11 أكتوبر 2014 بقلم
عامر عبد زيد الوائلي قسم:
الدراسات الدينية حجم الخط
-18
+ للنشر:رهانات المعاصرة
بين ثقافة الفاقة وثقافة الإنجاز
"إنً من يقلد مذهبًا معيّنًا يجعل من إمامه وسيطًا بينه وبين الله"
عياض بن عاشور
يكمن الفجر بين رهانين وكذلك الغروب، وفي بلدي اليوم رهانات على أحلام لدى نخب وأماني يعتريها الأمل بالفجر الجديد، وبين سلطات تقليدية تنتمي إلى ثقافة الطائفة والقبيلة والعصبية تعبر عن رهانات السلطة بقيم وممارسات لا تنتمي إلى الزمن الجديد، بل تنتمي إلى علاقات ومؤسسات تقليدية، فرغم أنها معاصرة تستثمر وتستخدم منتجات العصر، إلا أنها تعتمد نمطًا من العلاقة ينتمي إلى قيم ما قبل الحداثة والمجتمع المدني، لا قيمة للمفاهيم والعلاقات الحديثة فيه، لأنها ثقافة لها قيمها المختلفه التي تنتمي إلى مرحلة تعود إلى العصر الوسيط وعصور الانحطاط، وتستقر في مؤسسات المجتمع الأهلي، لا قيمة لمن لا ينتمي الى تراتبيتها المستعادة من قبل السلطات الدينية والقبلية الجديدة التي تحكم باسم المشروعية الدينية وباسم الديمقراطية والحداثة.
إن المتأمل في هذا التحول ذي الطابع الإناسي، يجد أننا نحاول أن نتأمل ونحلل تلك الأوضاع القائمة في هذه البيئة التي تتسم بالتداخل بين بيئات قديمة مازالت فاعله ومهيمنة، بل إنها استعادت هيمنتها أو يراد لها هذا، وبين تحول هامشي شأن كل البلدان التي عاشت في ظل الكولونيالية ثم الأنظمة الشمولية، فهي لم تحدث تحولاً اجتماعيًا حقيقيًا، بل هامشيًا سطحيًا، وهذا يظهر لكل دارس في البيئة والاقتصاد والمؤسسات السياسية والقضائية والبنى العائلية ونظام القربى والأديان التي تمثل حضورًا، لمرحلة ما قبل الحداثة في العراق بكل معانيها، إذ يلمس الدارس أو المراقب حضور تلك الملامح في الشارع العراقي، فالبحث الأركيولوجي يظهر تاريخية الظاهرة وتعالقها العميق مع بنى المجتمع القديم؛ أي ما قبل الحداثي، إذ ثمة حضور واتصال بالمقدس الديني، أو بنظام غيبي، أو بنظام لاهوتي، أو حتى إيديولوجي. كما يظهر في ظل القراءات الشمولية ومنها الإسلام الإيديولوجي الذي يتجلى عبر خطابين: يوتوبيا؛ أي المقدس، التدميرية ترفع شعار الجهاد، أو مدنس دنيوي، وهو حال أغلب جموع البشر التي تنشد الحياة وترتضى بما هو قائم، فهي تتلقى خطابات إيديولوجية تسوغ ما هو قائم وتضفي عليه المشروعية عبر الإعلام، الذي يعبر بدوره عن طبيعة الواقع الاجتماعي والثقافي الأهلي القائم أساسًا على ثقافة الولاء الديني أو القبلي، وهذا يظهر جليًا، إذ نجده في مؤسساتنا التي تحولت إلى ثقافة الولاء التي تفشت في ربوع الوطن الذي استعاد قيمه البدوية والدينية القائمة على التراتبية الأهلية القائمة على تقسيم الناس على أساس القبيلة أو المقدس الديني إثنيًا أو مذهبيًا، وهي تنظر إلى كل ما هو خارجها على أنه أقل منها. وسط هذه المنظومة من القيم التراتبية يتم إنشاء القيم المستعادة التي تمثل ثقافة السلطة وتراتبية الناس على أنها قيمة تعتمد الدم أو المذهب أو القومية، قيم يتم تقييم الناس من خلالها؛ عربي أو كردي أو تركماني، أو شيعي أو سني أو مسيحي أو يزيدي، أو صابئي...إلخ، قيم الموالاة القائمة على نفي الآخر، وعزله والتلذذ بذبحه على اليوتيوب، إنها ثقافة تكتنز العنف الذي تنتشر في العصر الوسيط بفعل توظيف الدين سياسيًا، ويتم اليوم إحياؤها بكل إكراهاتها، وتحويل الناس من مواطنين إلى أعضاء في مذهب أو طائفة.
لم نمر بقيم الحداثة إلا مرورًا سطحيًا بفعل قيم المجتمع وعلاقات المجتمع الزراعي والاستهلاكي، وبفعل التطيّف؛ أي كون الإنسان ينخرط في علاقات طائفية من خلال مؤسسات الدولة والجوامع التي تحقن خطابها بقيم الصراع السياسي والعنف الرمزي، أو تحويل المدن إلى قريه كبيرة تفتقد قيم المدنية وعلاقاتها وتحول إلى علاقات قائمة على القبيلة وأحكامها، بالإضافة إلى ثقافة الفاقة وما تفرضه من سلوك وأخلاقيات. ساهمت الدول سابقًا في تأكيدها عندما قامت بإعادة بناء المدن على أسس طائفية وعرقية، مما ساهم في الترييف، وجعل المدن معتقلة من قبل الطوائف المتنازعة على الإدارة وبالتالي الهيمنة.
فما هي أخلاقيات هذه الفئة؟ وما هي العلاقات التي تقيمها؟ إنها ثقافة تقوم على الولاء بديلاً عن ثقافة الإنجاز، فهي تقبل الأعضاء على أساس ترسيخ ثقافة الولاء للعصبية، وتطالب أعضاءها بهذا قولاً وسلوكًا، مما يجعل منها ثقافة تقوم على التعصب، فإن ثقافة الولاء هي البنية الفوقية القائمة على بنية عميقه هي بنية العصبية، سواء أكانت قبلية أم إثنية في مواجهة الآخر، سواء أكان هذا الآخر إثنيات أو قوميات أو قبائل أخرى. فهذه الثقافة غير منتجة وغير متوافقة مع قيم العصر، بل هي بالأساس الضد من ثقافة الإنجاز التي هي ثقافة المدنية المعاصرة، فهي تقوم على معادلة من العلاقات، ثقافة الولاء تعني التبعية إلى مركز على أساس علاقة قوامها الولاء، على أساسها ينال الفرد تقييمه من خلال المكانة التي ينالها داخل الجماعة، وبالتالي الحظوة التي يحوزها ماديًا أو معنويًا على شكل نصيب من القيمة التي تمنحها الجماعة لأعضائها.
لكن هذا الثوب الذي يناله الفرد داخل الجماعة لا يقوم على الإنجاز والأداء الذي يقدمه، بل على مقدار الولاء والحظوة التي ينالها، مقابلاً رمزيًا وماليًا، لهذا ترى أن كل جماعة تحاول أن تحتكر تمثيل الجماعة عبر تقديم المبررات الإثنية والقبلية التي تستحقها الجماعة، وهي تقوم على نمطين من العلاقة؛ الأول داخل الجماعة تحول الجماعة إلى حاكمين ومحكومين يعتمدون مسوغات عرقية أو دينية، يكون فيه مناضلون ثوار أبطال يقومون بالنضال من أجل الجماعة أو من أجل الهيمنة عليها واحتكار قيادتها، مقابل أكثرية داخل الجماعة تقدم الولاء حتى تحافظ على الحياة حتى لو كانت أطراف هامشية داخل الجماعة، شبيه بحال الأديان القديمة البابلية والمصرية؛ حكام وعبيد، يعتقدون بنخبوية واختيار إلهي لهؤلاء القادة، فإن توحد الجماعة على أسس قومية أو إثنية أو مذهبية يمنح قلة قامت بإنتاج خطاب يوتوبي ثوري يهدف إلى الإصلاح، لكنه مع مرور الوقت يتحول إلى مؤسسة حاكمة داخل الجماعة، تقوم هناك إيديولوجيات تبريرية تطالب الآخرين بأن يقبلوا الإقصاء السياسي والديني من أجل هيمنة قلة على مقاليد الأمور.
ولا تعتمد هذه الثقافة على الإنجاز والكفاءة، بل على أساس الولاء، لهذا يحدث هدرٌ، فالقيادة لا تقوم على أساس الكفاءة والعلمية، بل على أساس الولاء للجماعة. أما خارج الجماعة، فإن العصبة تمارس الهيمنة على الجماعات الأخرى معتمدة الصراع أو القتال من أجل الهيمنة على القوى الأخرى، وتبرير هذا على أسس عرقية أو دينية تطالب الآخرين أن يخضعوا وألا يشكل خروجهم على الطاعة جنوح ثورة أو إجرام هو خروج على الحاكم بأمر الله. وعلى هذا الأساس، قامت الحكومات العربية القبلية التي اعتمدت البطش مع غيرها حتى جعلتهم يخضعون ويقومون بأدوار هامشية، وهو أمر اعتمدته المكونات الإثنية عندما استخدمت انقلابات عسكرية من أجل التمسك بالسلطة، ظاهرها ادعاء ثوري وباطنها هيمنة طائفه على مقدرات باقي الطوائف.
هذا هو حال الحكومات العربية، فهي وإن كانت ثورية إلا أنها في الحقيقة حكم عائلة الحاكم وطائفته أو قوميته على الأكثرية، وهذا الأمر يحدث هدرًا كبيرًا في طاقات الأمة، لهذا فإن من يحكم المؤسسات هم المتنفذون، لا على أساس الكفاءة بل الولاء للعصبة الحاكمة، مما يجعل الدولة عرضة لأن تتحول إلى سجن كبير، وتستنزف طاقاتها في الأمن وليس في مجال التنمية. وهذا هو عكس الثقافة الحديثة سياسيًا واجتماعيًا، هي رمز للتقدم والتحضر والكفاءة والعلم والعدالة والمساواة. فهذه الثقافة تقوم على الإنجاز، فهي محكومة بالهوية الوطنية للأمة الحديثة الممثلة بالمجالس المنتخبة والأحزاب والمجتمع المدني والمكانة التي ينالها الفرد بالوظيفة التي يقوم بها من أجل الأمة بكل معطياتها الحديثة. وبالتالي، فالشرف الذي يناله الفرد المواطن يتحدد ليس بالعرق ولا المذهب، بل بالجدارة وحدها. والجدارة هي المرجعية في الحكم والتقويم والامتيازات، مما يجعل ثقافة الكفاءة تقوم على أساس الكفاءة والتعاقد والإنجاز والمكتسبات التي يعود بها على الأمة، مما يخلق جوًا عامًا من المنافسة السليمة من أجل أن ينال الفرد القدرة على القيام بالمهام من أجل خدمة الأمة، بهذا يمكن أن تنهض الأمة عندما يكون الدور الذي يقوم به المسؤول على أساس كفاءته، وليس على غنيمة يتقاسمها المهيمنون على مصادر القرار، فهذه لا تفرز إلا ثقافة الولاء التي لا تنتج إلا الهدر عندما يحكم أو يقود من ليس لديه الكفاءة ولا المهارة، ولم يصل إلا على أساس الولاء.
إن استئثار القلة بالقرار ولا تترك لسواها إلا الفتات وأحيانًا الأحلام الموعودة، يشعل التنافس والحرب المفتوحة بين الموالين، واحتدام الغيرة بين أبناء الجماعة المتنافسة على الهيمنة والخيرات، فيتحول الصراع داخل الطائفة، أو بين الأحزاب في هذه الطائفة أو بين القبائل في هذه المحافظة أو الإقليم، من أجل الهيمنة، لهذا يتم افتعال الأزمات مع الآخر وتصديرها، من أجل جعل الجماعة تسلم بالموالاة التامة والقبول بالموقع الهامشي لأجل البقاء، وهكذا تقتنع بأن القيادة كأنها حق طبيعي لهؤلاء داخل المحافظة أو الإقليم أو البلد، إذ يحتكر هؤلاء المكانة والغنيمة بدلاً من توظيف الطاقات في الإنجاز وصولاً إلى ما هو أولى بالتقدير والتميز. هذا هو السر المحرك لإدارة الأزمات التي يمر بها البلد حيث تصدير الأزمات وإشغال الآخرين جزء من المنافسة على احتكار الجماعة صعودًا إلى احتكار تمثيلها داخل إدارات الدولة. لذا تجد توزيع الإدارة على أسس من ثقافة الولاء إلى الطائفة أو الحزب أو العائلة تحاول استثمار الأزمات من أجل إخفاء الإخفاق في تحقيق الإنجاز، لأن من يقود لم يأتِ على أسس من الكفاءة بل الولاء فحسب، لذا تجد تفجر الأزمات والمنافسات المتصاعدة، فالدولة تمارس "التسقيط" والعنف حتى ترهن إرادة الجميع وكيانهم وتعزز بذلك من سطوتها.
لا دور لهذه الثقافة المأزومة للمثقف إلا إسباغ الشرعية أو إثارة الاحتراب مع الآخر، إنها ثقافة الاحتراب والهدر التي نجدها في العالم العربي، والتي يضغط هذا العالم على تصديرها إلى كل البلدان التي تعيش التحول، يغرقها في التنافس الإثني بدل التحول المدني إلى مجتمع حداثي يؤمن بالتعددية والإدارة الديمقراطية على أسس عصرية. وتمارس هذه الثقافة القائمة على الولاء توظيف المقدّس من أجل الدنيوي؛ أي أنها من أجل السلطة تقدم قراءات يلعب فيها الديني دور قطب الرحى في تحقيق وحدة الجماعة، ونجد الخطابات المنخرطة في العملية السياسية قد تحولت إلى نخب حاكمة متنفذه انطلاقًا من مشروعية إثنية أو قبلية أو مزيج منهما تحمل شعارات تجمع بين التوظيف الديني والقيم الحداثية للحكم التي تمزج بين المشروعية القائمة على التكليف الشرعي، وبين مفهوم الانتخاب الذي يفترض قيم التعددية والحرية والحقوق الإنسان، إلا أننا نجد سلطة حاكمة مكونة من كل الأطياف التي تتنافس فيما بينها مقابل أكثرية كارهة للموت تريد حياة خاضعة ومتلقية للخطاب الإيديولوجي بكل أطيافه، مما يجعلها منخرطة في الصراع من أجل البقاء والعيش العادي.
وهناك بالمقابل أطياف، رغم صراعها الداخلي، إلا أنها تصدّر الأزمة إلى باقي المكونات، وتقسم المجتمع إلى جهة معادية كافرة وأخرى تابعة لها خاضعة لخطابها، فهذه السلطة تحلم باستعادة السلطة، وتوظّف الخطاب الديني اليوتوبي الجهادي القائم على تحريك الساكن في التراث واستثماره لأسر العاطفة وتحريك الجماعة الإثنية وإشعارها بارتكاب الإثم، وتحفيزها على رفض الوضع القائم، مما يجعل المقدس هو المحرّك من أجل تحقيق الدنيوي وتحول المجتمع إلى مجتمع منقسم على ذاته يعيش الاحتراب والشرخ الذي يهدد وجوده.