مواقف فلسفية حول أهمية الفرضية العلمية
|
| |
منذ مفتتح العصر الحديث بدأت تتكون نظرة فلسفية عن المنهج العلمي التجريبي تعطي مكانة للملاحظات والتجارب العلمية وتقلل من أهمية الفروض أو تذهب إلى حد رفضها بدعوى أنها تفتح الباب إلى عودة الأسلوب التأملي الميتافيزيقي في البحث العلمي , مما جعل أولئك الرافضون -على اختلاف مواقفهم- لاهمية الفرضية ودورها يركزون أكثر على الملاحظات والتجارب ، فمثلوا جميعاً موقفاً فلسفياً بشأن العلم ومنهجه يقوم على أساس نظرية المعرفة التجريبية. غير أنه وبالرغم من ذلك التوجه المنهجي الذي يعلي من شأن الوقائع والظواهر والملاحظات والتجارب , فإن البحث يرى أن الفروض قد ظلت تلعب دوراً مهماً حتى داخل الاتجاه الذى قلل من أهميتها في العلم. ويظهر ذلك خلال مواقف منها:
موقف فرنسيس بيكون Francis Bacon:
المنهج عند )بيكون( يعتمد على الحواس والتجريب والاحصاء ، ويبدأ من الجزئيات ليخرج منها بنتيجةٍ كلية يتم تعميمها فتصبح قانوناً من قوانين الطبيعة ، وهو يرى أنه وإن كان يجب إستخدام العقل والحواس في ملاحظة الوقائع وتسجيلها بدقة( )، إلا أن ذلك الإستخدام يجب أن يكون مشروطاً بالإلتزام بالمنهج الإستقرائي الذي وضع له جانبين: أحدهما سلبي ويهدف إلى جعل العالم او الباحث يتجنب الأوهام أو الأخطاء ، والآخر إيجابي ويهدف إلى بيان طرق في البحث واستخلاص النتائج العلمية ، وغايته من ذلك إعادة "النظر في ترتيب الأشياء على أسس وجودها الحقيقي في الطبيعة وليس بموجب أسس نظرية لإستكناه ماهية الوجود"( ).
ومن هنا أكد (بيكون) على أهمية الإستدلالات الإستقرائية في البحث العلمي؛ لأن العقل وحده لا يستطيع أن يتنبأ بالمستقبل ، بل لابد من أن يقرن نشاطه بالملاحظة والتجربة خلافاً للفرض الذي رأى فيه مجرد تيه وتخمين( ) . وترتب على هذا الموقف المنهجي التجريبي الاستقرائي رفض (بيكون) للفروض حيث حذر منها وسماها إستباق الطبيعة Anticipation of Nature ورأى أنها كالقياس الأرسطي قضايا لفظية وليست سيطرة على الأشياء ، وبالتالي فإنه يؤكد على أن " ألا نعزو قيمة حقيقية إلا إلى المعرفة العلمية القائمة على الإستقراء والتجريب... ويجب طرح الفروض والأوهام والأوثان ، ولما كان العقل يميل إلى التعميم السريع فإنه يجب منعه قدر المستطاع من التدخل في عمل المعرفة"( ).
ولكن هنالك رأي يذهب الى أن (بيكون) " لم يجهل الفروض بصفة عامة ، بل حارب الغلو في وضع فروض لا يمكن تمحيصها"( ). بينما يذهب رأي اخر الى أن السبب الذي جعل (بيكون) يستبعد الفروض من مجال البحث العلمي ، هو إعتقاده "بأن الإكتشافات العلمية يمكن التوصل إليها عن طريق إستخدام الإستقراء كعملية ميكانيكية"( ).وقد مال (بيكون) إلى الاخذ بالوقائع التي يمكن ملاحظتها أو إجراء التجارب عليها، الأمر الذي دفعه "إلى عدم تقدير قيمة الفروض العلمية ومدى خصوبتها ، ولعل السبب في هذا أنه لم يستخدم الاستدلال الرياضي الذي كشف عنه (ديكارت) في منهجه الجديد"( ) الذى يعطى الفروض والمبادئ الاولية أهمية كبرى.
وأياً كانت الآراء بشأن موقف (بيكون) من أهمية الفروض ودورها ، إلا أنه قد إستخدمها، ومن أمثلتها: فرضيته عن (صور الطبائع) المكونة للموجودات ، التي من خلال معرفة كيفياتها يمكن للإنسان أن يوسع سلطانه ويبسطه على الطبيعة( ) ، والملاحظ أن الطبائع التي أراد (بيكون) التوصل إليها بالتجربة ليست في نظرة تجريد أو فكرة، بل هو يراها كشرط فيزيائي للطبيعة البسيطة( ). بيد أن الطبائع البسيطة بهذا المعنى ليست فرضية علمية أراد (بيكون) أن يبني عليها ، بل فرضية فلسفية تتسم بالطابع الميتافيزيقي الذي ظل يحذر منه ، ومثال آخر لإستخدام (بيكون) للفروض قوله: بأن الحركة علة الحرارة, ولكن إذا كان (بيكون) قد أراد ان يبحث ظاهرة الحرارة وحدها كظاهرة محسوسة، فكيف أمكنه أن يصل إلى القول بأن الحركة هي العلة إن لم يكن قد إفترضها ؟.
موقف توماس هوبزThomas Hobbes *:
يعد (هوبز) من أبرز ممثلى نظرية المعرفة التي ترد كل فكر إلى الحس بوصفه البدايات الأولى للمعرفة( ). بل إنه قد ذهب إلى حد القول بأن "أي تصور في عقل الأنسان إن هو إلا ذرة حسية ذات طابع حسي ومصدرها الإحساس ، أما الإحساس نفسه فإنه يأتي نتيجة للضغط الذي يحدثه الشيء الخارجي على العضو الحاس سواء بطريقة مباشرة كما الحال في الذوق أو اللمس ، أو بطريقة غير مباشرة كالبصر والسمع والشم"( ) ، ووفقاً له فإن الفرضية لا وجود لها كإبداع حر يقبل الاثبات أو النفي ، ولعلها في أنسب الأحوال تكون عبارة عن خيال. حيث يعتقد (هوبز) أن الخيال مجرد إحساس متقادم ، مثلما أن الذاكرة مجموعة إحساسات قديمة ذابلة Decaying Sense( ) . ولكن حتي مع الغلو في هذه النزعة الحسية إلا أن (هوبز) قد استخدم الفروض حيث إفترض أن المادة والحركة هما المبدأن الأساسيان في العالم ، وهو يقيم مذهبه كله عليهما ، حيث افترض على أساسهما أن تداعي المعاني يرجع إلى حركات مادية في المخ. وعلاوة على ذلك فإن قوله بأن المعرفة كلها مصدرها الإحساس إنما هو في حد ذاته فرض.
موقف جون لوك John Locke*
سار (لوك) في إثر سلفه (هوبز) ، مؤكداً على أن التجربة الحسية هي المصدر الوحيد للمعرفة ، وأن الأفكار الفطرية فكرة مزعومة لا وجود لها ولا يمكن تأسيس المعرفة عليها. بالرغم من أنه يؤكد على رد المعرفة كلها الى الحس إلا أنه يستثنى المنطق والرياضيات( ) ، أما عدا ذلك من المعرفة فإنه يأتي من التجربة Experience سواء كانت خارجية تقع على الأشياء ، أم داخلية تأملية إنعكاسية. ولذلك فإن هذا الموقف يذهب إلى القول بأن "الأفكار إنما تمثل الأشياء بطريقة ما" ( ). وأن الحقيقة هي في المطابقة بين الأفكار والأشياء الخارجية. ووفقاً لوجهة نظرة (لوك) فإن الفرضية لا دور لها في المعرفة ، ولا أهمية لها في العلم ، بل يبدو أنه ليس لها موقع عنده ؛ فلأفكار في نظره إنما تنقسم إلى : أفكار بسيطة ، و أفكار مركبة ، فالأولى ليست من صنع العقل بل هو ينفعل بها ، أما الثانية وإن كان العقل يركبها من خلال الأفكار البسيطة إلا أن مـردها في النهاية هو الإحسـاس ، ومن امثلتها: العدد المركب من تكرار الوحدة ، والمكان والزمان المركبين من أجزاء متجانسة( ). ولكن مع رفضه للفروض فإن (لوك) لم يستغني عن استخدامها, حيث أن تصنيفه للأفكار الي افكار بسيطة وافكار مركبة إنما هوذاته فرضية.
موقف ايزك نيوتنIsaac Newton *
سار (نيوتن) في ذلك الإتجاه الحسي الذي يؤكد على الطابع العلمي التجريبي القائم على الملاحظات أو التجارب ، رافضاً الفرضية ومؤكداً على أنه هو شخصياً لا يفترض الفروض HypoTheses non Fingo ، الأمر الذي قاد إلى وصفه بأنه وضعي ، وأنه من الداعين إلى نبذ الفرضيات( ) ؛ لأن "كل ما لا يستنتج من الظواهر يعد فروضاً ، والفروض لا مكان لها في الفلسفة التجريبية"( ) .
وهنالك رأي يذهب الى أن إنكار (نيوتن) للفروض لم يكن موجهاً إلى كل أنواعها ، وإنما فقط إلى الفروض الميتافيزيقية أو الفروض التي تنطوي على الماهيات الخفية للأشياء وهى فروض لا سبيل إلى تحقيقها بالتجربة.
ولكن مع ذلك فإن (جون استيوارت مل) John Stuart Mill * يقول: إن "(نيوتن) لم يحرم نفسه من تسهيل عملية البحث بإفتراض شيء يمكن إثباته"( ). ولذلك فإنه لا يقبل الفروض إلا التى أيدتها التجربة سلفاً. ولعل هذا هو السبب الذى جعل (نيوتن) يقول بأنه: لا يستنتج الأسباب إلا من النتائج ، وبالتالي إذا كان هناك ثمة فروض فلابد وأن تكون مجرد إستخلاصات من التجربة( ).
بينما يذهب رأى اخر إلى أن (نيوتن) إنما رفض فقط الفروض الميتافيزيقية التي تنطوي على القول بوجود كيفيات خفية Occult Qualities إرتبطت لديه بما ذهب إليه (أرسطو) من وجود علل مجهولة للظواهر الحسية الملاحظة. بالاضافة الى رفضه الفروض الفيزيقية التي تنطوي على صفات حركية Mechanical Qualities كفروض الدوامات الهوائية والأرواح الحيوانية التي إفترضها (ديكارت) في نظريات العلم الطبيعي التى لا تستند إلى أساس تجريبي( ).
ولكن بالرغم من رفض (نيوتن) للفروض الميتافيزيقة فقد استخدم هو نفسه فرض الاثير وهو عبارة عن فرض ميتافيزيقى. وعلاوة على ذلك فهو لا يبرهن على وجود الزمان والمكان المطلقين بالتجربة( ) إنما يفترضها إفتراضاً. بل يمكن القول بأنه قد ذهب في استخدام الفرضيات مذهباً جعل أعماله في علم الميكانيكا على شكل نظام فرضي استنباطي جمع فيه أبحاث العلماء الذين سبقوه وأبحاثه التى قام بها هو شخصياً , ثم صاغ مجموع نتائج هذه الأبحاث جميعاً صياغة اكسيومية تقوم على نوع من تراتب وتعاقب المبادئ والفروض، ولعل ذلك يوضح لماذا جاء كتابه (المباديء الرياضية للفلسفة الطبيعية) أشبه بكتاب (الأصول) الذى ألفه (اقليدس) * ( ).
موقف اوجست كونتAugust Comte *:
نادي (كونت) بإهمية الظواهر وبالتالي أهمية الملاحظات والتجارب والوقائع المحسوسة. وهذا هو طابع فلسفته الوضعية التي ينظر اليها كأساس ومنهاج ومنطق للتفكير في المرحلة العلمية ، وتعتمد على الملاحظة الحسية وترفض تجاوزها ؛ لأن "ملاحظة الوقائع هي القاعدة الصلبة الوحيدة للمعارف الإنسانية"( ) ، ومن هنا راح (كونت) ينكر الفلسفة في صورتها التقليدية كرؤية للعالم؛ إعتقاداً منه بأن التفكير الوضعي الواقعي المباشر وحده يكفى.
ولعل لفظة وضعي ذاتها تشير إلى تلك الطريق في التفكير إذ أنها تعني ما هو "مرادف لما هو واقعي ، نافع ، نسبي ، ومعطى مباشر من التجربة"( ). ولذلك فإن (كونت) يرى أن الميتافيزيقا أثراً من بقايا الماضي وشيئاً ينبغي الإنقلاب عليه وإستبداله بالبحث عن القوانين أو العلاقات الثابتة بين الظواهر. الأمر الذي جعل من الوضعية فلسفة ظاهرية ، أي مقتصرة فقط على الظواهر البادية للملاحظات الحسية للدرجة التي جعلت (كونت) ينظر إلى العلم على أنه وصف محض. داعياً الى ان الفكر البشري إذا ما أراد أن يكون علمياً فعليه أن يكف عن التأملات الميتافيزيقية ويقصر إهتمامه على ملاحظة الظواهر والتركيز على العلاقات التي تربط بينها ؛ لأنه حالئذٍ يستطيع التوصل إلى القوانين التي تتحكم في الظواهر والوقائع( ).
لكن مع ذلك فإن (كونت) قد رأى أن ملاحظة الوقائع في الآن وهنا لن تكفي وحدها لإستخلاص العلم ، وطالما أنه لا يوجد فاصل مطلق بين الملاحظة وبين التفكير ، فلابد إذن من وجود الفروض في العلم ؛ نظراً إلى أنها تكمل سلفاً معرفتنا للظواهر وقوانينها ، وتسد الفجوات التي تنطوي عليها الملاحظة. ولكن فى الوقت نفسه يجب أن تبقي الفروض عرضة للتعديل والتصحيح والتكذيب عن طريق معرفة الظواهر معرفة أوسع مدى وأبعد غوراً( ).
وقد ميز (كونت) بين نوعين من الفروض أحدهما هو الفروض الجيدة وهي تساعد على التكهن بالنتائج , ويجب في هذا النوع مرآعاة الدقة والملاءمة فى الظاهرة موضوع البحث مع التقيد بالاتجاه نحو البحث عن القوانين. أما النوع الآخر فهو الفروض الرديئة وهى الفروض التي تدعى أنها تدرك ما لا تسمح طبيعته بأن يكون موضوعاً للملاحظة والتفكير( ).
لذلك وعلى أساس أهمية الفروض في العلم التجريبى راح (كونت) يؤكد على أنه " ليس هناك أبداً فعل من دون تأمل تمهيدي...إن أية ملاحظة حقيقية ليست ممكنة إلا بقدر ما هي موجهة في البدء ومسؤولة في النهاية بنظرية ما"( ). ولعل هذا الموقف الذي يتبين فيه أهمية أن تكون الملاحظة موجهة بفكرة مرشدة ، هو الذي جعل (كونت) يختلف عن سلفه (بيكون) ( ) لدرجة أن الأول خصص نظريته التي عرضها في كتابه (دروس في الفلسفة الوضعية) لدراسة طبيعة الفروض ووظيفتها فى العلم.
إذن فقد أكد (كونت) على أنه لا توجد ملاحظة علمية من غير فرض يسبقها ، وأن هناك حوجة إلى فكرة موجهة في خليط الوقائع اللانهائي"( ).
ومن هنا يمكن القول بأن (كونت) قد اعطى الفروض أهمية فى منهج البحث العلمى. وعلاوة على ذلك فقد استخدم الفروض من اجل تأسيس مذهبه ؛ لأن قانون المراحل الثلاث: اللاهوتية ، والميتافيزيقية ، والوضعية , ماهو إلا فكرة تفترض أن التاريخ البشري يسير سيراً تصاعدياً تطورياً ويتبع خطاً تعاقبياً.