.تشهد المجتمعات العربية والإسلامية منذ عقود تصاعدًا في وتيرة
الاتّهام بالتكفير، تلجأ إليه الحركات الدينية ذات المنحى السياسيّ، كما
يستخدمه رجال الدين، ضدّ كلّ من لا يتوافق مع آرائهم، أو في وجه تيّارات
سياسية تدعو إلى الفصل بين الدين والدولة، أو ذات اتجاهات سياسية مناهضة
لهذه الحركات. تتوسّع دائرة الاتهام بالتكفير لتطال الحركات الدينية فيما
بينها، في ظل اعتبار كلّ واحدة نفسها مالكة الحقيقة المطلقة، فيما تقبع
الأخرى في الضلال والنار. ولأنّ التكفير يرتبط وثيقا بالحقيقة واحتكارها،
وبالمقدّس الدينيّ، حيث يرى كل متّهـم أنّ الآخر خالف المقدّسات وتعاليم
الله، فإنّ النتيجة المباشرة لذلك تؤدّي إلى تبرير استخدام العنف وتشريعه،
فيصبح قتل الكافر واجباً مقدّساً ومطلباً "إلهياً". حفل التاريخ العربي
والإسلامي، القديم منه والحديث، بمنوّعات كثيرة من التكفير والقضايا التي
طالها، كما صدرت تحليلات واسعة لهذه الظاهرة من منظور متعدّد الوجوه،
الاجتماعي والسياسي والسيكولوجي.. يمثّل كتاب "ظاهرة التكفير في المجتمع
الإسلامي، من منظور العلوم الاجتماعية للأديان" للكاتب التونسي عبد اللطيف
الهرماسي، دراسة جادّة في قراءة ظاهرة التكفير. صدر الكتاب عن "الدار
العربية للعلوم- ناشرون" وعن "مركز الجزيرة للدراسات".
صحيح أنّ حركات الجهاد الإسلامي وسائر الحركات الأصولية تحمل اليوم
أيديولوجيات يقع التكفير في صلب عقيدتها، لكنّ الأساس في هذه الأيديولوجيا
يعود إلى جوهر الفكر الديني الذي يتمثّل بما تدعو إليه الديانات التوحيدية،
صاحبة اليقين والحقيقة المطلقة، والداعية إلى الخلاص. تدّعي الكتب المقدسة
لكلّ دين أنّها وحدها تملك الحقيقة الخاصة بالله والكون والحياة، وأنّ
تعاليمها هي المؤدّية إلى خلاص البشرية، وأيّ مخالفة لها سترمي بصاحبها في
جهنم وبئس المصير. من ادّعاء الحقيقة واحتكارها والتعصّب لها، ينجم رفض
الآخر، وهو رفض يحمل دوماً طابع النبذ وبالتالي التكفير، بوصفه أسهل الطرق
لمقارعة الخصم. يقدّم التاريخ الإسلامي – العربي والمسيحي الأوروبي نماذج
عن الصراعات التي نشبت بين أتباع الديانتين حول الحقيقة المطلقة وافتراض
كلّ دين أنه وحده الذي ينطق بها، وهو صراع شهدته الديانتان داخل كل منهما
عندما تذررتا إلى فرق وطوائف ومذاهب، فبات التكفير أهمّ الأسلحة في مقارعة
كلّ فرقة للأخرى، وهو ما يشير إليه الهرماسي بالقول :"إنّ مثل هذا النزاع
هو الحقل الذي أنتج ظاهرة التكفير كعنف أو عنف مضادّ رمزيّ، يهيّئ للعنف
المادّي ويشرّع له، ويتّجه نحو كلّ من يرفض الحقيقة المطلقة أو تأويل
الجماعة المعنية للنص المقدّس".
إذا كانت المجتمعات المسيحية تشهد اليوم انخفاضا كبيرًا في استخدام ظاهرة
التكفير خلافاً لما نراه في المجتمعات الإسلامية، فإنّ ذلك عائد إلى كونها
دفعت أثمانا باهظة من الحروب الأهلية ومن النزاع مع الكنيسة سقط فيها مئات
الآلاف من الضحايا، لتتمكّن من الفصل بين الدين والدولة، وتمنع هيمنة
الكنيسة على السياسة والمجتمع. في المقابل، تبدو المجتمعات الإسلامية
وكأنها متقوقعة في ماضيها وتراثها والعودة إلى البدايات الأولى لنشوء
الدعوة، بل إنّ ما شهده بعضها من "قشرة حداثية" سعت إلى وضع الدين في مكانه
الإنساني والروحي والأخلاقي بعيدًا عن السياسة، يتلاشى يوما بعد يوم تحت
وهج صعود الحركات الإسلامية الأصولية وفكرها الداعي إلى إعادة الدولة
الإسلامية كما عرفها عهد الخلفاء الراشدين، وعلى اعتبار أنّ "الإسلام هو
الحلّ" لمعضلات مجتمعاتنا.
في عودة لتتبّع ظاهرة التكفير، لا بدّ من مراجعة الموروث الإسلاميّ،
نصاً وممارسة، وخصوصاً إلى النصّ التأسيسيّ أي القرآن، الذي جرى تقديمه عند
الدعوة، وعلى امتداد التاريخ حتى الزمن الراهن، على كونه يحمل القول الفصل
والقاطع "بخصوص المعنى الصحيح للوجود وطبيعة علاقة الله بالكون والكائنات،
وأيضاً بكونه خاتم الرسالات المصحح للانحرافات، والموضّح لمراد الله
ومقاصده وتوجيهاته إلى خلقه وأوامره". كان هذا التشديد على المطلقات أحد
الشروط الضرورية لإعطاء الدين الجديد قوّة دفع في مواجهة العقائد السائدة
آنذاك، والتشديد على تميّزه وتفوّقه عليها جميعاً. وكان استخدام تعبير
الكفر في البداية يتّصل بإدانة الأقوام الذين رفضوا تصديق الرسالة الحالية
ومعها الرسالات السابقة، أو الذين جحدوا بالنعمة الإلهية، أو المتمسّكين
بعبادة الأصنام والمصرّين على رفض نبوءة محمّد.. لكنّ التعبير اتخذ في ما
بعد حجماً خطيرًا عندما ارتبط بتكفير كلّ من لا ينتسب إلى الدين الإسلامي
على اعتبار "أنّ الدين عند الله الإسلام". وتطوّر الأمر لاحقاً بعد وفاة
الرسول ونشوب الصراع على السلطة والخلافة، واندلاع الحروب بين القبائل
العربية، من حروب الردّة إلى حروب الخلافة بين عليّ ومعاوية وما بينهما،
حيث اتّخذ مفهوم التكفير موقعاً مركزياً في تعيين العدوّ، وعلى قاعدة
المساواة بين التكفير ونقص الإيمان من جهة، ولتبرير القتال من جهة أخرى.
لعلّ ما يعرف في التاريخ الإسلاميّ بـ"الفتنة الكبرى" يشكّل أحد المنعرجات
الخطرة في هذا المجال حيث "تحوّلت وصمة الكفر من وسيلة للتمييز بين الجماعة
المسلمة وما بين عداها، إلى سلاح لتقسيم الجماعة بين "مسلمين حقيقيين"
والآخرين لا يقبل إسلامهم حتى وإن نطقوا بالشهادة والتزموا بالطاعات".
هكذا تسبّب ارتباط النزاع حول الحقيقة كما يقدّمها النصّ القرآنيّ،
بالصراع على مقاليد السلطة، بتحويل التكفير إلى إستراتيجية وأيديولوجيا
تقوم وظيفتها على قمع المخالفين السياسيين والفكريين على الساحة الإسلامية
وتبرير تهميشهم، بل وإلغائهم جسدياً. يقدّم تاريخ الصراع بين الفرق
الإسلامية أدلّة واسعة حول هذا المسار، وكيفية لجوء كل طرف إلى استحضار
النصوص المقدسة من القرآن والأحاديث، وتأويل كلّ طرف للنص وفق ما يخدم
مصالحه، واعتبار التأويل هذا وحده الممثل للحقيقة والصواب، ويشكل المقدّس
الذي يشرّع تصفية كلّ من لا يقول به أو يخالفه. هكذا انتشرت التأويلات للنص
الديني المتعددة المشارب، بل إنّ كلّ فرد أو فقيه بات يعطي لنفسه الحقّ في
تفسير النصوص الدينية وإضفاء القداسة على هذه التفسيرات، وهو أمر ازداد في
الفترة الأخيرة حيث لا يتورّع رجل دين أو من المصنّفين من الدعاة من
استهلال كلامه حول أيّ نقطة بالقول :إنّ رأي الإسلام هو كذا وكذا.. بدل أن
يقول إنّ هذا رأيه الشخصيّ في التفسير. ينجم عن إطلاق هذا الفرد-المفتي صفة
الإسلام على آرائه، منع أيّ رؤية أخرى، ويطوّب نفسه حاملا للحقيقة ومدافعا
عن القداسة. وبهذا المعنى تحوّلت التفسيرات الماضية والراهنة إلى نتاج
عقيدي تقوم وظيفته الأساسية في فرض واستحداث نظام رقابة دينية وأخلاقية
واجتماعية على عموم المجتمع، وبموجب هذا النظام يجري تصنيف البشر إلى كافر
أو مؤمن واستحلال دم الكافر وقتله.
رغم التطوّر الحضاريّ الذي شهدته البشرية على جميع المستويات، وهو تطوّر
يسير في خطّ متصاعد في كلّ مكان، ورغم اختراق التحديث معظم المجتمعات
الإسلامية، إلا أنّ بوناً شاسعاً لا يزال يفصل هذه المجتمعات عن المنطلقات
الفكرية والعلمية التي كانت وراء التطوّر الذي يطلق عليه تعبير "الحداثة"،
بكلّ ما ترمز إليه من قيم المساواة بين البشر وسيادة القانون والفصل بين
الدين والدولة واعتماد الديمقراطية أسلوبا في الحكم واعتماد العقل
والعقلانية حكماً..بل إنّ الفكر التكفيريّ اليوم يجد في هذه الحداثة
وأفكارها مركز الخطر الأكبر الذي يهدّد كل منطلقاته الأيديولوجية الداعية
إلى العودة إلى زمن الدعوة الأوّل وفرض نمط الدولة السائد آنذاك، وتكريس
الشريعة الإسلامية في القوانين والحكم، وغيرها من المبادئ التي يرى هذا
الفكر تناقضها الكامل مع منطلقات الحداثة. فهذه "الأيديولوجية التكفيرية
التي بدأ صياغتها أبو علي المودودي، وبرزت لاحقاً مع التيار القطبي وتيار
السلفية الجهادية، تمثّل في المقام الأوّل ردّة فعل على تصدّع الأطر
الرمزية والاجتماعية الموروثة تحت ضغط الحداثة ونتيجة لاستنبات أطرها
ومؤسّساتها وفكرها". فما تقدّمه هذه الحركات الأصولية من فكر وطروحات لا
يمتّ إلى الدين بصلة، بل هو أيديولوجية سياسية- دينية تطرح معايير تسخّر
بموجبها المقدّس الدينيّ "لخدمة رهانات دنيوية ونزاعات بشرية محورها قضية
السلطة السياسية وإدارة الشأن العامّ"
شكّل الإصلاح الديني الذي أطلقه مارتن لوثر في مطلع القرن السادس عشر
في أوروبا الشرط الضروريّ والحاسم في التطوّر الحضاري الأوروبي اللاحق على
جميع المستويات، خصوصا على مستوى علاقة الإنسان بالله، وعلى صعيد فصل الدين
عن الدولة. يصعب تصوّر مواجهة الفكر التكفيريّ المندلع بقوّة اليوم في
المجتمعات العربية والإسلامية، ومعه دخول هذه المجتمعات في العصر وتجاوز
تخلّفها المديد، من دون ولوج الإصلاح الديني، وتعيين موقع الدين وإعادته
إلى منطلقاته الأصلية الروحية والإنسانية والأخلاقية، ومنع توظيفه في
النزاعات السياسية والاجتماعية. من هنا تستحق الصرخة التي يطلقها عبد
اللطيف الهرماسي، في خاتمة كتابه، كل صحتها وأهميتها في دعوته إلى الإصلاح
الديني حين يقول :"الإصلاح الديني لا يعني الانخراط في نمط من العقلانية
مآله تجفيف المنابع الروحية، ولا الانغماس في فردانية مطلقة تعزل الفرد عن
محيطه الاجتماعي، بل يقتضي التوصل إلى صيغ من التوافق بين العقلانية
والروحانية، بين استقلال الفرد في الكيفية التي يعيش بها تديّنه والحفاظ
على مقوّمات التضامن والتماسك الاجتماعي، وبين الاعتراف بحقوق المجال الخاص
والشخصي واحترام المجال العام حيث يصعب أن يتخلّى الإسلام عن دوره في
توجيه الأخلاق الاجتماعية. لكن هذه التوافقات والتوازنات المأمولة تتطلب في
المقابل إبعاد الدين عن كلّ استخدام سياسيّ مباشر، سواء صدر عن الحكام أو
عن المعارضات".