوف أن تحول الشعوب إلى ركام من الغنم المتدرع بعضه ببعض
لا تدفعهم أشد ظروف الاضطهاد إلى التمرد على الحاكم / الراعي أو الخروج على
رأي يراه، وإذا حدث ونشأت فيهم بذرة المخالفة أو الاعتراض لسبب من الأسباب
فلن ترى فيهم مع ذلك من يجرؤ على اتخاذ المبادرة وتعريض نفسه للخطر دون
البقية طلباً للسلامة وحرصاً على القليل الذي في اليد فيكون شأنهم عندئذٍ
كشأن مجموعة الفئران التي اتفقت على تعليق الجرس برقبة القط واختلفت حول من
سيعلق هذا الجرس ومن هو رأس الحربة الفدائي الذي سيتلفظ بالجملة القاتلة :
" الفيل يا ملك الزمان" ثم من الذي سيمنحه حصاناً يفر عليه إن هو قالها ؟!
في الدولة المستبدة يكون المواطن نتاج تربية النظام لا المجتمع، حتى ينحدر
مواطن الدولة المستبدة في نهاية الأمر إلى درك تفضيل السلامة على الكرامة
ويصل به الأمر لو أن شرطياً بميكروفون وقف في جمهرة من المواطنين منزوعي
الكرامة وأخذ في شتمهم وتوبيخهم بأقذع ما في قاموسه الشتائمي والتحقيري
الاستخباراتي من ألفاظ نابية لما رأيت رأساً ترتفع ولا ودجاً ينتفخ ولا
شنباً يهتزّ، ولو دخلت ضمير أي واحد من هؤلاء لسمعت صوتاً خافتاً خائفاً
(حوالينا ولا علينا) وآخر هامساً (لماذا أنا وليس غيري ؟) وثالثا مغمغماً
(اليد التي لا تطيق كسرها قبّلها) ورابعا مناجياً (ألف عين تبكي ولا عين
أمّي) .
ولو أن اصغر رجل أمن في دولة استبدادية خطب على خطبة واشترى على شروة
وخالف أعراف المجتمع وتجاوز على قوانين المرور لما وجدت من يقول له أخطأت
فارجع ولو أن محققاً في مخفر أمر مواطناً منزوع الكرامة أن يجلد أباه أو
يشهد اغتصاب أخته أو تعرية أمه لما استطاع المواطن مخالفة أو عصياناً.
ألا تذكرنا هذه الأحوال بما رواه ابن الأثير في أحداث السنة الثامنة
والعشرين بعد الستمائة عن بعض ما وقع أثناء حملات التتار على المدن
الإسلامية فيقول:
(كان التتري يدخل القرية بمفرده، وبها الجمع الكثير من الناس فيبدأ بقتلهم
واحداً تلو الآخر، ولا يتجاسر أحد المسلمين أن يرفع يده نحو الفارس بهجوم
أو بدفاع…!! وأخذ تتري رجلاً من المسلمين، ولم يكن مع التتري ما يقتله به،
فقال له : ضع رأسك على الأرض ولا تبرح، فوضع رأسه على الأرض، ومضى التتري
فأحضر سيفاً ثم قتله!!..)
أما الطبقة المثقفة في ظل النظام المستبد– وهي الأقل عدداً وعدةً – فتفرز
عادةً ثلاث شرائح: شريحة سجناء الرأي التي تموت دون رأيها في سجون
الاستبداد أو تخرج منها إلى المشفى فالقبر، وهؤلاء لن تجد من يتذكرهم أو
يذكرهم أو يفكر في زيارتهم. وشريحة أبواق السلطة التي تأكل من خبز السلطان
فتضرب بسيفه، وهؤلاء عادةً ما يكونون مسؤولين عن المنابر الإعلامية في
البلاد. وشريحة ثالثة أكبر منهما نسبياً تجعل من محاربة ثقافة الخوف
استراتيجية هادئة بعيدة المدى، وهذه الشريحة تنوس بين خياري الجبن والتهور
متجنبة قدر استطاعتها الانزلاق إلى صفوف إحدى الشريحتين السابقتين.
وبالطبع فإن سلطة مستبدة قاهرة تملك سلاحي الترغيب والترهيب لا يعجزها
شراء الذمم مهما ارتفع ثمنها، خاصة إذا شاور المثقف المتردد شيطانه فأشار
عليه هذا أن القفز من مركب الشعب إلى مركب السلطان ليس خيانة للشعب ولا
للضمير ولكنه خلاص من ويلات الفقر وذل الحاجة في سبيل أناس لا يقدّرون
قيمته ولا يعبأون بوقوفه إلى جانبهم بل لا يهتمون لأمره إذا قتل أو سجن.
في الدولة المتحضرة لا يخيف الوجه العقابي للقانون سوى المخالفين
والمذنبين، بل حتى هؤلاء لحظة وقوعهم في قبضة العدالة لا يعدمون من يتلو
عليهم حقوقهم القانونية كاملةً منبهاً إياهم إلى حقهم في التزام الصمت
بانتظار محاميهم الخاص في حين أن مواطن دولة الخوف التي لا تملك دستوراً
ولا قانوناً – محترماً – يخاف، وهو المسالم البريء، من كل شيء وأي شيء فأي
رجل أمن قد يجره من ناصيته دون سبب واضح وأية طرقة على الباب قد تكون
إيذاناً بحضور عسس السلطان وجلاوزته.
آخر ما قرأت – وهو في الحقيقة أطرف ما قرأت في هذا الشأن – في كتاب يعرض
سيرة مختصرة للشاعر الكردي "ملا أحمد بالو" يقول المؤلف حرفياً: (قبل أن
يدخل بالو في العقد الأخير من عمره تعرض لحادثة مؤلمة أخرى حيث كان في حجرة
يطبع شعره على الآلة الكاتبة فطرق عليه جاره "حج يحيى" فظنّ بالو أن دورية
أمن قد فاجأته فاضطرب وصدم صدمةً أفقدته ذاكرته…) ص33
وفي تحليل أولي لهذه الحادثة المضحكة المبكية ألا يمكن تأويل فقدان
الذاكرة الفجائي هذا على أنه رد فعل انعكاسي سعى العقل الباطن من ورائه إلى
إعدام صورة الفعل المخالف لإرادة النظام ومحوها كلياً من تلافيف الذاكرة
ثم إرسال هذا الأمر إلى العقل الواعي حتى يتبناه قاصداً من هذا الفعل
الدفاعي صون الكرامة من الإراقة وحماية الجسم من التعذيب المتوقع .
الاستبداد مرض خبيث يبدأ بعضو ثم ينتشر في باقي الأعضاء ولكن مثلما تنخر
ثقافة الخوف عظام المجتمع، وهو الشجرة التي يستظل بها الأفراد، فإنها تنخر
كذلك بنية نظام الدولة التي يستظل بها المستبد والنتيجة المؤسفة أنه حين
يتغلب المواطنون على وهم الفردانية ويسقط النظام الاستبدادي لا يقتصر الأمر
فقط على الإطاحة بأركان النظام السابق بشنقهم أو إيداعهم السجون أو
إرسالهم إلى المنافي هم وتماثيلهم وأيديولوجياتهم بل تجري مراجعة شبه شاملة
لأركان الدولة ويدور نقاش متحمس حول إلغاء الدستور وتغيير النشيد الوطني
واستبدال العلم الوطني وإعادة تسمية آلاف المراكز والمؤسسات العلمية
والخدمية بأسماء جديدة هذا إذا لم يصل الأمر إلى بنية حكم الدولة أعني
تغيير نمط نظامها السياسي في حده الأدنى وتفتيت الدولة إلى مكوناتها
العرقية أو الدينية في حده الأعلى.