سفيان الضريف الزيارات: 3640
I. الهوية الجنوسية والتنشئة الاجتماعية
رغم أنه لا يمكننا الرفض بصورة مطلقة النظرية القائلة "أن العوامل البيولوجية تحدد أنماط السلوك للنساء والرجال" فإن البحوث والدراسات التي أجريت إلى حد الآن : والتي انطلقت من تساؤلات همت بالأساس النوع الاجتماعي - كيف يعني أن يكون الإنسان رجلا؟ وماذا يعني أن يكون امرأة ؟ _ وركزت هذه الدراسات المتأخرة عن الجنوسة والسلوك الجنسي من وجهة سوسيولوجية وسيكوسوسيولوجية معتبرة أن التفاعل الاجتماعي له النصيب الأكبر من حيث تشكل السلوك البشري[1] وإعطاء الفرد هوية جنوسية مناسبة لنوعه الاجتماعي، ويكون ذلك عبر عملية التنشئة الاجتماعية التي تنطلق من لحظة الولادة، ويتعلم فيها الجنسين الأدوار الجنوسية، وهذا ما سنتطرق إليه في الفصل الأول، حيث سنحدد مفهوم الهوية الجنوسية وكيفية تشكلها عند الطفل (الذكر)، كما سنتحدث عن التنشئة الاجتماعية ودورها في تشكل الهوية الجنوسية باعتبارها من الوسائل التي تساعد على فهم الطريقة التي يجري فيها تعلم الأدوار والتغير في السلوك بصفة عامة، والسلوك ألذكوري على وجه الخصوص.
الهوية الجنوسية وتشكلها عند الطفل:
يجدر بنا أولا قبل الحديث عن الهوية الجنوسية، التمييز بين الجنس sex والجنوسة gender ، إذ يستخدم الأول للدلالة على الفروق التشريحية والفيزيولوجية ؛ أي كل ما يرتبط بالخصائص الفيزيقية للجسد[2]. أما الجنوسة "gender" فهي كل ما يكتسب من الأفكار والتصورات لمعنى الرجولة والأنوثة، ويطلق عليها البعض "كروبرت ستولر" الدور الجنوسي أو السلوك الجنوسي[3]، وبالتالي فهي –الجنوسة- ليست نتاجا بالضرورة للجنس البيولوجي لدى الإنسان ولا تشير إلى الخصائص البدنية التي يختلف بها الرجال عن النساء، وإنما ترتبط بالسلوك المكتسب أو الدور الذي يتم اكتسابه اجتماعيا[4]، فالمخنث على سبيل المثال يصنف فيزيقيا باعتباره رجلا، ولكنه في الغالب تتخلله سلوكات أنثوية، ولهذا يمكن القول أن الهوية الجنوسية "gender identity " هي السمات المميزة لسلوكات الافراد (أنوثة /الذكورة)، والتي تتصل بماهيتهم وتحدد نوعهم الاجتماعي الذي هو تراكم لمؤثرات اجتماعية عديدة تنطلق من مرحلة الولادة إلى مرحلة النضج، أي أنها مستمرة مع الإنسان في كل مراحل حياته. ومن تم أمكننا التساؤل عن كيف تتشكل الهوية الجنوسية لدى الطفل ؟ وما نوع هذه المؤثرات التي تتحكم في سلوكاتنا ؟
مما هو مسلم به عند علماء الاجتماع وعلماء علم النفس الاجتماعي، أن لا الجنس ولا الجنوسة أمر مقدر مند الطفولة . إذ أننا نشهد في الآونة الأخيرة أبحاث علمية تؤكد وجود خمس أجناس، تتجاوزنا الوصف البيولوجي والظاهري ذكر/ أنثى، إلى الاعتماد على معايير مختلفة تهم بالأساس الطباع والدور، ففي مقالاتها الشهيرة والصادرة عن مجلة "the sciences "تؤكد " Anne Fausto-sterling" عن وجود خمسة تصنيفات "ذكر -أنثى- الخنثى الذكوري الكاذب- الخنثى الأنثوي الكاذب- الخنثى"[5]، أو من تم فنحن لم نعد أمام تصنيف لجنسين منفصلين غير متشابهين، وهذا راجع بالأساس إلى المؤثرات الاجتماعية التي يصادفها الطفل في مرحلة طفولته، فالجنوسة حسب "غدنر" "أمر نسهم نحن في صنعه وتنشئته خلال حياتنا اليومية، عبر تفاعلنا مع الآخرين...عبر الأفعال والممارسات التي نزاولها كل يوم بطرق مختلفة"[6]، وقد اختلف علماء الاجتماع حول الخصائص التي تتحكم في تشكل السلوك الجنوسي، فهناك من يعطي الأولوية للخصائص البيولوجية التي نولد بها باعتبارها أساس التمايز بين الرجال والنساء، وهناك فئة أخرى تولي الاهتمام بعملية التنشئة الاجتماعية مدافعين عن رأيهم من خلال إقامة تصنيف لميولات كل من الذكر والأنثى، فالذكر في مختلف المجتمعات يميل إلى العنف والحرب والمغامرة... وأصحاب هذا الرأي يركزون على سيكوسوسيولوجيا التربية التي تتمحور حولها مجموعة من الميكانزمات التعليمية كالتواصل و"التفاعل الاجتماعي" "Social interaction "، ذالك أن السلوك الجنوسي هو سلوك متعلم قابل للتعديل والتغير عبر مسلسل التنشئة الاجتماعية التي تلعب الدور البارز في مرحلة الطفولة بعواملها الاجتماعية الفاعلة (العائلة، وسائل الإعلام، المدرسة، الأقران) وتتشكل الهوية الجنوسية تبعا لذلك عبر التقليد أو التوجيه المباشر أو بواسطة طرق غير مباشرة للمجتمع المحلي والإعلام.
إذن فالناس يولدون إناثا أو ذكورا، ولكنهم يتعلمون كيف يكونون نساء ورجالا، وهذا ما يحدد جنسهم أو نوع سلوكهم(ذكر-مؤنث)، فكيف يتم تشكل الهوية الجنوسية عند الطفل؟
التنشئة الاجتماعية ودورها في تشكل الهوية الجنوسية:
من الواضح أن عملية التنشئة الاجتماعية لها من القوة الشيء الكثير ولا يجرؤ جميع الناس على معارضتها، فهي التي يتعلم من خلالها الأفراد كيف يصبحون أعضاء في الأسر الصغيرة وفي المجتمع المحلي وهذه العملية تكون مصاحبة للأفراد طيلة مراحلهم العمرية. والتنشئة الاجتماعية "Socialisation " على العموم :هي تلك العلاقة التفاعلية التي بواسطتها يتعلم الفرد المتطلبات الاجتماعية والثقافية التي تجعل منه عضوا في المجتمع، وتتضمن هذه العلاقة من الناحية النفسية؛ العادات والسمات والأفكار...ومن الناحية الاجتماعية؛ اكتساب الأشياء المسموح بها حسب الثقافة، وهي في الغالب تلقن للأفراد دورا في جماعته ويعي من خلالها الاختلاف بينه وبين الجنس الآخر[7].
وتنقسم التنشئة الاجتماعية إلى قسمين؛ أولية: وترتبط بالأساس بالمرحلة الأولى التي ينشأ فيها الطفل داخل الأسرة، ثم الثانوية: والتي تمتد على المسار العمري للأفراد وفيها ينتقل الطفل من المجتمع المصغر (الأسرة) إلى المجتمع الواسع (المحيط الاجتماعي)[8]، ومن خلال هذه التنشئة الاجتماعية بنوعيها الأولية والثانوية، يتم تشكل الهوية الجنوسية أو السلوك الجنوسي بشكل تدريجي، فالطفل يولد حاملا للعنصر البيولوجي، لكنه يتعلم السلوك الجنوسي عبر اتصاله بالعوامل الفاعلة في عملية التنشئة الاجتماعية، ويلقن بصورة تدريجية المعايير والتوقعات التي تناسب جنسه سواء ذكرا أم أنثى، وتتحكم في هذه العملية أنماط الجزاء الايجابية والسلبية، أي القوى والمؤثرات الاجتماعية التي تجسد أو تنهي عن سلوك معين، فعلى سبيل المثال يقال للطفل الذي يقوم بعمل مميز "أنت شجاع" أو يتلقى ما يشبه العقوبة عندما يقال للطفل الذكر مثلا "لا تلعب بهذه الدمى لأنها للبنات فقط"، وكلها أدوات توظف لضبط السلوك وتوجيهه نحو نوع ملائم ومناسب له، وتسمى هذه المنبهات "بالتعزيزات"، لأنها تعزز للأطفال السلوك المناسب لهم، وتساعدهم في تعلم أدوار الجنس الخاصة بهم.
وتشترك في عملية التنشئة الاجتماعية أنواع خاصة من المؤثرات أو ما يعرف في علم الاجتماع بالمؤسسات الاجتماعية التي يجري من خلالها اكتساب السلوك، ومن جملة هذه المؤثرات؛ الأسرة، المحيط الاجتماعي، والإعلام...[9].
أ- الأسرة:
تعتبر الأسرة كأول مؤسسة تقوم بتنشئة الطفل، إذ تلعب الدور الأساسي في نقله من التنشئة الأولية إلى الثانوية، أي إخراجه من المحيط الأسري إلى المحيط الاجتماعي عبر سياستها الداخلية التي تعتمد على المديح والابتعاد عن العقاب، أو اللجوء إليه في بعض الأحيان لتحقيق المطاوعة الاجتماعية[10]، وتلقن الطفل مجموعة من المبادئ والسلوكات الضرورية لمساعدته على التكيف الاجتماعي "Adaptation social"، وتحتوي الأسرة في داخلها بالإضافة إلى ذلك آليات مباشرة وأخرى غير مباشرة تمكنها من تطبيق عملية التلقين، فأما المباشرة: فالأسرة تعتمد مثلا على توجيه الطفل إلى الأماكن الخاصة بجنسه، كأن تحثه على اللعب مع أفراد من جنسه واللعب بألعاب ملائمة لنوعه الاجتماعي، وتعمل الأسرة أيضا على تعزيز سلوكه من خلال اختيار الزي المناسب له، في حين نجد الآليات غير المباشرة متعددة، وتقوم على التشجيع بطريقة لبقة، كأن تبدي الأسرة إعجابها من الطفل الذكر بقول الأب مثلا : "أنت رجل البيت" أو للمؤنث" أنت أحلى البنات"، مما يولد لدى الطفل كينونة التميز لنوعه الاجتماعي الذي ينتمي إليه، وينضاف إلى ذلك أسلوب التقليد الذي ينتهجه الطفل عادة لأنه يدخل هذا العالم دون بوصلة تحدد مساره، مما يولد لديه خلط في السلوكات التي يجب إتباعها، فيصبح مقلدا لأي سلوك يصادفه، ويأتي دور الأسرة هنا لتوجيه هذا السلوك بطريقة غير مباشرة نحو ملائمته لجنسه، فمهمة الأسرة في نهاية المطاف تكمن في تنشئة الطفل لتعلم دوره الاجتماعي الخاص به حتى يتحاشى الوقوع في الخلل النوعي .
ب- المحيط الاجتماعي:
بعد التنشئة الاجتماعية الأسرية التي يتلقاها الطفل أو ما يعرف بالتنشئة الأولية، يأتي الدور على المحيط الاجتماعي، والذي يعتبر فاعل أساسي في مسلسل بناء الهوية الجنوسية فالطفل لحظة إطلاله على محيطه الاجتماعي يبدأ في اكتساب مجموعة من الأدوار المنوطة به، وذلك من خلال تفاعله مع الآخرين من حوله (الأقران)، وبالتالي فهذا التفاعل يصنع لدى الطفل ميكانيزمات الإدراك، يعدل من خلالها سلوكه طبقا للوضعية التي يعيشها مع أفراده[11]، فما يميز الطفل في مرحلته الطفولية هو قلة عزلته عن الناس، إذ بينت الدراسات التي قام بها "وليام دواز" أن 88% من الأطفال يوجدون في تفاعل مستمر مع الأقران من محيطهم الاجتماعي المحلي، وبالتالي فإن هذا الأخير يلعب دور الأسرة والمدرسة في مرحلة التنشئة الاجتماعية الثانوية، التي يكون فيها الطفل تحت تأثيرات عديدة يلعب فيها الصراع وتبادل المعارف دورا بارزا في تكوين الشخصية ككل، والدور الجنوسي على وجه الخصوص, فاشتراك الأطفال في اللعب الجماعي يكون بمثابة تمرين أو تدريب لما تلقاه في أسرته.
إذن فالتنشئة الاجتماعية لها دور كبير في تشكيل الهوية الجنوسية للطفل، سواء داخل الأسرة أو خارجها في المجتمع المحلي أو عبر مؤسسة الإعلام...فهي عملية ترادف مصطلح التعلم الاجتماعي، وباختصار فإنها عملية تكيف الفرد مع نوع السلوك الذي يتلاءم والأقران من جنسه، ويحدث هذا التكيف عبر صيرورة لا متناهية، تنطلق من الاحتكاكات الأولى للطفل مع أسرته ثم في علاقته مع زملاءه وأصدقاءه في اللعب، وشيئا فشيئا يستطيع الطفل الشعور بهويته الجنوسية*. فكيف تتم تنشئة الطفل الذكر لسلوكه الذكوري؟.
II. التنشئة الاجتماعية عند الذكور
رأينا كيف أن التنشئة الاجتماعية تخرج الأفراد من طابعهم الفطري إلى الطابع الاجتماعي عبر مؤسساتها المتعددة، التي كما قلنا تلعب دورا في تهيئة الطفل للتكيف مع المحيط الاجتماعي المحلي من خلال تلقينه السلوك الجنوسي الملائم له، وفي هذا الفصل سنتطرق إلى موضوع التنشئة الجنوسية عند الذكور. كيف تتشكل لتصنع لنا سلوكا ذكوريا مناسبا؟ وما معنى الذكورة؟ وكيف يمكن أن يكون الإنسان ذكرا؟
السلوك الذكوري وكيفية تشكله عند الطفل:
ليست الذكورة أمرا مقدرا منذ اللحظة التي يتكون فيها الإنسان قبل تسعة أشهر من ولادته، بل إنها أمر تسهم في تنميته عدة مميزات في الحياة اليومية، فعلى الرغم من اعتبار أن الخصائص البيولوجية للذكر تختلف عن نظيرتها عند الأنثى، إلا أنها ليست معيار ثابت لضبط السلوك الناتج عنها*، لذلك فليس كل من هو ذكر بيولوجيا له سلوك ذكوري بالضرورة.
والذكورة كمفهوم تحمل مجموعة من الطباع والسلوكات المكتسبة من طرف الفرد بصفته ذكرا، وهذا ما يسمى بالهوية الذكورية التي عبرها يتعلم الفرد ما معنى أن يكون ذكرا؟ وكيف يمكن أن يكتسب الصفات الذكورية؟ وبالتالي فنحن هنا أمام معطى اجتماعي يحول إلى عنصر أساسي في تكوين الهوية الجنوسية .
ويكتسب الطفل سلوكه الذكوري عبر قنوات متشعبة ومتشابكة فيما بينها، إثر عيشه لحظات مغامراتية في صيرورة التفاعل مع الأقران وعبر اللعب الجماعي (ككرة القدم)، حيث يتلقن من خلالها أساليب العنف والقوة. وينضاف إلى اللعب الجماعي مع الأقران؛ مشاهدة الأفلام، إذ تبين الدراسة التي أجراها "Colin stokes" حول "كيف يتعلم الأطفال الذكورة من خلال الأفلام" أن هذه الأخيرة تلعب دورا كبيرا في تلقين الأطفال معنى الذكورة، فالدراسة الميدانية التي قام بها، أكدت أن الطفل عند مشاهدته فلم مغامراتي بطله ذكر، يبدأ في استيعاب دوره الاجتماعي تدريجيا عبر عمليات التقليد، والتدريب أو المران وكل هذا ناتج عن تأثر الطفل بالشخصية البطلة[12].
فالتقليد "limitation" يلعب دورا في عملية التكيف الاجتماعي لأنماط السلوك المكبرة للطفل الذكر، فهو يكسبه-التقليد- بطريقة لا شعورية قواعد الذكورة وتمكنه من تمييز صنفه، ذلك أن ثقافة البطل كما يتحدث "Conil" هي ثقافة تخترق كل طفل وتجعله يتصور ذاته مكان الشخصية البطلة مما يخلق له نوع من التأثير وتجعل من هذا الأخير قدوة للطفل، في حين أن المران أو التدريب؛ فهو على غرار التقليد حسب المدرسة السلوكية، إذ يعتبر من قوانين التعلم، ويعني سبغ السلوك الذكوري بالاستعمال و التكرار و الممارسة و يضعف بالإغفال، وهنا يكمن موطن استجابة الطفل لفلم البطل من خلال تمرنه وتمثيله لدور الشخصية الذي تم رسم صورتها في مخيلته.
ويمكن تلخيص مراحل تعلم الدور الذكوري عند الطفل في ثلاث مستويات رئيسية حسب التجارب الميدانية الني قمنا بها، وهي:الأسرة، الإعلام، وكذا التفاعل الاجتماعي من خلال المحيط الاجتماعي (الأقران)، وانطلاقا من التساؤل التالي :
ــ كيف تتم تنشئة الطفل لتعلم السلوك الذكوري ؟*
قمنا بدمج عدة أسئلة فرعية مرافقة لهذا الإشكال كان أولها:
1- ما نوع المعاملة التي يعاملك بها والداك؟
(ثمانية) أفراد جاءت إجاباتهم؛ "أن معاملة الأم كانت تطبعها العاطفة والحنان والألفة، بينما معاملة الأب كانت تتخللها مواقف الجدية والانضباط ، " فحسب تعليق أحد أفراد العينة؛ أنه بمثابة ربان المنزل"، ولعل هذا المعيار المرتبط بمعاملة الأب؛ هو في حد ذاته معيار ناجح في إنشاء سلوك ذكوري، فالأب يمثل القدوة بالنسبة للطفل في كل مراحل حياته التي يتشرب خلالها معنى الذكورة والرجولة، وهنا "Bowlby" يعتبر أن دور الأب محوري وأساسي لتنشئة ذكورية، فإذا ما غاب الأب أو انفصل عن الطفل في مرحلة مبكرة ولفترة طويلة من العمر، ينشأ عنه الحرمان من الأبوة، ويعاني الطفل إثر ذلك صعوبات جمة في تشرب هوية جنوسية[13] مغايرة، ويرى"Bowlby " أن ضمان اكتساب النوع الاجتماعي للذكر رهين بإقامة علاقات حميمية وشخصية دائمة مع الأب، وهذا ما توصلنا إليه من خلال بحتنا الميداني، إذ تم استنتاج أن الأب يلعب دور الضبط والتأديب خلال عملية التنشئة الاجتماعية، وهذا ما أكدته كذلك عالمة الاجتماع " chodorow" إذ ترى أن شعور الطفل بأنه ذكر ينبع من علاقته بالأب منذ مرحلة مبكرة جدا، وفي نفس الوقت لا نغفل الدور الذي تلعبه الأم في مرحلة الرضاعة حيث تكون علاقتها مع الطفل أكثر تعمقا من الأب والتي من خلالها تنمي لديه وعي لذاته ككيان منفصل عنها[14] .
2- ما نوع الألعاب التي كنت تلعب بها في مرحلة الطفولة وأي الجنسين يشاركك فيها ؟
تمت الإجابة على هذا السؤال بأشكال مختلفة من حيث "نوع الألعاب"، لكن معظمها من حيث المضمون تتفق على كونها تنافسية وتعتمد على اللعب الجماعي مع الرفاق من الذكور، ومن بين هذه الألعاب التي ذكرت: (طَرْوَابّة، لاَزْكَة، كرة القدم، بُولِيسِي وشُفار،غُميْضَة ...) وهي كلها جماعية بينما الألعاب الفردية التي ذكرت: (عجلة اليد "الدّريْجَة"، الطائرة الورقية، الفرفارة، الطرومبية)، وكلها ألعاب تهم الجنس الذكوري وتدل على نوع من المنافسة كما أنها تؤدى خارج البيت، أي في "الحي" الذي يمثل الفضاء الترفيهي بالنسبة للطفل، وبالتالي فاللعب كمعيار يمثل فكرة الإعداد والتدريب للسلوك النوعي الذكوري، وتعكس هذه الألعاب المذكورة، الحركة السريعة استخدام القوة البدنية أو العضلية في صورة (الشد والقفز والجري...) مما يولد لدى الطفل، طاقة القوة العضلية والتي تتمثل في" الضرب بالرجل أو بقبضته اليد مع الشد من الملابس والجدب إلى الإمام والخلف في صورة العنف" عكس ما تفعله الإناث "الشد من الشعر والعض والبصق والاكتفاء بالشتم و البكاء في أكثر الحالات".
ونخلص إلى أن معيار اللعب يمثل نوع من المران من أجل التعلم واكتساب هوية جنوسية ذكورية عبر مجموعة من الخصائص "كالقوة، العنف، المنافسة، الصمود وعدم البكاء أو الخوف"، ومن تم فاللعب يؤثر على الفتيان في مرحلة الطفولة المبكرة، وعبره يتم تحديد أسس القوالب النمطية للدور الذكوري في وقت مبكر. ويجب ألا ننسى أحد أبرز المتغيرات ويتمثل في "نوع الجنس" الذي يتم معه اللعب باعتباره مقياس لاكتساب السلوك، وحديثنا عن هذا المتغير -الرفاق- يحيلنا إلى نوع آخر من التنشئة الاجتماعية؛ وهي لحظة خروج الطفل من المنزل والتأقلم مع جماعة الرفاق، وكما ذكرنا سالفا أن جميع الإجابات عن السؤال الأخير وبالتحديد عن "النوع الجنس الذي يشاركه اللعب"، أفادت "أن الرفاق أو الأصدقاء يتكونون من الذكور" أي من نفس الجنس, ومنه فإن متغير "نوع الجنسي" يشكل ضرورة حتمية في تنشئة الأطفال، ويتخذ هذا المقياس عدة أشكال، إما رفاق الدرب أو أقرباءه من نفس العائلة أو المدرسة أو من الأحياء المجاورة، فوجود هذه الشلة من الرفاق المطابق لنفس الجنس (الذكر)، ينتج بالضرورة سلوك ذكوري نظرا لتأقلم الطفل مع هذه المجموعة، وتسمى هذه العملية في علم النفس الاجتماعي "بالتفاعل الاجتماعي" ”Interaction Social”، إذ يتفق أصحاب هذا العلم أن السلوكات التي يكتسبها الأفراد تتم عادة عبر الاتصال والتفاعل بين أعضاء المجموعة، ومن أشكاله؛ التنافس، والتوافق والصراع، وهذا التفاعل بين الأفراد من نفس الجنس، يِؤدي إلى "التأثير الاجتماعي" المتبادل " Influence Social" في جميع الأصعدة (السلوكات وأفعال الآخرين...)، ويربط "Maisonneuve" هذه العملية بتقنية "التغذية الرجعية" "Feedback"[15] أي عند صدور سلوك من قبل فرد (أ) كمثير عند فرد آخر (ب)، يصبح أيضا وفي نفس الوقت الفرد (ب) مثيرا للفرد (أ).
وهذا ليس من شأنه إلا إعطاء تنشئة اجتماعية جماعية لنفس السلوكات الصادرة من أفراد الجماعة، وهذا ما خلصنا إليه، عند متغير "اللعب الجماعي" الذي يصاحبه عدة أساليب من التفاعل الاجتماعي، بحيث تصبح العلاقة مع أفراد الجماعة ذات طابع؛ تواصل وتأثير وتبادل ليس فقط للقيم وللأفكار والمشاعر، وإنما أيضا للسلوكات ولردود الأفعال، ولتوضيح هذا الجزء المرتبط بالتفاعل الاجتماعي بين الأفراد، نستعرض أهم النظريات التي تحدثت عن التفاعل الاجتماعي ودوره في تشكيل السلوك الذكوري.
(أ)-السلوكية:
تتركز مبادئ المدرسة السلوكية في عملية التفاعل الاجتماعي بين الأفراد والجماعات على نظريتي "المثير والاستجابة" ثم "التعزيز"، وهذا ما أوضحناه سابقا في مسألة "المران والتدريب"*.
(ب)- المقاربة السيكوتكوينية عند بياجيه:
يتساءل "بياجيه" في أبحاثه المنصبة حول "نمو المعرفة لدى الطفل"، «عن الكيفية التي يمكن بها العالم الخارجي أن يتحول إلى عالم داخلي» وينطلق من مسألة مهمة وهي مسالة الاستيعاب الذهني للطفل والتي تساعده على الاندماج في بنيات الواقع الاجتماعي، ويقول "إن الإنسان منغمس منذ ولادته داخل وسط اجتماعي يُؤثر عليه ... ويوفر له نسقا من المؤثرات القائمة على تعديل سلوكاته"، وخلاصة تفكيره أن نشاط الأطفال لا يتحقق بمعزل عن المعارف المنقولة إليهم عبر التربية . ويتحدث بياجيه عن مجموعة من التفاعلات الاجتماعية التي تختلف بتطور الصيرورة الثمانية للطفل، انطلاقا من المرحلة الحسية الحركية إلى ما قبل الإجرائية ثم الصورية، فالأولى تبدأ (منذ الولادة إلى سنتين) ويكون فيها الرضيع موضع مؤثرات اجتماعية متعددة، تمنحه أقصى الرغبات وتطبعه بعادات وضوابط، وتمتعه ببعض التصرفات، لكنه يكون عاجزا عن التفاعل، نظرا لتمركزه حول ذاته وعدم وعيه. والمرحلة الثانية وهي (ما قبل الإجرائية من2 إلى7 سنوات)، ويتحدث بياجيه في هذه المرحلة عن اكتساب الطفل للغة، وقدرته على التمييز بين الدال والمدلول، فاللغة نظام قائم من المفاهيم والتصنيفات، وهنا أمكننا الحديث عن دور الروايات الشفهية والقصص المحكية التي تروى من طرف الأم أو الأب، أو القصص التي تحتوي على الصور الملونة والتي من خلالها يدرك مجموعة من الإشارات والرموز، إذ تعطي للطفل تصور حول الواقع الذي بصدد الخروج إليه وتبرز له الاختلافات بين الأجناس من حوله، وهذا ما تحدث عنه "بياجيه" في كون اللغة التي يكتسبها الطفل في هذه المرحلة تجعله يميز ويصنف العلاقات والأجناس وغيرها من المدلولات وهذا ما يدل على بداية اجتماعية لسلوك الطفل.
وفي هذا الإطار تضمن بحتنا الميداني التساؤل التالي:
-كيف كان شكل القصص التي قرأتها في صغرك؟
فكانت ستة إجابات تقول أن هذه القصص ذات حوارات مصغرة ومتضمنة صور تعبيرية كتجسيد أو وصف هذه الحوارات، وهو ما يدل على أن معيار "القصص المحكية" أو المصورة تلعب دورا كبيرا في نمو الطفل بحيث من خلالها يدرك الاختلافات والتمييزات في شتى المجالات؛ (الحيوانات فيما بينهم، بين الإنسان والحيوان، ويدرك في الإنسان صفات الذكر/ المؤنث، الرجل/ المرأة...) أي أنه يستوعب العالم الخارجي من خلال نوافذ القصص والكتب.
وبالإضافة إلى المرحلتين السابقتين نجد مرحلة ثالثة وهي (المرحلة الإجرائية والصورية من(7 إلى 16 سنة): أهم ما يميز الطفل في هذه المرحلة؛ هو انتقاله إلى التفكير الاجتماعي ووعيه بالحاجة (للرفاق)، وتتميز هذه المرحلة أيضا بظهور عملية "التعاون" "coopération" والتي يقرها بإقامة علاقات اجتماعية تفترض نفس الجنس لقيام سلوك سوي، فالتعاون هو منبع للتفكير والوعي بالذات، أي أنه طريقة للمراقبة المتبادلة والتحقق من المجال العقلي والجسدي والسلوكي[16]. فمن خلال مقاربة بياجيه يتضح أنه يركز على التعاون بين الأفراد كعامل أساسي في التفاعل الاجتماعي، إذ ربط هده الخاصية "بالاستيعاب" والذي يتحقق لدى الطفل جراء اندماجه في نوعه الاجتماعي.
(ج)-المقاربة السوسيوتكوينية :
يرى أصحاب هذا الاتجاه وعلى رأسهم "Lyv vygosky" أن المعرفة – العادات، اللغة، الثقافة- التي يكتسبها الطفل، تبنى بالدرجة الأولى بواسطة المجتمع؛ أي عن طريق العلاقات الاجتماعية التفاعلية التي ينخرط فيها منذ ولادته، وهنا تتحقق أحد الفرضيات التي انطلقنا منها، وهي" أن السلوك الذكوري يبنى اجتماعيا"، فإذا كان "بياجيه" يعطي الأهمية في مقاربته للأقران من نفس السن والجنس، فإن "Vygosky" يركز على دور الراشد في عملية التعلم وتشكل البنية العقلية التي من خلالها يدرك نوعه الاجتماعي تدريجيا. كما أنه يولي اهتماما للانخراط في الأنشطة الاجتماعية والثقافية، ذلك أن مشاركة الطفل في نشاط معين، يحصل بينه وبين الراشدين تفاعلا، فيعمل هؤلاء تحت مبدأ التوجيه على تنظيم عملية التفاعل وفق ما تمليه الأنماط الاجتماعية والثقافية، وفي هذا الصدد طرحنا على أفراد العينة السؤال التالي:
-ما نوع الأنشطة التي كنت تزاولها في صغرك؟
فكانت أغلب الإجابات على الشكل التالي:
(المشاركة في كرة القدم- المشاركة في حملات النظافة المدرسية- المشاركة في أعمال المسرح المرتبطة بنهاية الموسم الدراسي...)
وفي تفاصيلهم حول أنواع الأنشطة التي يقدمونها خلال هذه الأنشطة، يصرحون في حملة النظافة المدرسية مثلا:" نقوم بغرس الأشجار ورمي الزبال في مكانها المخصص، بينما الإناث يقمن بتزين الجدران بالزينة وتنظيف الجدران والنوافذ وتخميل الأقسام..." ولعل هده الإجابات تبين مدى إدراك الأطفال من خلال الأنشطة التي يقومون بها بدورهم الاجتماعي، وفي الإجابة عن "الدور الذي يلعبونه في الأعمال المسرحية" يجيبون:(أقوم بدور الزوج الفقير... ألعب دور الحارس...,أمثل دور المنحرف"الشّمْكَار"...).
ولعل هذه الإجابات تصور هي الأخرى دور الأطفال وهم يقومون بأدوار رجولية، تعتبر كرموز تعطي الطفل سلوكا ذكوريا، وبالتالي فهي تمكن الطفل حسب "فيكوتسكي" من الانتماء الإرادي لوضعية السلوك التي يجب أن يتخذها، سواء في المسرح أو في الواقع الاجتماعي.
وعلى العموم فإن كل هذه المقاربات تركز على دور التفاعل في نمو التفكير وإدراك الفوارق لضبط السلوك وتعديله، بالإضافة إلى الوعي بالنوع الاجتماعي، من خلال المحيط الاجتماعي سواء عبر اللعب مع الأقران من نفس الجنس أو المشاركة في نشاطات جماعية بوجود راشد في وضعية المراقب والموجه لسلوك الطفل. وخلاصة القول أن اللعب الجماعي الذي يقوم به الأفراد يؤدي وظائف هامة في حياتهم، فمن خلاله يكتسب الطفل كما رأينا الأدوار الحياتية الملائمة لجنسه، فالتفاعل أثناء اللعب يمتاز بسرعة تمرير المواقف واستخدامها، وهنا أمكننا الحديث عن فوائد اللعب التي استخلصناها من بحثنا والتي تعد مرحلة أساسية لتشكل هوية جنوسية ذكورية لدى الذكر، إذ يساعدهم – اللعب- على نمو مهارتهم الحركية "القفز، الجري، التسلق،... "وينمي لديهم ميكانزمات رجولية، "فعن طريق اللعب يمكن القيام بالتطبيع الاجتماعي للأطفال وتحديد أدوار كل من الذكور والأناث"[17].
ويمكن القول في هذا الصدد أن اللعب الذي يخضع إلى نفس الجنس يصبح فيه الأفراد واعين منذ سن مبكرة بسلوكهم الذكوري، وهذا ما يبينه نوع الألعاب التي يميلون إليها (تنافسية) كما أن أنواع اللعب ترتبط ارتباطا وثيقا بالتدعيم الاجتماعي للسلوك الذكوري وبعملية. هذا بالإضافة إلى توصلنا أن الأطفال الذين اكتسبوا السلوك الذكوري يميلون لتكوين علاقات اجتماعية مع أبناء جنسهم أكثر من تكوين علاقات مع الجنس الآخر وهذا يدل على اندماجهم في ثقافة الانتماء للنوع الاجتماعي"أنا دَرّي"، "أنا راجل...".
إذن فاللعب في نهاية المطاف ليس طريقة للتسلية والترفيه أو تمضية الوقت فقط، وإنما يعد أيضا وسيلة للتربية عبر تمرير أفكار وسلوكات مناسبة للأفراد.
وكاستنتاج لذلك فإن تشكل السلوك الذكوري من خلال اللعب، يخضع لقوانين وضوابط تنمي هذا السلوك وتجعله يتناسب والبنية البيولوجية للذكور، وهذه القوانين تتمثل في نوع الألعاب التي يلجأ إليها الطفل ونوع الجنس الذي يلعب معه، وقد تتطلب أيضا هذه الضوابط في بعض الأحيان، وجود الراشد كمراقب أو موجه لسلوكات الطفل، لكن يبقى العامل الأساسي هنا هو اللعب مع نفس الجنس حتى تتلاءم سلوكات الذكر (أ) مع سلوكات وأدوار الذكر(ب).
وبخصوص البحث الميداني الذي قمنا به - خصوصا في جانب الملاحظة- توصلنا إلى وجود معيار آخر يرتبط بعملية التفاعل الاجتماعي ولا يقل أهمية عن معيار(الجنس- نوع اللعب) لما له من أهمية في تشكيل الأنماط السلوكية المناسبة للذكر، ويتمثل هذا المعيار في التقليد الذي لا يمكن فصله عن لعب الأطفال أو نشاطاتهم الطفولية، لأنه يشكل جزءا من الطبيعة البشرية، فلعب الطفل الراشد مثلا يكون بمثابة القدوة للطفل الصغير، فعن طريق ملاحظة هذا الأخير لسلوكات الراشد، يستوعب "Assimilation" ويسْتدخل "Intériorisation"مجموعة من الحركات والسلوكات في ذهنه، ويجري تطبيقها في فضاء لعبه مع أقرانه، -كما أوضحنا سلفا- إن بطريقة عفوية أو إرادية.
والتقليد "Limitation" كما يعرفه علماء النفس؛ هو بمثابة التقمص الكلي أو الجزئي للشخصية، ويعرفه علماء الاجتماع وعلماء النفس الاجتماعي بكونه محاكاة تتطلب ارتباطا عاطفيا بالنموذج، ويتم فيه تقليد أنماط السلوك والأدوار.
فالأطفال كما أشرنا هم أكثر ميلا للتقليد والمحاكاة من الكبار، وذلك لأنهم الأقل تحكما في إرادتهم، وبعبارة أخرى التقليد هو الإعادة والإثارة غير الإرادية لحركة أو سلوك معين، وهنا يتحدث "وليم جيمس" ورفاقه؛ بكون "التقليد جزء من الطبيعة البشرية وميل غريزي للقيام بما يقوم به الآخرون،... وهو شكل من أشكال التعلم الاجتماعي"[18]. ويتحدث "R.Church " عن التقليد باعتباره " الإشارات التي تنقل من أفراد كبيري السن إلى من هم أصغر سنا عبر المهارات، السلوك، اللغة، الألعاب، العادات، الأساليب..."[19].
فالتقليد يرتبط هو الأخر بالتنشئة الاجتماعية التي ينشأ فيها الأطفال خاصة داخل المرحلة الأولى من الطفولة والتي يكون فيها الطفل في خانة الملاحِظ أو المراقِب لسلوكات وحركات وكذا طرق اللباس والمشي...، فيَعْمَد على إعادتها وتقليدها، ولهذا يشكل التقليد معيارا أساسيا لتعلم الطفل السلوكات الملائمة لجنسه، كأن يقلد الطفل (الذكر) أباه أو إخوته الذكور أو أساتذته..، أو أن تقلد الفتاة أمها أو أختها التي تكبرها...
وبصدد الحديث عن التقليد طرحنا على أفراد العينة السؤال الأتي:
-أي السلوكات تذكر أنك قلدتها في طفولتك؟.
• الإجابة 1: ستة أفراد "كانوا يقلدون أباهم في حلاقة الذقن".
• الإجابة2: أربع أفراد " قلدوا أخاهم الأكبر؛ إما في طريقة عتابه لإخوته أو نظراته أو تسريحة شعره".
• الإجابة3: فردين "قلدوا المعلقين الرياضيين".
من خلال هذه الإجابات نجد أن الأطفال يميلون لتقليد سلوك ذكوري (أخ أو أب أو معلق رياضي) وبالتالي فإن هؤلاء الأطفال تعلقت تنشئتهم بتعلم سلوكات ذكورية.
وطرحنا أيضا على نفس أفراد العينة السؤال الأتي:
-ما موقف أوليائك إن قلدت سلوكات الفتيات؟
معظم الإجابات تقول:"كِي خَاصْمُوا عْلِيَّا... تْقُولوا لِيّا عَيْب، مالك وَلِّيتِي بِنْت".
ولعل هذه الإجابات لها بعد رمزي "لفظي" يحيل إلى إقامة قطيعة بين سلوكات الذكر والأنثى، لتتم تنشئة الطفل (الذكر) بعيدا عن المؤثرات الاجتماعية التي قد تقيم خللا في عملية التعلم.
ولم تعد الأسرة فقط المتحكمة في عملية التنشئة كما رأيناها، وإنما تدخل في ذلك أنماط عديدة لتكوين سلوك سوي، ونذكر منها المدرسة والمحيط الاجتماعي وكذا الإعلام الذي يعتبر أخطر هذه المؤثرات التي يصادفها الطفل، وذلك جلي من خلال أوقات الجلوس أمام التلفاز، مما يجعلهم أمام نوع آخر من التقليد وهو تمثيل ما يشاهده من البرامج المتلفزة. وفي هذا الإطار طرحنا هذا السؤال:
-ما نوع البرامج التي كنت تفضلها في طفولتك؟
• سهيل :"في سني 6 أو 7، كنت لا أفارق مشاهدة مسلسلات الرسوم المتحركة التي تعرض...كنت أحب مشاهدة (ماوكلي- النمر المقنع- كابتن ماجد- فلة...) ولا أمل من مشاهدتهم، وكنت متأثرا بركلة كبتن ماجد..".
• أشرف:"كنت أشاهد الرسوم المتحركة خاصة(كونان) لدرجة أني أصبحت أقوم بطرح الأسئلة في كل الأشياء التي أجدها أمامي كما لو كنت شرطيا... وكنت أحب الأفلام الهندية..."
• عبد الواحد:" تأثرت بالأفلام الأجنبية كثيرا، خاصة منها أفلام(سوبرمان- باتمان- سبايدرمان)، «ههههه» أذكر أني كنت يوما في المدرسة وصعدت إلى أحد المنحدرات التي تتواجد داخلها مرتديا "قلع" على ظهري فقفزت وأنا أقول (سووووبرمان) وانتهى بي المطاف في المستشفى وأنا مكسور اليد".
لعل هذه المقابلات الثلاث تبين الدور الذي يلعبه الإعلام في تلقين الأطفال مجموعة من الحركات والسلوكات والأفكار حول العالم الخارجي، والتي من خلالها يتم تقليدهم لأبطال الأفلام أو لاعبي كرة القدم، "فسهيل"- مثلا- يقلد طريقة ركلة الكرة عند أحد أبطال الكرتون (ماجد) و"أشرف" يقلد دور شرطي(كونان) و"عبد الواحد" تَشَرّبَ أساليب المغامرة بطرق غير مباشرة... وجميعها سلوكات توحي بكونها ذكورية، تدعم بواسطة (القفز، الجري واستخدام القوة...) وبالتالي جاز القول أن التقليد له دور مهم في اكتساب السلوك الذكوري، فهو ظاهرة أساسية في عملية التأهيل الاجتماعي للطفل، ولا يرتبط كما رأينا بالأسرة والمحيط الاجتماعي فقط، وإنما يشمل أيضا الإعلام الذي يتحقق فيه مفهوم "المثير/ الاستجابة" عند المدرسة السلوكية.
ويلعب التقليد "Limitation" دورا هاما في "التكيف" مع السلوك في المراحل المبكرة من العمر، إذ نلاحظ أن أنماط السلوك المبكرة تكتسب إلى حد كبير بطريقة لاإرادية.
♦ استنتاجات:
◄الخصائص البيولوجية ليست معيار ثابت لضبط السلوك الجنوسي.
◄السلوك الذكوري هو سلوك مكتسب عبر مجموعة من القنوات المتشعبة خاصة منها المرتبطة بمؤسسات التنشئة الاجتماعية.
◄تلعب الأسرة دور التنشئة الاجتماعية الأولية للطفل من خلال مراقبته وتوجيهه لضبط سلوكه.
◄الألعاب التنافسية تعتبر معيارا أساسيا لتنشئة الطفل ذكوريا، خاصة منها الألعاب الجماعية والتي غالبا ما تكون خارج إطار المنزل(المحيط الاجتماعي –المدرسة...).
◄يعتبر متغير "الرفاق" أيضا معيارا أساسيا في هذه العملية – اكتساب هوية جنوسية ذكورية – شريطة أن يكونوا من نفس الجنس (الذكور) لتحقيق تفاعل اجتماعي متجانس.
◄التقليد والتمثيل وسماع / قراءة قصص تحتوي صور ملونة...، كلها معايير تهيئ للطفل تنشئة ذكورية.
◄يمثل الإعلام أهم أساليب التنشئة الاجتماعية الجنوسية، ذلك أن الطفل يقضي معظم أوقاته قرب التلفاز أو مشاهدة كتب مصورة مما تأثر بشكل غير مباشر على سلوكاته .
السلوك الجنوسي يحدد ثقافيا:
يمكن الوقوف في هذا المحور عند التعريف الشهير "لتايلور"عن الثقافة معتبرا إياها "كل ما يفهم من العلم والعقيدة، الدين والأخلاق، القانون والتقاليد، وكل الملكات الأخرى والعادات، أو كل ما يكتسبه الإنسان باعتباره عضوا في المجتمع".
ومن ثم، فهذا التعريف يبين لنا الدور الثقافي الذي يسْتدخله الفرد عبر الأنشطة الثقافية "البَرّانِيَة" أي التي توجد خارج الإنسان وتأثر عليه في كل مناحي الحياة، وبالتالي فالطفل هو الآخر جزء لا يتجزأ من هذا المجتمع الثقافي، يكتسب عادات وتقاليد وأفكار... ويبني سلوكه من خلالها حتى يستطيع في الأخير تحديد هويته وانتماءه. وتتعدد السمات الثقافية في هذه المسألة التي تعد فاعلا في بناء هوية جنوسية ذكورية، ونذكر منها؛ "اللباس"* الذي يشكل في غالبية المجتمعات رمزا للنوع الاجتماعي، فالطفل مند نعومة أظافره يشعر بثقافة اللباس الذكوري، وإلا ما كان ليسأل أمه "لماذا لا أرتدي مثل ملابس فلانة؟..." وكثيرا هي الأسئلة التي تطرح في هذا الصدد؛ ففي المجتمع المغربي مثلا نجد أن الأسر تشتري ألبسة مناسبة للذكر حتى يتم استدماجه في جماعته الذكورية، وهذا في حد ذاته ضبط و توجيه من طرف الآباء لسلوكات أبنائهم. وبالإضافة إلى اللباس نجد أيضا نوع آخر مرتبط "بالتفرقة في النوم" باعتباره متغيرا حاضرا في جميع الثقافات خصوصا منها المحافظة، فبواسطته يكتسب الطفل ثقافة جنوسية يعي من خلالها اختلافه عن الجنس الآخر. إذا فهو مقياس يمكننا من معرفة درجات بناء سلوك جنوسي يتوافق مع جنسه البيولوجي، وهذا ما توصل إليه بحتنا عندما طرحنا على أفراد العينة السؤال التالي:
- هل كنت تنام باستمرار في مرحلتك الطفولية بجانب أختك؟
رغم أن الإجابات كانت مختلفة حسب متغير "الطبقة الاجتماعية" (الفقراء والطبقة المتوسطة: عدم وجود غرف كثيرة تحتم عليهم النوم داخل غرفة واحدة لكن في أمكنة متفرقة/ الطبقة الاجتماعية الميسورة: ينامون في غرف معزولة) إلا أنهم يتفقون في مسألة مهمة وهي "التحذير" من قبل آبائهم, وهذا التحذير يطبعه موقف ثقافي يتجسد في بعض الكلمات "كَعِيبْ- (حْشُومَة)- حرام عند مجموعة من الثقافات الدينية المحافظة..." وهذه السمات هي التي تساعد على تشكيل هوية جنوسية للطفل تتناسب ونوعه الاجتماعي. ومن السمات الثقافية أيضا الحاضرة بكثرة في مجتمعنا المغربي تلك المرتبطة "بتحمل المسؤولية"، ذلك أن الطفل الذكر قبل وصوله إلى مرحلة البلوغ يكون أمام مجموعة من المواقف التي تجعله يشعر برجوليته، ففي جميع مقابلاتنا المفتوحة ترددت العبارات التالية:
- "عليك أن تشتغل لكي لا تبقى مثل المرأة(العْيَالاَتْ) في البيت".
- "نْتَ عْمُودْ الدّارْ ..."
وربما هي عبارات تبدوا للبعض أنها مجرد كلمات مديح، إلا أنها توظف في العمق لإحساس الطفل بطابع المسؤولية والمنحى الذي يجب اتخاذه في الحياة - وهو أن يكون مثل أبيه. وبالتالي تتحقق هنا مقولة "George Murdock": "الأدوار الاجتماعية تكتسب من خلال البرمجة الثقافية"، ذلك أن إدراك السلوك في مجتمعنا المغربي يرتبط بالمقياس الثقافي أكتر من أي عنصر آخر إذ نجد أن عادات المغاربة في التربية تتجلى في ترك الطفل بدون سروال يستر أعضاءه التناسلية؛ من المهد حتى سن التاسعة (للذكر) وحتى سن السابعة (للأنثى) صيفا وشتاء، مما يترتب عليه وجود علاقة مبكرة بين الطفل وأعضائه الجنسية نظرا لمشاهدتها طوال اليوم "أثناء اللعب وعملية الإخراج أو ملاحظته لطفل آخر... "وبهذا يحدث ما يسمى "بالتطبيع" أو البرمجة الثقافية للسلوك، ويسميها "Pierre Bourdieu " بالإستدماج"Incorporation" وتهم البناء الاجتماعي للأجساد عبر عملية يتم تأسيسها من قبل "الاعتباط الثقافي" "Arbitraire culturel" وتتجسد في "هابتوسات" "Habitus"* متعددة يكتسبها الفرد، تتعلق بما هو جمالي – خلقي- وهيئة الجسد... فتشتغل وفق آليات تكون وتشكل حدود النسق، ومن تم تخرج ضمن قالب يعبر عن هوية الاجتماعية[20]، وهي في آخر المطاف بناء تشكلي "diacritique" نظري وعملي في الوقت عينه تتداخل لتنتج النوع الذكوري من حيت كونه جسدا اجتماعيا متمايزا عن النوع الآخر (الإناث)[21].
استنتاجات:
هناك مجموعة من السلوكات الثقافية التي تتحكم في بناء السلوك الذكوري للطفل:
• يعتبر اللباس رمزا للنوع الاجتماعي في كل المجتمعات، خاصة منها المحافظة، بحيث يساعد الطفل على اكتساب ثقافة اللباس الذكوري.
• يمثل مقياس التفرقة في النوم، جزء من السمات الثقافية، فهو يصاحبه توجيهات وتحديرات" كعِيبْ – حرام – حْشُومَة..."، التي تعتبر كمواقف ثقافية توظف لضبط السلوك الذكوري، حتى يتوافق مع بنيته البيولوجية.
• من المواقف الثقافية أيضا، تلك المرتبطة بتحمل المسؤولية، والتي تجعل الطفل يشعر برجوليته ويحسها .
◄ الأدوار الاجتماعية تكتسب من خلال البرمجة الثقافية بحيث تنقل للطفل مجموعة من الاستعدادات وفق آليات الاستدماج والتطبيع التي تسخر لتشكيل هابتوس رجولي.