2013-12-15 حرية الضمير بين الإطلاق والتقييد
|
| |
تتضمن، الصيغة التي ورد بها الفصل 6 من مشروع الدستور التونسي المتعلق بحرية الضمير مقداراً من الغموض نظن أنه لو بقي على حاله، سيفتح الباب على مصراعيه لتأويلات متضاربة تنزع إلى إطلاق هذه الحرية أحياناً أو إلى تقييدها أو منعها أحياناً أخرى من قبل المشرّع أو القاضي الدستوري عندما تنتصب المحكمة الدستورية وتكتمل أركان القضاء الدستوري في بلادنا. فلئن أوكل هذا الفصل للدولة أمر ضمان حُريّة المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، فقد عهد لها أيضاً بمهمّة حماية المقدّسات، وهو ما سيستدعي حتماً تضييقاً على حريّة الضمير. وتطرح الصيغة التي ورد فيها هذا الفصل إشكالات عديدة يمكن أن نجملها في أمرين رئيسين: الأوّل يتعلق بغياب التنصيص الواضح عن الذات القانونيّة المتمتّعة بهذه الحريّة، فهل هي الجماعة الدينيّة المُعترف بها والتي تكون على هذا الأساس صاحبة الحقّ (سواء كانت الجماعة المسلمة الغالبة أم اليهودية أم المسيحية)؟ أم هو الفرد باعتباره، قبل أن يكون عضواً في جماعة بعينها، كائناً أخلاقياً حرّاً يحدّد ذاته بذاته ويتمتّع بحقّ السّيادة على نفسه وعلى معتقداته؟ أما الثاني فيتّصل بتلك الحدود التي سيفرضها على حُريّة الضمير تحميل الدولة مسؤولية حماية المقدّسات. وقد يرى البعض أن في التنصيص على حريّة الضمير في النسخة الجديدة المعدّلة من مشروع الدستور التونسي، تقدّماً بالنسبة للمُسوّدات السابقة، لما يتضمنه مفهوم الضمير من إقرار مضمر بالجانب الفرديّ للعقيدة وبحقّ الشخص في الاختيار في المجال الدينيّ، وبحقّه أيضاً في مراجعة اختياره، في حين أن الاكتفاء بالتنصيص فقط على حرية المعتقد، كما كان الأمر في المسوّدة الأولى، من دون التأكيد على حريّة الوجدان والضمير، يؤدي إلى التشديد على الجانب الجمعيّ للعقيدة وغضّ الطرف عن بُعدها الفرديّ. إلا أننا لا نشاطر هذا الرأي ولا نرى أن الصيغة الحالية تبدّد جميع المخاوف على حريّة الضمير في المراحل التشريعيّة والقضائية المقبلة.
لإبانة مقصدنا يجدر التذكير بمضمون الفصل 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، حيث ورد:» لكلّ شخص حقّ في حريّة الفكر والوجدان والدين، ويشمل هذا الحقّ حريّته في تغيير دينه أو معتقده، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبّد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملإ أو على حِدَة.» وفي الفقرة 2 من المادة 18 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنيّة والسياسية، ورد تأكيد حقّ الشخص في الاختيار على الصعيد الديني إذ نقرأ ما يلي: «لا يجوز تعريض أحد لإكراه من شأنه أن يخلّ بحريّته في أن يدين بدين ما، أو بحريّته في اعتناق أيّ دين أو مُعتقد يختاره» . ويبدو لنا أن هذا البعد الفرديّ والوجدانيّ الجوّاني في التجربة الدينيّة لم يكن من ضمن ما فكّر فيه مُحرّرُو هذا الفصل من الدستور، إذ إن الروح التي صيغ بها توحي بأن المعنيّ بالأمر هنا هي الجماعة الدينيّة، وأن الاعتراف بحريّة الضمير لا يعدو أن يكون مادّة من مدوّنة لحسن السُلوك والتعامل الكيّس بين الأديان على قاعدة الاحترام المتبادل لضمان السِلم الأهليّ، فالحريّة هنا هي حريّة الجماعة في ممارسة عقيدتها وليست حريّة الاختيار على الصعيد الدينيّ المعترف بها للفرد كحقّ من حقوق الإنسان. وفي هذا السياق لا يفوتنا أن ننوه أنه حتى في البلدان ذات التقاليد الديموقراطية الراسخة يتعرّض هذا البعد الفرديّ والشخصيّ في حريّة الضمير، الذي أكّده الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وبيّنه العهد الدولي للحقوق المدنيّة والسياسية كما أسلفنا، إلى تهديد بفعل تنامي النزعات الفكريّة والفلسفيّة المحافظة التي هاجسها الرئيسي هو تماسُك الجماعات الدينيّة ووحدتها الداخليّة وحماية حقوقها الجمعيّة collectives ولو كان على حساب الفرد وحقوقه الأخلاقيّة المطلقة. فالفيلسوف الأميركي مايكل ساندل مثلاً، وهو من أقطاب الاتّجاه الجماعتي Communitarian الذي ينتقد الليبراليّة لانحيازها إلى مفهوم فردانيّ للحريّة، قد نشر سنة 1990 مقالاً بالإنكليزية عَنونه في صيغة سؤال: «حريّة الضمير أم حريّة الاختيار؟»، أكّد فيه إن حريّة الضمير لا تعني حقّ الفرد داخل الجماعة الدينيّة، التي ينتمي إليها، في اختيار الدين الذي يشاء أو حقّه في اتخاذ موقف نقديّ تجاه القناعات والمعتقدات المشتركة لجماعته، لأنّ ذلك يهدّد تماسك الجماعة القائم على قداسة المعتقدات وهيبة السلطات المعنوية والدينيّة التي تمثّلها. لذلك دافع ساندل بضراوة عن حقّ الجماعات الدينيّة في معاقبة المُهرطقين والمارقين من أعضائها عن تعاليمها بحرمانهم من الحقوق التي يتمتّعون بها داخلها ونبذهم وطردهم منها. وفي البلدان الديموقراطيّة استفاد العديد من الجماعة الدينيّة المعادية لقيم الحداثة والحقوق الفرديّة من القوانين الضامنة لحريّة الضمير وكوّنت جمعيات دينيّة وكنائس واتحادات ورابطات وطالبت بحقّها في تنظيم شأنها الداخلي كما تريد وفي تقييد حقّ أعضائها في الاستقلاليّة الذاتيّة وفي نقد معتقدات السلف والخروج عنها. ولئن أقرّت الوجهة المحافظة بضرورة حريّة الضمير اليوم في المجتمعات الديموقراطية المعاصرة، للحفاظ على السلم الأهلي ودرء الفتن وذلك لوجود تعدديّة على الصعيد الديني والثقافي والمذهبيّ تجعل فرض نموذج وحدة وتجانس دينيّ غير ممكن من دون استخدام القوة القسريّة للدولة في غير مجالها، إلا أنّها تحاول تقييد ذلك الحقّ من خلال التذرّع بضرورة احترام المقدّسات أو الآداب العامّة أو حّق أتباع الدّيانات في تنظيم شؤونهم الداخلية بأنفسهم كما يشاؤون.
مقابل هذه الوجهة المحافظة حول حريّة الضمير نجد وجهة أخرى، يمكن أن نسميها ليبراليّة، لا تُنزّه المعتقدات الدينيّة عن النقد وترى أنّنا في حاجة لحريّة الضمير، لأنه كما يقول الفيلسوف الأميركي المعاصر جون رولز: «ليس لنا ما يضمن أن كلّ جوانب أسلوبنا الراهن في الحياة هي الأكثر ملاءمة لنا من الناحية العقلانيّة وأنّها ليست في حاجة إلى مراجعة طفيفة إن لم تكن عميقة» ( ورد ذكره في كتاب ويل كيمليشكا: مدخل إلى الفلسفة السياسية المعاصرة، المركز الوطني للترجمة تونس 2010 ص. 297). وفق هذا التصوّر الثاني نكون في حاجة إلى الحريّة الدينية لنقيّم على نحو عقلاني مفهومنا للعقيدة ولنراجعه إن استدعى الأمر ذلك.
ومن جهتنا، لا نرى سبباً معقولاً للتخوّف الذي يبديه بعض الأوساط الدينيّة والسياسية في بلادنا من حريّة المعتقد والضمير على الدين، وخاصة على ديانة الأغلبيّة، حتى يتمّ تقييدها بإلزام الدولة في فصل 6 بحماية المقدّسات، فالمجتمعات التي ضمنت للمواطن حقّه في حرية ضمير كاملة غير منقوصة، لم تعرف تراجعاً في نسب التديّن ولم تفقد فيها الأديان مكانتها داخل المجتمع، بل عرفت -على العكس- ارتفاعاً كبيراً في نسب الإقبال على دور العبادة وتدعيماً لموقع المؤسّسات الدينية في المجتمع، كما تشهد بذلك دراسات عالم الأنثروبولوجيا الأميركي كليفورد غيرتز وبحوث الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور وغيرهما. لكن من دون حريّة الضمير التي تفترض الإمكانية المتاحة للفرد بأن يُؤمن أو لا يُؤمن، ومن دون الضمانات التي تُكسب الإيمان وعدم الإيمان صفة الحقّ غير القابل للتصرّف أو الانتهاك، ستكون تجربة الإيمان ذاتها خالية من المعنى، ففي المجتمعات التي لا تمنح مواطنيها الحقّ في حريّة الضمير ويسود فيها ضرب من الاستبداد الديني، لا تُطرح العقيدة من خلال مُفردات الإيمان والتصديق والاعتناق والاختيار الحرّ والشعور الباطني الصادق وإنما من خلال مُفردات الطاعة والانصياع والاتباع والامتثال والخشية والخوف من العقاب من الجماعة، أما في المجتمعات التي تُضمن فيها هذه الحريّة لكل مواطن على قاعدة المساواة مع غيره، فإن المؤمن ينظر إلى عقيدته كاختيار وجودي من ضمن اختيارات أخرى مُتاحة له ويتحمّل مسؤوليته في الدفاع عنه وفي إقناع الآخرين بأنه الاختيار الأفضل. ونعتقد أن الكلام الذي أدلى به الأستاذ راشد الغنوشي، رئيس حزب حركة النهضة، أخيراً في واشنطن يندرج في سياق رؤية تجعل من الاختيار الشخصي جوهر حريّة الضمير، حينما أجاب عن سؤال وُجّه له حول إن كان التجديف blasphemy جناية تستحقّ العقاب القانونيّ بالقول: «ليس التجديف جريمة: وحرية الاختيار واضحة تماماً في القرآن، الذي يقول: «لا إكراه في الدين».
إن حريّة الضمير ليست ترفاً فكريّاً نحن في غنى عنه، كما قد يعتقد بعضهم، ولا تكمن قيمتها في ذاتها، وإنّما في أنّها تخدم غرضاً يتجاوزها يتمثّل في حقّ الشخص في تحديد ذاته بذاته من دون وصاية أو تدخل من أحد سواء كان مجتمعاً أو سلطة دينيّة أو معنويّة أو سياسيّة، ومن العمل وفقاً للقيم والقناعات الراسخة في وجدانه، فكلّ فرد يشعر بالغبن وبأنّ ثقته بنفسه واعتزازه بها يتأثّر سلباً كلما أحسّ بأنّ هناك من يبيح لنفسه التفكير محلّه وأن يقرّر مكانه العقيدة التي تصلح به أو حينما يشعر أن معتقداته وتصوّراته، مهما اختلفت عن رأي الأغلبيّة، لا تُعامل باحترام متساوٍ مع غيرها من المعتقدات، وخاصّة من قبل السّلطات العامّة لبلاده. وفي رأينا، ذلك هو المعنى الذي عبّر عنه كانط فيلسوف القرن الثامن عشر، حينما عرّف الأنوار بأنها خروج المرء من سنّ القُصور ودخوله سنّ الرشد أي السنّ الذي يصبح يفكّر فيه بنفسه من دون وصاية من أحد. وعلى محرّري الدستور التونسي وكذلك كلّ المشرفين على مشاريع الإصلاح الدستوري في البلدان العربية أن يحسموا أمرهم: فهل يريدون أن يظلّ المواطنون والمواطنات قصّراً وفي حاجة إلى الوصاية في المسائل المتعلقة بالضمير والعقيدة؟ أم يريدونهم رشّداً وأصحاب قرار في هذا الشأن؟ أما الأمر الثاني الذي يطرح، في رأينا، إشكالاً كبيراً في هذا الفصل السادس، فيتعلق -كما أسلفنا- بتكليف الدولة بحماية المقدّسات، فمن جهة أولى يتعارض ذلك مع الطبيعة المدنيّة للدولة المنصوص عليها في الفصل الثاني من مشروع الدستور التونسي، إذ كيف يمكن دولةً مدنيّة يديرها موظّفون مدنيّون بقوانين مدنيّة، أن تفصل في المسائل المتعلّقة بالمقدّس لا من وجهة نظر دين بعينه، كأن يكون الإسلام مثلاً، وإنما من وجهة نظر جميع الأديان، ما دام قد وقع التنصيص على حرية المُعتقد والضمير، وما دام ذلك يعني أيضاً ضرورة التزام الدولة بمبدإ الحياديّة وعدم التمييز بين المعتقدات والأديان؟ فهل سيقع إحداث مجلس يحدّد ما هي المقدّسات التي ستحظى بحماية الدولة؟ وهل أن هذا المجلس سيكون مُعبّراً عن التعدديّة الدينيّة التي وقع الاعتراف بها من خلال إقرار حريّة المعتقد والضمير في الدستور؟ أم أنّ هذا المجلس سيكون لحماية مقدّسات دين الأغلبية فقط، ممّا سيعطي الانطباع بأن الدولة التونسية ليست دولة جميع مواطنيها، وأنّها تميّز بينهم على أساس عقائدهم؟ إن أمراً كهذا لو حدث سيكون نفياً لمبدإ حريّة الضمير والعقيدة وتكريساً لوصاية الدولة في مسائل العقيدة