مازال بعض فنيي العبادات و الشعائر في قرننا الحادي و العشرين يعتقدون أن خروج المرأة لتأخذ مكانها اللائق تحت الشمس كمكون أساسي يمثل نصف المجتمع و كأداة محورية لتأسيس شعب طيب الأعراق؛ هو عار و ضلالة و "جاهلية في القرن العشرين"، و أن الفكر الماركسي الإلحادي هو الذي أدى إلى نشوز المرأة لتطالب بالمساواة الإنسانية مع الرجل. لا جرم أن هؤلاء قد غُيّبوا عن التاريخ و عن روح العصر و روح الإسلام، لكنهم يسعون إلى تغييب الأمل لدى أجيال المستقبل، و النتيجة ما نرى (و ليس ما نسمع) في معظم البلاد التي تدين بالإسلام و التي يسعون إلى القفز و ركوب سدة السلطة فيها، لذا وجب تذكيرهم بشعلة نور في تاريخ مدنيتنا الإسلامية استقى منها الشرق و الغرب علما و ثقافة قد ينكرها عليهم بعض المزروعين في ظلمات الشرق، لكن الغرب (الفاسق الفاجر) ما زال يحتفل بمولده وفضله كل عام ... إنه ابن رشد.
من هو ابن رشد؟
هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد الأندلسي القرطبي، ولد سنة 1126، توفي سنة 1198 ميلادية.
كان فيلسوفا، طبيباً، وقاضي قضاة.. كان نحويا. لغوياً، محدثاً بارعاً يحفظ شعر المتنبي وحبيب ويتمثل به في مجالسه.. وكان إلى جانب هذا كله متواضعاً، لطيفاً، دافئ اللسان، جم الأدب، قوي الحجة، راسخ العقيدة، يحضر مجالس حلفاء "الموحدين" وعلى جبينه أثار ماء الوضوء.
لم يكن "ابن رشد" غمراً مبتوت النسب، فوالده وجده وُلِّيا قبله قضاء "قرطبة"، المدينة التي أحبته وعشقها.
لم يجلس "ابن رشد" على عرش العقل العربي بسهولة ويسر، فلقد أمضى عمره في البحت وتحبير الصفحات، حتى شهد له معاصروه بأنه لم يدع القراءة والنظر في حياته إلا ليلتين اثنتين: ليلة وفاة أبيه وليلة زواجه.
لا، لم يكن "أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي الأندلسي، من المتسلقين وطلاب الشهرة، لكنه كان من المؤمنين "بالكمال الإنساني" عن طريق المعرفة ... فعنده أن تمييز الإنسان بالمخلوق العاقل الناطق تتم لنسبة ما يحصله من عتاد ثقافي معارفي.
أخذ الطب عن أبي جعفر هارون وأبي مروان بن جربول الأندلسي. ويبدو أنه كان بينه وبين أبي مروان بن زهر، وهو من كبار أطباء عصره، مودّة، وأنه كان يتمتع بمكانة رفيعة بين الأطباء. وبالرغم من بروز ابن رشد في حقول الطب، فإن شهرته تقوم على نتاجه الفلسفي الخصب، وعلى الدور الذي مثّله في تطور الفكر العربي من جهة، والفكر اللاتيني من جهة أخرى.
لقد عكف حكيمنا على مشروعين: أولهما التوفيق بين الفلسفة والشريعة وتصحيح العقيدة مما علق بها من مخالطات المتكلمين و "تشويش" الإمام الغزالي بالذات (1176 – 1182)، وثانيها تطهير فلسفة أرسطو مما شابها من عناصر غريبة عنها، والمضي بها قدماً عن طريق طرح الحلول لمشاكل مستقبلية قد تعترض سبيلها (1182 – 1194).
تولّى ابن رشد منصب القضاء في اشبيلية، وأقبل على تفسير آثار أرسطو، تلبية لرغبة الخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف، وكان قد دخل في خدمته بواسطة الفيلسوف ابن الطفيل، ثم عاد إلى قرطبة حيث تولى منصب قاضي القضاة، وبعد ذلك بنحو عشر سنوات أُلحق بالبلاط المراكشي كطبيب الخليفة الخاص.
لكن عزوف الخليفة الجديد (أبو يوسف يعقوب المنصور 1184 - 1198) عن الحكمة والسياسة، ناهيك عن دسائس الأعداء والحاقدين، جعل المنصور ينكب حكيمنا، قاضي القضاة وطبيبه الخاص، ويتهمه مع ثلة من مبغضيه بالكفر والضلال ثم يبعده إلى "أليسانه" (بلدة صغيرة بجانب قرطبة أغلبها من اليهود)، ولا يتورع عن حرق جميع مؤلفاته الفلسفية، وحظر الاشتغال بالفلسفة والعلوم جملة، ما عدا الطب، والفلك، والحساب، لذلك قال ابن رشد مقولته المشهورة في مبغضيه و حاسديه:
"ابتلينا بقوم يظنون أن الله لم يهد سواهم"
المفارقة الطريفة أن مقولته هذه تنطبق على من ابتلينا بهم في عصرنا هذا أكثر مما كانت تنطبق على من كانوا في عصره!
[size=32]يتبع[/size]