"الميديا" التي ينتجها "داعش" وهدم التنوع الحضاري الإسلامي
[size=40]27يناير 2016بقلم محمد برهومةقسم: الدين وقضايا المجتمع الراهنةحجم الخط
-18
+للنشر:[/size]
أكدت صور التقطت بوساطة الاقمار الاصطناعية ان تنظيم «الدولة الاسلامية» (داعش) أقدم على هدم دير مار إيليا المسيحي الأثري في العراق الذي يعود تاريخ بنائه الى ما قبل 1400 عام.
وأفادت وكالة «أسوشييتد برس» الأميركية، التي حصلت على الصور، بأن «داعش» هدم الدير الذي يعتبر أحد أقدم الأديرة في بلاد الرافدين، والذي توجد على جدرانه الحروف الاولى من اسم السيّد المسيح، وحوّله إلى ركام.
وطلبت الوكالة من شركة «ديدجيتال غلوب»، الرائدة في توفير صور الأقمار الاصطناعية العالية الدقة، التقاط صور عدة للموقع لتحليلها.
وقال محلل الصور ستيفن وود إن الدير الواقع على تلة في مدينة الموصل «يشبه القلعة، وتبلغ مساحته 27 ألف قدم مربعة ويحتوي على 26 غرفة، بالإضافة إلى مكان خاص لجوقة التراتيل والهيكل»، مشيراً إلى أن الدمار في الدير لوحظ في فترات بين آب (أغسطس) وأيلول (سبتمبر) من العام 2014. وأضاف: "حولت الجرّافات والمتفجرات حجارة الدير إلى غبار. لقد دُمر تماماً".
وقال الكاهن الكاثوليكي بول حبيب: "تُمارس على المسيحيين في الموصل أعمالٌ وحشية، يحاولون طردنا من العراق والقضاء على وجودنا في هذه الارض".
وينضم دير مار إيليا إلى قائمة تشمل أكثر من 100 موقع ديني وتاريخي مدمر أو منهوب، بما في ذلك المساجد والمقابر والأضرحة والكنائس؛ إذ شنّ التنظيم حملة لتدمير التراث الثقافي والإرث الحضاري في مدن عراقية عدة منها نينوى.[1] من الواضح أن التاريخ الذي يريد «داعش» أن يكتبه يسبقه فعلٌ تدميري يخوضه التنظيم ضد تاريخ التنوّع الإسلامي، ضد الأقليات التي عاشت لقرون في ظل الحضارة العربية الإسلامية، ضد الآثار والصور والمعابد التي تقدّم سردية منفتحة عن التاريخ الإسلامي.
معنى هذا أن "الميديا" التي ينتجها "داعش"هي توظيف حداثيّ فاقع، وقراءة انتقائية جداً للتاريخ الإسلامي، لإنتاج هوية مبسطة يزول فيها التنوع وتصلح كمِعوَلِ صِدامٍ مع العالم والآخر، وتشكّل عنصر جذب لشباب يبحث عن امتلاك قوة ما والخروج من الهشاشة وتفريغ ما لديه من طاقة احتجاجية واغتراب عن محيطه ومنطق العصر، والتنظيم في رسائله «الداعِشوُوديّة» يقدّم لهؤلاء الشباب وسيلة للخروج من تعقيد العالم واشتباكه، وصعوبة فهمه وإدراك ما تنطوي عليه العلاقات الدولية من رمادية وذرائعية وحِربائية، تجعل «المؤامرة» خير زادٍ للتنظيم لتفسيرها والتفاعل معها
الصورة ركن ركين من بنيان "داعش"، وهي تحقق له ثلاثة أهداف: أولاً، الحضور الدائم في الإعلام وعالم السياسة. وثانياً، التواصل المستمر مع أنصاره والتركيز على من لم يكتمل تشكيل شخصيتهم وهويتهم بهدف بناء هوية جديدة لهم تملأ الفراغ الهوياتي عندهم، وذلك في عملية تقوم على قراءة بسيطة ومختزلة وسريعة وانتقائية ومتوهمة للتاريخ. وثالثاً، التخويف والترهيب وتضخيم الإمكانات والقدرات؛ وذلك في إطار ما يعتبره التنظيم حرباً نفسية. والقاسم المشترك بين الأهداف الثلاثة: زيادة جرعة الإثارة والعنف لتقديم وجبة مركزة من التأثير في وعي المشاهد وإقناعه عبر "الصدمة والترويع" بقوة التطرف وضعف الأعداء.
وقبل أسابيع، ذكر تقرير لـ «بي بي سي»، أنّ السلطات البريطانية تعتقد أن سيدارتا دهر، المعروف أيضاً بلقب أبو روميساء، هو الجهادي الجديد الذي أطلق تهديدات ضد بريطانيا في شريط فيديو جديد من داخل سورية، وأنّ أبو روميساء، على عكس محمد إموازي، الجهادي السابق، الذي قُتل مؤخراً، والذي كان يهدد بريطانيا واشتهر باسم (الجهادي جون)، شخصية معروفة جيداً بين الإسلاميين المتطرفين في لندن. ويظهر في الفيديو أيضاً، طفلٌ يتحدث الإنكليزية بلهجة بريطانية.[2] وظهور طفل الجهادي جون الجديد، على ما يبدو، جزء من بروباغندا «داعش» بأن ثمة جيلاً جديداً قادماً يحمل رسالة التنظيم، الذي يؤكد، في شعاره الشهير أنه «باقٍ ويتمدد». وما هو جدير بالانتباه، أنّ الشباب المسلمين تحت سنّ الثلاثين يُشَكِّلُون نسبة 62 بالمئة من أصل 1.6 مليار مسلم حول العالم، وتنظيم "داعش" الإرهابي يركّز عليهم. وقد طوّر "داعش" استراتيجته للسيطرة على المناطق ضمن ثلاث مراحل: مرحلة "شوكة النكاية والإنهاك" بتحويل المنطقة إلى فاشلة حتى يسهل سيطرته عليها؛ ثم الوصول إلى مرحلة "إدارة الفوضى والتوحش"، التي تليها مرحلة "التمكين" والتي تجسدها على الرض دولة التنظيم في العراق وسورية حالياً.[3] والحقيقة، أنه ثمة جدل ليس جديداً، لكنه مستمر، في أوساط الإعلاميين والباحثين والسياسيين في الغرب، حول ما إذا كان هذا الغرب قد نجح أم فشل في «حرب الرسائل والأفكار» التي يبثها «داعش» عبر تقنيات الإعلام الجديد، وعلى الطريقة الهوليوودية، أو كما قال أحدهم «الداعشوُوديّة»، وكأن نظرة التنظيم نحو الحاضر، كما يقول جون أولترمان، تُمَثِّلُ جزءاً من جاذبيته على غرار غُرَفِ التصوير في المدن السياحية التي تُنتِجُ صوراً تبدو قديمة لأشياء معاصرة على فترات زمنية مختلفة.
من هنا، يذهب خبراء في تاريخ الثقافات ومحللون أمنيون في الغرب، إلى اعتبار «داعش» تنظيماً حديثاً ويقولون إنّ من الخطأ وسْم هذا التنظيم بأنه قروسطيّ. ويؤكد هؤلاء الخبراء أنّ أتباع التنظيم يلعبون دور الضحية، ويشعرون بالسُخط وحبّ الانتقام، ويعانون جنون الارتياب وكراهية الآخر، وأنّ الحقيقة المركزية الجامعة للتنظيم لا تتعلق بالقوة التي يمتلكها المسلمون، بل بالقوة التي فقدوها، حيث تُشَكِّلُ المظالم دافعاً للتنظيم، كما أنّ ضعف التنظيم البائس هو المحرّك لمعظم الأفعال الوحشية التي يقوم بها ضد رموز القوة العالمية.
وعند النظر إلى أشرطة التنظيم المصوّرة، فإنها تحمل فكرة طاغية واحدة، فالتنظيم يسعى يائساً الى التساوي مع أعداء أكثر قوة وقدرة منه، وتتعلق الصور التي يبثها ببثّ مشاعر القوة في صفوف مقاتليه، وتترافق هذه الصور عادة مع جهود لإظهار ضعف أحد رموز القوى المُعادية.
ويضيف أولترمان: لعل «داعش» لم يكن أول من اخترع فكرة الذرائعية. فصدام حسين كشف عن رمزية بابل، وشاه إيران سعى إلى ربط نفسه بجمشيد وإمبراطورية كورش الكبير، وسعى موسوليني إلى إعادة بناء أمجاد روما، ونقل أتاتورك عاصمة تركيا من إسطنبول إلى قلب الأناضول لإنتاج هوية تركية «حقيقية». ومع ذلك، فإن ما يقوم به «داعش» أمرٌ مختلف. فهو يُشبه إلى حد كبير اعتماد هتلر واختراعه أحياناً للتاريخ الآري لإلهام مجتمع حديث وقيادته، ويتمثل العنصر المشترك في كلا المشروعين بالدمج العاطفي بين الرؤية الاجتماعية المثالية والرؤية التآمرية للعالم، حيث ثمة مجتمع مُنشغل في معركة مفتوحة ضد أعداء كُثر. هذه الرؤية المثالية الجامحة، تتغاضى عن، وتهرب من، تعقيد العالم وصعوبته، لكنها توفر الإلهام، فالأعداء يساعدون في الحفاظ على التضامن، بينما يُساعد التاريخ على الاثنين معاً.