أثار الانقلاب المفاجئ الذي
أطاح برئيس وزراء استراليا كيفن راد التساؤلات والتعجب وعجز كبار المحللين
والمفكرين عن معرفة الأسباب الكامنة وراء الإطاحة بالرجل الذي وصف بأفضل
سياسي بين مجموعة العشرين التي تضمّ اكبر الدول حجماً اقتصاديا. وقد وصف
كيفن راد بهذا لأنه الوحيد بين دول المجموعة الذي جنّب بلاده حالة الركود
خلال الأزمة الاقتصادية العالمية التي بدأت بعد تسلمه الحكم بأقل من سنة.
كان
الانقلاب المفاجئ الأكثر صدمة منذ حادثة عزل غوف ويتلم في أواخر العام
1975.. لقد كان عزل ويتلم اضطرارياً وربما المخرج الوحيد بنظر منفذي
الانقلاب لأن حزب العمال آنذاك لم يمتلك الأكثرية في مجلس الشيوخ الذي جمد
صرف الإمدادات المالية للحكومة.
وكانت
أسباب عزل ويتلم عملاق السياسة الاسترالية معروفة وواضحة حتى ولو كانت
مدار خلاف وجدل... أما الانقلاب المفاجئ على كيفن راد فأسبابه غير واضحة
وإبعاده غير ضروري ومنطقي.
حتى
ولو كانت السيدة جوليا غيلارد تتمتع بالذكاء والقدرة فهناك شكوك حول
تمكنها من السيطرة على الوضع الاقتصادي في هذه الظروف الدقيقة عالمياً حيث
تعيش الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية واليابان أسوأ أوضاعها منذ عقود
فيما تمكنت استراليا من تجاوز الأزمة العالمية بأقل الأضرار بفضل اقدام
كيفن راد على «السخاء» الذي تعطى نتيجة جيدة رغم انتقادات المحافظين
والرأسماليين.
أذن،
لماذا كان الانقلاب المفاجئ على السيد راد والذي وصفته صحيفة سيدني
مورنينغ هيرالد «بثورة غيلارد»؟... وكيف تكون السيدة الذكية صاحبة ثورة وهي
التي أيدت جميع قرارات راد وكانت متحمسة لها ولم تنطق بكلمة واحدة ضد
الرئيس الذي كانت نائباً له؟
نكرّر
السؤال: لماذا الانقلاب أو الثورة الموهومة؟
خلال
ثلاثة أرباع القرن العشرين أي منذ قيام النظام الفيديرالي الاسترالي عام
1901 وحتى سبعينات القرن الماضي كانت هناك قوّة متحكمة بالسياسة الاسترالية
هي قوة المزارعين الذين عرفوا باسم Graziers وهم ملاك مزارع الغنم
والأبقار التي تنتج اللحوم والصوف، ومزارع القمح والحبوب. كان الاقتصاد
الاسترالي حينذاك يرتكز على تصدير الحنطة والصوف واللحوم.
كانت
تجمعات المزارعين الكبار تتحكم بمفاصل السلطة والجميع يعرف أن الحزب
الوطني الحالي المتحالف دائماً مع حزب الأحرار هو حزب الريف The conutry
Party الذي تأسس قبل حوالي 70 عاماً ليمثل طبقة أصحاب المزارع وكبار
الملاكين.
وقد
تسلم هذا الحزب منصب نيابة رئاسة الحكومة الفيديرالية والمحلية في نيو
ساوث ويلز وكوينزلاند دائماً، كما انه تسلم الحكم في كوينزلاند مرات عدّة.
ومع
تزايد الحاجة إلى مواد الطاقة والمعادن في العقود الثلاثة الأخيرة انصرف
القسم الأكبر من أصحاب الرساميل نحو الاهتمام بهذه القطاعات.
وحتى
نختصر التفاصيل الطويلة نشير إلى أن الصادرات الاسترالية من مختلف خامات
المعادن ستبلغ خلال العام القادم حوالي 170 مليار دولار استرالي... هذه
المعادن تستخرج من أراضي معظمها بولاية غربي استراليا تتعاقد الشركات
الخاصة لاستخراجها لفترات زمنية طويلة بأجور شبه رمزية وتجني منها أرباحاً
خيالية.
لقد
أقدم كيفن راد على خطوة لم يجرؤ احد قبله على اقتحامها وهي رفع الضرائب
على شركات المعادن. ونكرر أن الصادرات بلغت رقماً قياسياً لم تعرفه
استراليا في تاريخ تبادلها التجاري استيراداً أو تصديراً... مساكين أصحاب
المزارع الحيوانية والزراعية وغيرها، أين هم من الأرقام الخيالية التي وضعت
استراليا في مقدمة الدول الثرية والمتطورة؟
وسنضرب
مثلاً صغيراً يظهر فحش مستغلّي المناجم: عقد احد أصحاب شركات استخراج
المعادن ـ اسمه اندرو فوريست ـ اتفاقية مع الصين خرج منها بأرباح صافية
تزيد عن ستة مليارات دولار وأصبح أغنى أغنياء استراليا بين ليلة وضحاها.
وهناك رجل آخر يدعى كلايف بالمر تزيد ثروته عن 4 مليارات دولار جناها من
جراء صفقات بيع الفحم الحجري للصين. وقد اتهم هذا الرجل كيفن راد بالشيوعية
لأنه رفع الضرائب على الأرباح الفاحشة في قطاع المعادن في الوقت الذي يمضي
فيه بالمر نصف أوقاته في الصين مؤدياً التحية لماوتسي تونغ.
إن
فورست وبالمر من اللاعبين الصغار في عالم المعادن والفحم والغاز قياساً
بشركة BHP-BILLITON اكبر شركات المعادن في العالم وريو تينتو وغيرها من
الشركات التي تتحكم فعلياً بمفاصل الاقتصاد الاسترالي كما أنها قادرة على
التحكم أيضا بمراكز القرار عبر استمالة أجهزة الإعلام وتحريضها على الحكم
كما رأينا أخيراً.
وقد
جاءت النتيجة سريعة جداً في الانقلاب على راد حيث أعلنت رئيسة الوزراء
الجديدة أن أولى اهتماماتها ستكون إعادة النظر بقانون الضريبة على الأرباح
الفاحشة في قطاع المعادن. علماً إن الضريبة التي أقرتها حكومة راد هي 40
بالمئة فيما كان يجب أن تكون أكثر من 50 بالمئة لأن المعادن تستخرج من تراب
وأرض الوطن ومن الأملاك العامة المتعاقد عليها مع حيتان المال.
أما
كيف تتحكم هذه الشركات بمراكز القرار، فالأسباب واضحة. إن حكم استراليا
منذ 70 عاماً يجري تبادله بين حزب الأحرار وحليفه «الريف الوطني» من جهة،
وحزب العمال من جهة ثانية. وقد حكم تحالف الأحرار ـ الريف استراليا حوالي
50 عاماً من هذه الفترة فيما حكم حزب العمال حوالي عشرين سنة. وكانت حكومات
الأحرار المتتابعة صدى الرأسماليين من مزارعين كبار وصناعيين وكان حزب
العمال متعاطفاً مع الطبقة العاملة والمتوسطة ومهتماً بإبراز دور دولة
الرعاية.
ولكن
منذ وصول السيد بوب هوك إلى زعامة حزب العمال عام 1983 تحول هذا الحزب إلى
واجهة لليمين المحافظ المتواطئ مع الفحش الرأسمالي كما تشرذم حزب العمال
إلى أجنحة مافياوية النهج يغدر بعضها بالبعض الآخر كما رأينا ونرى محلياً
وفيديرالياً.
إن
رئيسة الوزراء الجديدة جوليا غيلارد تتمتع بكفاءات عالية وصاحبة شخصية
قوية ولكن وصولها أو إيصالها إلى قمة القرار ليس بريئاً وربما يشكل خطراً
على الانتعاش الاقتصادي لأن القادمة الجديدة إلى رئاسة الوزراء تبدو
متجاوبة مع نداءات وهجمات حيتان المعادن والمال الداعية إلى تراجع الحكومة
عن رفع الضريبة على «السوبر» أرباح على شركات التعدين وخفض المصروفات في
الميزانية العامة بهدف العودة إلى زمن الفائض في الخزانة وهذه أسوأ سياسة
اقتصادية في زمن الأزمات كما يعيش العالم حالياً وفق تحاليل كبار خبراء
الاقتصاد العالمي.
لقد
دفعت الولايات المتحدة ثمناً باهظاً من جراء تحكم بيوت المال بقرارها
وتعيش أسوأ أزمة منذ فترة القحط والكساد قبل 80 عاماً. ونرجو أن لا تستسلم
الآنسة غيلارد للحيتان الذين أوصلوها من وراء الستار إلى النجاح بالانقلاب
الغادر.
أما
فيما يتعلق بالسياسة الخارجية والموقف من قضية الشرق الأوسط وفلسطين فلا
تغيير بين حكومة وأخرى أو بين زعيم وآخر لأن الموقف الاسترالي لا يحيد عن
الخط الأميركي مهما فتشنا عن كلمات ايجابية أو سلبية في نصوص الخطب
السياسية الاسترالية.. ولكننا نتذكر تصريحات جوليا غيلارد التي أدانت قصف
حركة حماس وحمّلتها مسؤولية دمار غزة دون أي أشارة إلى جرائم إسرائيل فيما
انتقد راد أكثر من مرة ممارسات إسرائيل القمعية. لذلك كانت القوى المتصهينة
داخل حزب العمال ضد راد بقوة ولن ندخل هنا في تفاصيل تأمين وظيفة مرموقة
لشريك جوليا غيلارد في شركة يملكها صهيوني بارز حتى لا نقع ضحية نظرية
المؤامرة.
أخيرا
لا بدّ من إشارة إلى الدور المضحك الذي لعبه الإعلام الاسترالي والذي وصل
إلى حدود السخافة حيث صوّر رئيسة الوزراء كمنقذة لحزب العمال وأمنت له
الفوز في الانتخابات المقبلة والقريبة. وهذا الأسلوب الذكي يرضي نسبة كبيرة
من الجمهور الذي أغضبه الانقلاب الغادر.
الخميس ديسمبر 09, 2010 12:36 pm من طرف سميح القاسم