إثنولوجيا الإسلام في مداريات حزينة لكلود ليفي ستروس.لطفي بوشنتوف 6 أكتوبر 2011 في أمهات الكتب أضف تعليقاLévi- Strauss (Claude), Tristes tropiques, collection Terre humaine, Paris – Plon et Pocket, 2009
I مداخل
1- لا يعد الإسلام همّا مركزيا في كتابات كلود ليفي ستروس، كما لا يحتل مكانا مميزا في مختلف خرجاته الإعلامية1. ومع ذلك تلتف ثنايا كتابه الشهير مداريات حزينة2 حول خطاب مباشر عن الإسلام دينا و ثقافة3. ويرد حديث الإسلام في مداريات حزينة4 في نهاية الكتاب، وفي فقرات معدودة ومتقطعة5، ومن دون سياق يربطه من حيث المنهج والموضوع بسابقه ولاحقه، وكأنه حشر منفصلا ولذاته. ومع ذلك فالحديث مشحون الدلالات، وقوي المعاني، ولا تكاد قضاياه تفقد راهنيتها.
2- يسترجع حديث كلود ليفي ستروس عن الإسلام ويجدد قضايا مثيرة للجدل عن الإسلام والمسلمين، دينا وحضارة وثقافة. كما يرسخ الطابع الساخن لأماكن بعينها، مثل كابول وكشمير وبشاوار والبنجاب وراوبلندي ولاهور وبيرموند ودلهي وكالكوتا … مما يشعر القارئ بالعودة الأبدية للأسئلة التي يطرحها وما يترتب عليها من تأويل.
3- كتب كلود ليفي ستروس نص المداريات بلغة شاعرية جذابة ولكن مراوغة6، تجمع بين السيرة الذاتية والتأمل الفلسفي والبحث الأنثروبولوجي، مع الالتزام بالفكر العقلاني والابتعاد عن الذات. غير أن ما كتبه عن الإسلام تميز بالأسلوب المباشر والتقريري، مع التعبير الصريح عن موقف غير مستسيغ لمختلف تجلياته المعتقدية والطقوسية. وقد أحرج حديث كلود ليفي ستروس عن الإسلام مترجم المداريات وناشرها7، فتصرفا في النص الأصلي بالحذف، مرة بالتنبيه إلى ذلك8 ومرات من دون إشارة9، مما يذكرنا بترجمات الكوميديا الإلهية المبتورة لنفس المبررات10.
ووجد بعض من لا يثق في الغرب في حديث المداريات “الاستفزازي” عن الإسلام حجة على “عدوانية الآخر وسوء نواياه”. في حين وبالمقابل، استشهد اليمين الفرنسي في العقدين الأخيرين بنفس الحديث لإضفاء المصداقية العلمية على رفض مطالب الطائفة المسلمة في أوربا11، باعتبار أن هذا المفكر-المرجعية كان سباقا للتنبيه إلى “الإسلام- فوبيا”، أي إلى التأثير الخطير للإسلام الداخلي على هوية فرنسا ومستقبلها. كما رأى بعض الغرب في فكر وممارسة من يصنف ضمن “الجماعات الإسلامية المتطرفة والمتشددة”12، مصداقا لمقولات كلود ليفي ستروس وأحكامه.
4- غلبت الكتابة المشهدية13 على المداريات وحديث الإسلام داخلها، لاسيما أن صاحبها توسل بها في الأصل لكتابة نص روائي14 يدون فيه مشاهداته الرحلية وحواره الذاتي مع موضوعه ومعرفته15. وكما يفيد العنوان الفرعي للكتاب والذي وضعه الناشر16 ، اتبع مؤسس الأنثروبولوجيا البنيوية في المداريات منهجا إثنولوجيا، قائما على دراسة المظاهر الثقافية والجوانب الاجتماعية للجماعات البشرية، اعتمادا على المسح الإثنوغرافي. والنص بما فيه الحديث عن الإسلام قائم بالفعل، من حيث المنهج، على رباعية المشاهدة/الملاحظة والتفسير والمقارنة والنظرية17 . واستعاد كلود ليفي ستروس في جل صفحاتالمداريات ذاكرة رحلتين علميتين قديمتين، أنجزهما في البرازيل سنتي 1935 و8-1939. في حين سجل في الوريقات التي أحصيناها مشاهداته المتأخرة18، في باكستان19 وأفغانستان والهند، أي في فضاء “إسلام هامشي” غير عربي، زاره في مهمة رسمية مطلع الخمسينيات من القرن العشرين20، ولم يمكث به سوى بضعة أشهر(ص475). ويقدم كلود ليفي ستروس نفسه، في المشاهد التي سجلها داخل هذا الفضاء، على أنه “السائح”(ص476) و”الزائر”(ص474-477) “الغربي”(ص477) و”الأوربي”(ص474-487) بالتحديد، المتمتع بقوة الملاحظة(ص487) والمتجول بحكمة(ص476)، و”المتفكر” فيما كان يقف عليه من “خراب”(ص474).
5- سبق لكلود ليفي ستروس، قبل كتابته المداريات، أن أثار ملاحظات سريعة حول الإسلام في شبه الجزيرة الهندية، و ذلك في مناسبتين كان لهما الأثر الكبير في بلورة فهمه للعالم وإدراكه ثقافاته.
الأولى، في التقرير الذي رفعه إلى منظمة اليونسكو، مباشرة بعد عودته من المهمة التي كلفته بها في شبه الجزيرة الهندية. ويلتقط من التقرير21، الذي صدر في شكل مقال سنة 1951، توظيف كلود ليفي ستروس لمفهوم Foyer والأبعاد التي خصها به. ذلك أن التأمل انتهى به إلى استنتاج أن باكستان أسست لكي تكون بمثابة ملجإ مفتوح في وجه مجموع الطائفة التي تشترك في المعتقد الروحي وتعيش في ظل تعاليمه، أي المسلمين. واستنتج بالاستتباع أن باكستان تمثل وقتها الرابط بين الأمة/ nation وبين المعتقد في دلالته القصوى، باعتبارها تجمع في ظل نفس السيادة مجالات ترابية مسكونة لقرون من طرف نفس الشعب، الذي اعتنق غالبيته الساحقة المبادئ الأخلاقية والسياسية والدينية التي أسست عليها الدولة الجديدة. وتأسيسا على هذا الفهم، يستشف المعنى المزدوج للملجإ، أي الروحي الديني والواقعي الوطني. وتقعيدا عليه، امتلكت باكستان الكبرى خصوصياتها. وخلص كلود ليفي ستروس، وهو يلاحظ أن باكستان الكبرى بالرغم من هذه الخصوصية لم تستطع لم شمل مجموع مسلمي شبه الجزيرة الهندية22، إلا أن الرهان الأساس الذي على الدولة الناشئة كسبه يكمن في استثمار حدودها الممتدة وشكل جغرافيتها وسوسيولوجيتها، لترسخ هويتها كملجإ ووطن، ولتتخطى بالتالي فردانيتها، وتحقق الانتقال المبدع والمتجدد بعناية وتعهد لا ينقطعان إلى تشكيل صورة الوعد الكبير الذي تتطلع أن تكون عليه، أي أن لا تكون ملجئا لمواطنيها فقط، بل وأيضا لكل أولئك الذين سيطلبون يوما ما أن يعيشوا في ظلها مع احتفاظهم بمعتقداتهم الدينية المغايرة23.
الثانية، في التقرير الذي قدمه إلى اليونسكو سنة 1952، ونشرته المنظمة في مقالين، أحدهما مفصل والثاني مكثف. وتخطى كلود ليفي ستروس في هذه المناسبة عتبة الولوج إلى موضوع الإسلام، والذي طالما راوده في الغالب وتردد دون أن يقدم عليه. رسم كلود ليفي ستروس، في هذه الخطوة القصيرة والوحيدة، حدود المقاربة الإثنولوجية التي اعتمدها بعيد ذلك في المداريات. وتتمثل في:
- دراسة مشهدية مبنية على صور تفرضها الملاحظة وتدفع إليها المقارنة.
- اختيار الثقافة الدينية حقلا للتأمل والبحث والاستخلاص. وهو الفضاء الذي يتسع ليشمل العقيدة ويفصل في أشكال التدين وتلويناته الطقوسية، ويتضمن العمارة ويلامس أنماط العيش…الخ.
- التساؤل عن تلاؤم القيم وانسجامها/ compatibilité.
قدم كلود ليفي ستروس، في هذا التقرير- المقال، لحديثه عن الإسلام باستنتاج أن ديانات آسيا الجنوبية برهنت، منذ ظهور البوذية وإلى غاية انتشار الإسلام ومرورا بمختلف أطياف المعتقدات الهندوسية، على أنها الأفضل قدرة على التعايش. واستدل على صواب استنتاجه ببسط مشهد معبر: ذلك أنه لاحظ في الجزء الشرقي من باكستان24 تساكن مساجد إسلامية فارغة25 ومعابد هندوسية مأهولة بسلالات من التماثيل المجسدة للآلهة. كما لاحظ أن الديانتين الإسلامية والهندوسية في هذه البقعة من العالم تعايشتا ولم تتواجها، إلى درجة أن إدارة مسلمة كانت تشرف على السوق الذي لم يكن يعرض من اللحوم سوى لحم الخنزير. وختم ملاحظاته باستنتاج أن الإنجاز المعماري السياسي والجمالي الكبير والمعبر الذي شيده الإمبراطور أكبر26، وجمع بين أنماط فنون العمارة الفارسية والهندية بل والأوربية، يعكس مظاهر الأخوة بين المسلمين والهندوس، ويبرهن على إمكانية تعايش الديانات في تناغم، بالرغم من كون الإنجاز أصبح مجرد قصور خراب. هذا مع إقرار كلود ليفي ستروس بصعوبة صمود هذه “الصورة البريئة” أمام مشاهد الحرائق والمجازر التي طبعت أحداث الانفصال الكبير… انفصال باكستان عن الهند27.
II حديث الإسلام في المداريات
1- المشهد الإطار
استهل كلود ليفي ستروس، بقصدية مستبطنة، حديثه عن الإسلام بمشهد كاشف ومعبر، ومختزل لمجموع الترسانة الأدواتية والمنهجية التي وظفها في المشاهد الموالية. ذلك أنه ولج الفضاء الجغرافي والثقافي للإسلام باسترجاعه الحدث التالي: “على سفح جبال كشمير، بين روالبندي وبيشاور يرتفع موقع تاكشاسيلا… استعملت للوصول إليه خط السكة الحديدي، متسببا من غير قصد في مأساة صغيرة. ذلك أن مقصورة القطار الوحيدة من الدرجة الأولى التي صعدت إليها كانت من الطراز القديم…كان منظرها يشبه في نفس الآن مقطورة المواشي والصالون والسجن بالنظر إلى القضبان الواقية في النوافذ. استقلت المقصورة أسرة مسلمة مكونة من زوج وامرأة وطفلين. كانت السيدة منقبة/purdah. وعلى الرغم من محاولتها الانزواء- بحيث جلست مقرفصة على مرتبتها، ملحفة بالبرقع/burkah، مدبرة بعناد ظهرها إلي- فقد بدا الاختلاط شائنا و مخزيا scandaleux/. واقتضى الأمر انفصال الأسرة وتفرقها، حيث انتقلت المرأة والطفلان إلى العربة المخصصة للنساء فقط، بينما ظل الزوج يحتل بمفرده المقاعد المحجوزة، وهو يغتالني بنظراته. رضيت بما قسم لي في هذا الحادث، بسهولة أكبر في الحقيقة من رضاي بالمشهد الذي كان ينتظرني عند الوصول…”(ص472).
التقطت عين كلود ليفي ستروس الملاحظة عناصر أساس أثث بها المشهد بعناية فائقة. أشار في مستوى أول إلى القطعة الجغرافية الساخنة. ثم ربط في مستوى ثان بين النقاب والبرقع وما يترتب عليهما من تحريم الكشف عن جسد المرأة والاختلاط الجنسي، وبين النزوع إلى الانعزال عامة وهيمنة الفكر الذكوري التمييزي المحتكر لكل الأمكنة المادية والرمزية. واستنبط في مستوى ثالث من التنبيه إلى إدبار الظهر والنظرة المغتالة، الميل إلى الانغلاق ورفض الانفتاح على الآخر الغربي وثقافته. ويستنتج من المشهد بالاستتباع الأسباب التي دفعت كلود ليفي ستروس إلى تشبيه الخشبة التي وقع فوقها المشهد، أي مقصورة القطار، بعربة المواشي أو السجن ذي القضبان الحبيسة. كما يستنتج من سرد مكونات الحادث، وخصوصا ما تعلق بالمفردات والصيغ ذات الصلة بمشاعر كلود ليفي ستروس، أنه شعر لحظتها، وهو المنتمي للغرب، بعنف نفسي يمارس عليه. ولم يكن هذا المشهد الإطار سوى مطلع ما اسماه بــ”المأساة”، أو الوجه الظاهر لمآسي أكبر كانت في انتظاره28.
2- عقلية البداوة والتحريم
لم يتذوق كلود ليفي ستروس العمارة الإسلامية في شبه الجزيرة الهندية على ما تميزت به من ضخامة البناء وفخامته وجماليته. وهكذا لم يرقه قصر القلعة الحمراء في دلهي القديمة29، على الرغم من ضخامة بنائه وطبيعة المواد الثمينة التي شيد بها وثقل زينته. وعده لا يمت بصلة لهندسة القصور، بل وأقرب ما يمكن لمجمع خيام شيد بمواد صلبة في حديقة تشبه مخيما نموذجيا ومثاليا. ورأى كلود ليفي ستروس في قبة قاعة العرش الإمبراطوري مجرد نسخة من قبة خشبية قابلة للتفكيك، غير منسجمة مع قاعة الاستقبال. ولم يثر الضريح، على قدمه، مشاعر الإعجاب في كلود ليفي ستروس المتيم عادة بكل ما هو عتيق. بل حرك فيه إحساسا بالضيق لأن عنصرا هندسيا أساسيا في نظره غير موجود: كان المركب الإمبراطوري ذو كتلة جميلة ومكونات بديعة، غير أن من المستحيل إدراك صلة عضوية بين الكتلة ككل وبين المكونات كأجزاء(ص476-477).
نفس الانطباع والملاحظة خرج بهما كلود ليفي ستروس من زيارة بقية المعالم الأثرية الكبرى، وإن كانت في مستوى ضريح شاهنشاه تاج محل30. فهذا الأخير أيضا، وبالرغم من بنائه الفخم وجماليته الفائقة، لا تتآلف طبقاته بقدر ما تتكرر برتابة. تساءل كلود ليفي ستروس عن الأسباب الكامنة وراء هذا القصور، وعن دواعي رفض المسلمين للفنون التشكيلية الجمالية، الكفيلة في رأيه بتكسير رتابة العمارة الإسلامية وبإضفاء سمة الحضارة وميزة الحضر عليها. ووجد الإجابة بالضبط عند سيدة إنجليزية متزوجة من مسلم يدير معهد للفنون الجميلة: لم يكن يسمح إلا لعدد محدود ومن النساء بمتابعة دروس الفنون الجميلة، وكان النحت محرما، كما كانت الموسيقى تدرس في السرية، وحده الرسم كان يعلم، ولكن كفن ترفيهي لا غير…(ص478-479)
3- ذهنية السذاجة
التقط كلود ليفي ستروس، بدقة الملاحظ وفي مناسبات عدة، ممارسات ذهنية ساذجة وسط مسلمي شبه الجزيرة الهندية. المناسبة الأولى، حين تساءل عن وظيفة البنايات الضخمة التي سبق وانتقدها في مستواها المعماري. إذ اعتبر أن المسلمين لم يشيدوا في هذه البلاد من المآثر الكبرى سوى الحصون والمعابد والأضرحة. بحيث كانت قصورهم المأهولة من حيث الهندسة والتصور أشبه بالحصون العسكرية. في حين كانت مساجدهم وأضرحتهم الخالية والمهجورة أقرب ما يكون من القصور. وبناء على هذه المفارقة، اختبر كلود ليفي ستروس مصاعب الإسلام في تفكر الوحدة والعزلة. وفي رأيه، اعتبر هذا الدين أن الميت يستقر دائما وسط الجماعة /communauté، ولكن من دون رفقة ولا شركاء…(ص480)
المناسبة الثانية، لما عاين طقوسا غير مقبولة في نظره تمارس في المسجد الجامع بدلهي31. حيث أروه، مقابل أربعمائة فرنك، النسخ الأقدم للقرآن الكريم ونعال الرسول وشعرة من لحيته مثبتة بقرص من الشمع داخل علبة مزججة ومعطرة32. ويضيف كلود ليفي ستروس إلى هذا المشهد، وبلغة يغلب عليها التهكم، أن أحد المؤمنين اقترب للتبرك بالمعروضات المقدسة، غير أن القيم عليها أبعده بعنف. وتساءل عن السبب: هل لأن المؤمن لم يؤد الأربع مائة فرنك؟ أم لأن الآثار الشريفة كانت ذات شحنة قوية لا قبل للمؤمن على تحملها؟(ص477)
المناسبة الثالثة، لما صحب في كراتشي جماعة من المسلمين، حكماء وجامعيين ورجال دين. وانتبه إلى أنهم كانوا يفتخرون بسمو منظومتهم الفقهية. غير أنه صدم أكثر لما لاحظ كيف كانوا يستندون دائما وبإلحاح قوي إلى حجية واحدة، هي بساطة الدين الإسلامي. من قبيل القول إن الأحكام الإسلامية في مجال الإرث أفضل من مثيلتها الهندوسية، لأنها أبسط منها. ومن قبيل أنه إذا ما أردنا تغيير التحريم التقليدي للربا على القروض، يكفي أن نضع عقدا للشراكة بين الزبون والبنك، بحيث تتحول الفائدة إلى إسهام الطرف الأول في مشروع الطرف الثاني. ومن قبيل معالجة متطلبات الإصلاح الزراعي بتتريك الأراضي الزراعية وفق الأحكام الإسلامية إلى غاية توفير المساحات المطلوبة للتوزيع. ثم ينتهي العمل بهذه الأحكام لأنها ببساطة لا تعد من الأصول العقدية، وذلك لتجنب المبالغة في تفتيت الملكية الزراعية(81-4482).
المناسبة الرابعة أو الشاهد الأكثر تعبيرا على بساطة الفكر الإسلامي، حسب تعبير كلود ليفي ستروس، هو نزوع الحاملين لهذا الفكر والقلقون على عفة زوجاتهم وبناتهم إلى تحجيبهن وعزلهن، وذلك طوال فترات غيابهم عن أسرهم، مما أفضى مع مرور الزمن وتتابع اللجوء إلى هذا الحل إلى ظاهرة البرقع/Burkah. واللافت للانتباه، حسب ما تولد من حديث صريح بين كلود ليفي ستروس وبعض الشباب المسلم، أن هؤلاء متشددون في التمسك بعذرية المرأة، الدالة على وفاء قبلي في علاقة شرعية بعدية. كما أنهم متشددون في وجوب التمييز الجنسي، بفرض ارتداء البرقع على النساء، لكونه الوسيلة الكفيلة بالتصدي للدخلاء العشاق. وتكمن غاية هذه الذهنية ومعانيها، حسب كلود ليفي ستروس، في رغبة الذكور المسلمين منح النساء عالما نظيفا لا يعلم خفاياه سواهم. و هكذا أنتج هؤلاء الرجال، لصوص الحريم في شبابهم، مبررات ناجعة ليصبحوا حراسه بمجرد زواجهم.
استخلص كلود ليفي ستروس من هذه الشواهد وتبين، أن الإسلام في كليته وبالفعل سلوك /méthode ينمي في ذهنية المؤمنين صراعات لا تحتمل، ويقترح عليهم -أكثر من ذلك- حلولا بسيطة إلى درجة لا تتصور، بحيث يدفعهم بيد ويمسكهم بأخرى… على حافة الهاوية(ص482).
4- الإسلام المقارن: المعيار الهندوسي
كان من الطبيعي، اعتبارا لجغرافية المجال الدينية، أن ينتقل كلود ليفي ستروس بمشاهداته واستنتاجاته إلى مستوى مقارنة الإسلام كثقافة وممارسة في شبه الجزيرة الهندية بما كان يجاوره ويعايشه من ثقافات وممارسات دينية مغايرة.
المقارنة الأولى، تتمثل في الإعجاب المطلق بالمجسدات البشرية المنحوتة على الحجر الوردي في واجهات بعض المعابد الهندوسية33، والتي بلغت من دقة الإتقان وعمق المعاني، ما أهلها لتنفك من مواضعها وتختلط بالمجتمع. بعثت هذه المنحوتات البشرية في كلود ليفي ستروس شعورا عميقا بالسكينة والألفة. لأنه وجد نفسه أقرب إلى النمط الثقافي الذي ترمز إليه نماذج النسوة المنحوتة، المتبرجات بعفة والشهوانيات بأمومة و في توافق تام. ولأنه وجد نفسه أبعد ما يكون من النمط الإسلامي المقابل أو ثقافة الهند غير البوذية، حيث الأمهات عشيقات ولو في الحريم والفتيات حبيسات أنواع الحجب. شعر كلود ليفي ستروس، وهو يقارن بين النمطين، وكأن الأنثوية الوديعة التي يعبر عنها النمط الثقافي الهندوسي أعتقت من الصراع الأبدي بين الجنسين الذكوري والأنثوي. بل وذكره ذلك بكهنة المعابد الذين يتماهون برؤوسهم الحليقة مع الراهبات، في شبه جنس ثالث بين الطفيلي والهجين، خالص من دون مثبطات التمييز(ص488)
المقارنة الثانية، تتمثل في تفضيل كلود ليفي ستروس الفن الهندي الحي/vivant والغني والمتنوع، في علاقته بالتدين وانتقاء الألوان واختيار للملابس…الخ، خلافا لاستهجانه فرض المسلمين “ألوانا وحيدة رسمية”. و انتهت المقارنة بكلود ليفي ستروس إلى التساؤل عن الأسباب التي جعلت الفن الإسلامي ينهار بالتمام بمجرد ما يبلغ ذروته. وأجاب بصيغة اليقين: لأنه مر من دون تدرج انتقالي من التصور الهندسي للقصر إلى التصور الهندسي للبازار34، أي أنه ظل دائما يستند على قاعدة الذهب أو الثراء المادي لا الروحي، يزدهر بتوفره وينهار بفقدانه. ولأن الفنان المسلم، المحروم من أي اتصال جمالي بالواقع/le réel في ظل تكفير الصورة، ارتبط إلى الأبد بتعاقد35 أصابه بنزيف أفقده القدرة على التشبيب والخصوبة(ص479-480)
المقارنة الثالثة، عقدها كلود ليفي ستروس بين البوذية والإسلام، وذلك في المستويين التاليين: الأول، في رصد الفارق بين حكيم الهندوس بوذا ورسول الإسلام محمد (ص). وقد اعترف كلود ليفي ستروس في هذا الباب بالتناقض الصارخ والاختلاف البين بين الطرفين وعلى جميع الأصعدة، وبأن وجه التشابه الوحيد بينهما يقتصر على كونهما معا من البشر وليسا من الآلهة. والحكيم في تصنيف كلود ليفي ستروس متعفف وخنثوي ومسالم وقدوة. أما الرسول ففحل بزوجاته الكثر وملتح ومحب للحرب ومبشر. والثاني، في تبيان الفارق بين البوذية والإسلام، من خلال عرض مجموعة من الأمثلة المبنية على المشاهدة والملاحظة والاستنتاج، والدالة جميعها على ترجيح كلود ليفي ستروس نموذج الثقافة-الدينية الوضعية.
المثال الأول، يكمن في أن البوذية في نظره مثل الإسلام، سعت إلى السيطرة على تجاوزات الطقوس البدائية. غير أنها كانت حاملة لبدور الوحدة وواعدة بالعودة إلى حضن الأم- الأصلي والجامع من دون تمييز. لذلك مثلا أدمجت الإثارة الجنسية في طقوسها، بعد أن هذبتها من الرعب والهيجان. أما الإسلام، فقد تطور على النقيض من ذلك في اتجاه ذكوري، إذ أغلق الولوج إلى ذلك الحضن بحبس النساء و تحويل عالمهن إلى عالم مقفل(ص488).
المثال الثاني، ينصب على مكانة التماثيل في كل من الإسلام والبوذية. وقد لاحظ كلود ليفي ستروس أن الإسلام يبعد الأصنام ويكسرها، وأن مساجده عارية وفارغة، لا تكاد الحياة تزرع فيها إلا لحظات تجمع المصلين وهم ذكورا بالأساس لأداء الصلاة وهي معدودة. هذا في حين جمعت المعابد البوذية بين الصور والتماثيل، بل ولم تجد حرجا في مضاعفة أعدادها لأن لا أحد منها بمثابة إله حقيقي، وإنما يؤدي وظيفة استدعائه الرمزي. كذلك كانت المعابد على الدوام و باستمرار عامرة بمجسداتها ومكسوة بألواحها، تبعث الدفء الروحي في حجاجها الباحثين فيها عن زوايا للعبادة و… التأمل(ص491).
المقارنة الرابعة، استنتج من خلالها كلود ليفي ستروس الفارق بين الطابعين الإلزامي للدين الإسلامي والاختياري للبوذية. وضرب على ذلك مثلا من مشهد عايشه، لما زار معبدا بوذيا و قال له مرافقه وهو يسجد أربع مرات أمام المذبح أنه ليس ملزما بالقيام بنفس الأمر مثله. كان رفيقه يعلم انه لا يدين بدينه، كما كان هو نفسه يرفض مسبقا القيام بتلك الطقوس، ليس لعزة النفس وإنما خشية أن يفهم ذلك المرافق انه يعتقدها مجرد تقاليد تفرض الإتباع. ولكن، قول المرافق غير مسبقاته، ووجد نفسه عن اقتناع ومن دون شعور لا يجد حرجا في إنجاز نفس طقوس العبادة وأمام نفس المذبح(ص492-493).
يفسر كلود ليفي ستروس الاختلافات البينة بين باكستان المسلمة والهند البوذية36 في كل المشاهد المعبرة التي ساقها مثالا، بأنها تعبر عن ردود فعل رافضة أبداها النموذج المسلم اتجاه مقابله الهندوسي. ذلك أن انفصال الهند عن باكستان تم في رأيه وفق خطوط حدود دينية صرفة. ولهذا لا تعبر الصرامة و الطهرية37، الممارسة ثقافيا داخل النموذج الإسلامي أي باكستان، عن إخلاص للإسلام بقدر ما تضمر نزوعا إلى تطليق الهند. وبناء على هذا التفسير، لا يجدد تحطيم التماثيل التجربة الإبراهيمية، بقدر ما يحمل دلالة سياسية ووطنية لدولة حديثة العهد بالانفصال لا الاستقلال. وتأسيسا عليه أيضا، فان الإسلام الباكستاني، الدائس على الفن إلى أن أجبره على السرية/le maquis، لا يعبر عن تمسك بالدين بقدر ما يسعى إلى تكفير الهند(ص479).
5- الإسلام المقارن: المعيار الغربي
كان من الطبيعي أيضا لباحث قدم نفسه على أساس أنه “زائر من أوربا وقادم من الغرب”38، أن يستحضر في تقييمه للثقافة الإسلامية من خلال النماذج المشاهدة، معيار الثقافة الغربية التي ينتمي إليها. ركز كلود ليفي ستروس في هذا المستوى من المقارنة على مشهد معبر أفضل في رأيه عن الفارق بين عقلانية الفكر الغربي ولاعقلانية ثقافة الإسلام، وهو الكامن في تمثل الفضاء المخصص للأموات من العظماء. وقد لاحظ كلود ليفي ستروس أن هناك تعارض وتناقض صادم بين فخامة الأضرحة ومساحتها الشاسعة، وبين التصميم الضيق للقبور التي تأويها، والتي تبعث على الضيق والاختناق. وتساءل عن الفائدة من القاعات والأروقة الواسعة التي تحيط بالقبور والتي لا يتمتع بها سوى الأحياء العابرين من الزوار. هذا على خلاف القبر الأوربي الذي يصمم على قدر ساكنه، وفي تناقض مع التمثل الأوربي للفضاء الواجب تخصيصه للعظماء، والذي يتميز بندرة الأضرحة وبتبدي المهارات الفنية الجمالية على القبر نفسه حتى يصير مريحا وممتعا للراقد فيه لا لغيره(ص480).
استنتج كلود ليفي ستروس أن القبر في الثقافة الإسلامية ينقسم إلى فضاءين، الأول منهما صرح رائع لا يستفيد منه الميت، والثاني مرقد حقير يتوزع بدوره بين مقبرية بارزة للعيان ولحد مخفي، وفي كليهما يبدو الميت سجينا. وبذلك قدمت الثقافة الإسلامية حلا متناقضا لقضية الراحة الأبدية والأخروية: رغد شاذ وغير مؤثر من جهة، وضيق خانق وفعلي من جهة ثانية. ولكن هذه الحالة الثانية بالضبط هي التي تلقي بظلالها الثقيلة على نمط الممارسة الثقافية لدى الأحياء. ولذلك جمعت صورة الحضارة الإسلامية بين الترف النادر في الظاهر39 المتستر على بساطة التفكير في العمق، وبين التزمت والتعصب اللذين يطبعان التفكر الديني والأخلاقي(ص480-481).
الإثنين فبراير 08, 2016 9:29 am من طرف نابغة