نعتقد حسب ما سمحت لنا به ظروف التتبع للشأن الفكري والثقافي وبدافع حرقة الأسئلة التي لا ترحم أعماقنا وهي تتطلع إلى رؤية بصيص من نور الشمس وهي تشع على المجتمعات العربية والإسلامية معلنة ولادة الإنسان في مجتمعاتنا ونهاية العصور المظلمة، نعم نعتقد ان هناك أفقا مظلما لإطار فكري تقنيني انغلاقي عنصري مذهبي طائفي متخلف الجذور والوسائل والغايات والأهداف يمتد من الخلفيات الفلسفية والمعرفية والدينية لكل من الشافعي و الغزالي... مرورا بابن خلدون وصولا إلى كتاب “روح الدين” للفيلسوف طه عبد الرحمن. وهذه محاولة منا لنقد ونقض هذا الوحش الداخلي الذي يتخذ تمظهرات كثيرة ومختلفة في العقيدة والطقوس والشعائر وفي الفكر والثقافة وفي العلاقات الاجتماعية مختبئا بحكم مفارقته للتاريخي الاجتماعي في آليات الفكر والتفكير وفي ثنايا الإدراك والرؤية.
خواطر وتساؤلات
انطلاقا مما تتيحه لنا الكثير من الدراسات والأبحاث والأطروحات الجامعية التي تناولت العصور الوسطى العربية الإسلامية خاصة تلك التي عنيت بالفكر الإسلامي السياسي التاريخي بناء على المقاربات والمنهجيات العلمية النقدية في العلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة ونخص بالذكر مثلا أعمال كل من محمد أركون ومحمد عابد الجابري ونصر حامد أبو زيد وعبد الله العروي... ونقصد في هذا السياق بالتحديد أعمال كل من محمود إسماعيل وإبراهيم القادري والحبيب الجنحاني... يمكننا إزالة القداسة العلمية التي خلعت في ظروف وملابسات معرفية وتاريخية وحضارية على الكثير من المصادر القديمة من بينها كتب ابن خلدون. ويمكننا إعادة قراءة تاريخنا وإرثنا الفكري الثقافي بعقل علمي وفكر نقدي ضد الوعي الأسطوري الذي أناخ بكلكله التصحري قرونا متواصلة. لم نعد عزّلا ولسنا وحدنا في الميدان ولا امتياز معرفي مذهبي يقوي من عصبية ابن خلدون في امتلاكه للحقيقة المعرفية التاريخية ولا قيمة معرفية لأسطورة الريادة والعظمة والحداثة أو ما بعد الحداثة التي نسجتها حوله الكثير من الأقلام التي غلطها بذكاء فقيه إقطاع الروح البدوية للعصبية الدينية. هكذا يمكننا قراءة الخطاب الخلدوني تأسيسا على التراكم المعرفي العلمي الذي سلط الكثير من الأضواء على تلك “العصور المظلمة” من خلال الجهد الكبير الذي بذله أساتذتنا المحترمين الذين أشرنا إلى بعضهم سابقا في البحث والتنقيب والتحقيق والترجمة وفي لمّ الكثير من الوثائق والمصادر المبثوثة بين دفتي الكثير من المصادر المغمورة التي لم تلتفت إليها أغلب الأبحاث الحديثة والمعاصرة التي خنقت جهدها بالتمسك الأعمى بالرؤى الأسطورية وفق منهجياتها التقليدية وبعضها الأخر تذرع بدعوى أنها بعيدة عن حقل اختصاصها واهتماماتها العلمية إما بسبب محدودية خلفيتها النظرية والمنهجية أو للضغط الإيديولوجي الذي ضيق من أبعاد رؤيتها. وفي الكثير من المواقف يمكن فهم هذا التكاسل كتكريس للأسس والتوجهات والاختيارات التي تقف وراء تخلف المجتمعات العربية الإسلامية وفي شمولية أزماتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية بما في ذلك أزمة المعرفة الجامعية والبحث العلمي المحكوم بدوافع الترقي المادي وفق معايير بعيدة عن تقويم ثقافة الجهد والإنجاز وقريبة من تقويم الولاء إنها معايير تحارب المشاريع العلمية الحقيقية انسجاما مع سياسات هدر الطاقات والوعي والفكر العلمي النقدي وتجريم وتحريم البحث العلمي الأصيل.
فنحن عندما نقرا مثلا أعمال الدكتور محمود إسماعيل نفهم جيدا عمل ابن خلدون كمحاولة فكرية نظرية وسياسية لقراءة سلسلة الانهيارات التي عاشتها المجتمعات العربية الإسلامية عبر صيرورة تاريخية: إقطاعيتها التي أنتجها اقتصاد المغازي العسكري الديني الذي وصل سقفه التاريخي الاجتماعي مع بداية القرن الخامس الهجري أي مع نهاية السيطرة العربية الإسلامية على التجارة الدولية عبر البحار وبروز الاجتياح البدوي للمشرق والمغرب لذلك ترسخت وسادت قيم القوة و التغلب والقهر البدوي العصبي من السطو والمصادرة للأرض والأموال بشكل استبدادي عنيف من خلال عمال وولاة الخليفة. ومثالنا خالد بن عبد الله القسري عامل العراق وموسى بن نصير عامل المغرب والأندلس ونذكر أيضا كلا من يزيد بن أبي مسلم وعبيد الله بن الحبحاب... وقد مارسوا تسلطا فظيعا لتأمين موارد مالية تتجاوز السياسة الجبائية المالية التي جعلت عامة الناس تعاني من ظلمها القاسي في إنتاج حياتها المادية المعيشية مما أدى إلى تخلف القطاعات الإنتاجية كالزراعة والصناعة والتجارة وإلى فقدان الأمن والأمان والاستقرار النفسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي. فانتشرت القيم الأخلاقية للروح البدوية أي قيم القوة متمثلة في التوحش والتغلب والبأس والافتراس والرجولة “أما في ميدان السياسة الجبائية فبعد ان توقف تدفق الغنائم على مركز الخلافة بتوقف الفتوحات وذلك في الفترة نفسها التي ازدادت فيها تكاليف الجند بدا البحث عن موارد مالية جديدة بسن نظام جبائي مرهق يعتمد أساسا على الخراج والجزية”(1)... هذه الروح الفطرية البدوية التي سحرت ابن خلدون ورأى فيها الخلاص من نتائج فساد وخراب العمران الحضري متوهما وفق عقلية صوفية معيارية أخلاقية أن هناك صراعا تناقضيا طبيعيا - وليس تناقضا سياسيا اجتماعيا تاريخيا بشريا - بين العمران البدوي والعمران الحضري أو قل إنه في تحقيق وتعليل ونظر ابن خلدون تناقض خاضع لمنطق “سنة الله في خلقه”وفق العمر البيولوجي للدول والمجتمعات. لم يقو ابن خلدون على فهم ما يسميه خراب وفساد التمدن والحضارة على أن ذلك ليس أكثر من المنطق الداخلي لتطور حركة تناقضات السيرورة الاجتماعية التاريخية الإقطاعية لما يسميه “فطرة الروح البدوية العصبية. فلم يستطع ان يدرك بتحيزه المذهبي الديني و بعقليته كإقطاعي فاشل في تأسيس إمارته الترابط المعقد لتناقضات الإقطاعية البدوية العسكرية الدينية وانتظامها في الفكر السياسي المذهبي وفي المجتمع والتاريخ.
إذن تناقضات وهزائم المجتمعات العربية الإسلامية لا تكمن في ترف وانحلال وفساد التحضر كقيم جوهرية يفرزها الرقي والتقدم كمستوى طبيعي لتطور العمران الحضري ولا في رقي وتقدم علاقاته الاجتماعية وعلومه العقلية والمنطقية والكلامية والفلسفية، بل إن المشكلة تكمن في دولة المغازي العسكرية الدينية بقواها البدوية الاجتماعية العصبية وتكمن أيضا في أساس اقتصاد المغازي الذي يؤسس لصيرورتها ولانسدادها التاريخي الاجتماعي الملموس في ما يعتقده بصيغة عامة جوهرية ”التمدن والحضارة“ أي أن المسألة مرتبطة بالتفكك والتحلل والتمزق السياسي والاجتماعي والخراب العمراني وفي المجاعات والفتن والحروب التي أنتجها الاجتياح البدوي في المشرق والمغرب.” أجمعت ثلة من الباحثين على مسؤولية تلك الاجتياحات عن اضمحلال العالم الإسلامي شرقا وغربا. فقد ذكر شاخت أن تلك الاجتياحات “قصمت ظهر البورجوازية التي قادت الازدهار الاقتصادي والفكري في العالم الإسلامي الوسيط”. وفي المعنى نفسه ذهب ايف لاكوست إلى أن “العناصر البدوية المهمشة هي المسؤولة عن تدهور التجارة ومن ثم الحضارة”. ويقول جواتياين ان “انتكاسة البورجوازية اقتصاديا واجتماعيا اقترنت بزحف عناصر بدوية ذات أصول تركية في المشرق الإسلامي”. وكان هاملتون جيب أبلغ تعبيرا حين قال “تغيرت أحوال العالم الإسلامي في القرن الخامس الهجري تغييرا جذريا نتيجة حركات العناصر البدوية كالقبائل التركية التي غزت شرقي فارس وشمالها وامتدت إلى العراق وشمالي سوريا والقبائل العربية التي زحفت على الشام ومصر وبلغت شمال إفريقيا والبربر الذين تحركوا في بلاد المغرب فتدهورت الحياة الاقتصادية حيث حل الاقتصاد القائم على الزراعة والرعي محل الاقتصاد التجاري”(2). فإذا كانت العناصر البدوية هي التي أجهزت على تاريخ المجتمعات العربية والإسلامية وعلى تجربتها الحضارية فما الذي دفع ابن خلدون إلى غربلة التاريخ بتحيز مذهبي ديني عرقي تفاضلي أساسه القهر والتغلب والبأس والاستبداد نصرة للعمران البدوي إلى درجة جعل من المعاش البدوي النموذج والمثال الأعلى مما اضطره إلى تزوير التاريخ والإمعان في بناء تأويل للأحداث والوقائع والنصوص خدمة لتأسيس حقائق المذهب السني كقوانين اجتماعية تاريخية. فقد تحاشى في خطابه كل ما يمكن أن يسيء للبدو، لهذا قدم تأويلا لحديث “الهجر” يخدم غرضه.“وهنا يأتي ابن خلدون فيعالج موضوع الهجرة والتعرب معالجة يخالف بها جمهور الفقهاء. فهو لا يرى رأيهم في ذم البداوة وذم خصالها بل هو يرى على العكس من ذلك أن البداوة اأرب إلى خصال الدين والخير من الحضارة.”(3)
وفي تجنبه تسمية بني هلال وبني سليم باسم البدو لذلك قال عنهم القبائل العربية وأيضا في تغييبه استراتيجية مجمل معاني ودلالات أفكاره يعتقد القارئ بذمه للعرق العربي في وقت هو ليس إلا أسلوبا في التغطية والتعمية عن مدى قداسته للمشروع الإقطاعي للروح البدوية. “من جملة ما وصف ابن خلدون به العرب قوله إنهم” أمة وحشية“، وهذا التعبير يقصد به ابن خلدون معنى غير الذي نقصده نحن الذين نعيش في هذا العصر الحديث. فقد اعتدنا أن نعد التوحش في الأمم صفة مذمومة جدا ولذا فنحن حين نقرأ عبارة ابن خلدون في وصف العرب نتصور أنه ذمهم ذما قبيحا. الواقع ان ابن خلدون كان يعني بالتوحش سكنى الصحراء والتوغل فيها بعيدا عن الحضارة. وهذا في اصطلاح ابن خلدون ليس ذما إنما هو وصف موضوعي يراد به الذم من وجهة نظر الحضارة ويراد به المدح من وجهة نظر البداوة”(4). إن أسطورة التأسيس للأمة كمتخيل تاريخي اجتماعي هي التي كانت توجه تفكير ابن خلدون وتجعله يتجاوز واقعه بالخيال في استرداد هوامي نكوصي لحالة التناغم والانسجام والصفاء والكمال والاكتمال للأجوبة الشاملة الناجزة والنهائية لغاية الوجود البشري في الحياة الدنيا ولتحقق الوحدة المثالية لفعل القداسة في الاجتماع الإنساني التاريخي. وهو يرى أن التيه في هداية القفر والنشأة على البأس وتعود الافتراس وركوب البيداء السبيل الوحيد لنشأة مستأنفة للروح البدوية العصبية اللازمة للمعاش المثالي للعمران البدوي وللدعوة الدينية.“حتى نشأ في ذلك التيه جيل أخر عزيز لا يعرف الأحكام والقهر ولا يسأم بالمذلة فنشأت بذلك عصبية أخرى”(5). وهذا التيه الديني والمعرفي والتاريخي في نظر ابن خلدون لن يجد أسسه وأرضيته الصلبة إلا في عصبية البداوة لأنها الخير والأخلاق والقيم والدين الحق“نجد المتقشفين من أهل البادية أو الحاضرة ممن يأخذ نفسه بالجوع والتجافي عن الملاذ أحسن دينا وإقبالا على العبادة من أهل الترف والخصب بل نجد أهل الدين قليلين في المدن والأمصار”(6). لكن الحياة الملموسة التي عاشتها المجتمعات العربية الإسلامية تبين بوضوح مدنية الدين وأفقه الحضاري المتجاوز للعمران البدوي ولعقلية القهر والتسلط والاستبداد كما أن البحث التاريخي العلمي والتمحيص النقدي الذي أنجزته الأسماء السابقة يبين حجم الكارثة التي حصلت للحضارة العربية الإسلامية عندما اجتاحتها الروح البدوية للعصبيات. “ولعل في تماثل أحداث ووقائع وغايات ظهور المرابطين في الوقت ذاته الذي ظهر فيه السلاجقة في الشرق- فضلا عن الاتصال السياسي بينهما- ما ينم على شمولية ظاهرة القوى البدوية الطرفدارية العسكرية السنية التي كرست الإقطاع في العالم الإسلامي شرقا وغربا... وبرغم سقوط المرابطين على يد الموحدين واعتناق الأخيرين إيديولوجية ليبرالية ذات طابع برجوازي فقد ظل الحال على ما هو عليه. خصوصا وأن قبائل مصمودة التي أسست الدولة الموحدية كانت قبائل مهمشة طالما عانت من ويلات السياسة المرابطية. دليلنا على ذلك أن الموحدين ما لبثوا ان تخلوا عن ايديولوجيتهم الليبرالية وعادوا إلى النصية التي شكلت غطاء ايديولوجيا عاما للقوى البدوية الإقطاعية العسكرية.(7)”
فالإشكالية النظرية في مقدمة ابن خلدون بعيدة كليا عن الشروط الموضوعية المؤسسة للقوانين الاجتماعية المادية المسؤولة عن الظلم و الخراب والفساد الذي أنتجه السقف التاريخي لتطور العمران الحضري الإقطاعي. أي أن المأزق الاجتماعي التاريخي هو مأزق القوى الاجتماعية الحاملة للمشروع الإقطاعي العسكري الديني وليس مأزقا لقيم التمدن والتحضر. وهذا ما وثقته الكثير من المصادر التي عايشت الروح البدوية الإقطاعية عبر التاريخ. “وقد لخص ابن عذارى ما نجم عن سيادة الإقطاعية من إضرار بالمزارع حين قال:”أجدبت الأرض حتى جفت مرابعها واغبرت جوانبها وقلت المحامي وكثرت اللوازم على الرعايا بالعدوتين“. وفي المعنى نفسه ذكر ابن القطان” عمت الرزايا والمصائب وهلك فيها الشاب والشايب وعادت زاهرات الأمصار موحشة خرائب“. واستمر الحال على المنوال نفسه في ظل الدول التي أعقبت الموحدين في المغرب. ذكر المراكشي ان جل الأراضي الزراعية” صارت إقطاعات جارية على أشياخ الجند لكل واحد منهم عشرون مثقالا من الذهب يأخذها من قبائل وقرى وضياع(8).“
فبناء على هذه المعطيات العلمية التاريخية التي أنتجتها الكثير من الأقلام المعروفة بأمانتها العلمية وبنفسها الطويل وصبرها الدؤوب في لم شتات النصوص والوثائق من مختلف المصادر لإنجاز سوسيولوجيا للفكر الإسلامي مع البحث التاريخي الاقتصادي الاجتماعي للمجتمعات العربية الإسلامية، يمكننا إدراك مدى خطورة الفكر الخلدوني الذي تمكنت من استثماره ايديولوجيا الرؤى العنصرية الاستشراقية والسوسيولوجيا الاستعمارية في النظر إلينا كبدو وعصبيات قبلية واثنيات لغوية دينية طائفية لإقصائنا مما هو متاح للبشرية جمعاء: من مشترك إنساني أي ما وصل إليه التطور الحضاري الإنساني بفعل إسهام كل حضارات الشعوب المختلفة بما في ذلك الحضارة العربية الإسلامية من قيم ومبادئ كونية كالحرية والديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان في إطار الدولة الحديثة.”بدأت العناية بالأثر الخلدوني في الأزمنة المعاصرة من طرف الجامعات ومؤسسات البحث الغربية، وقد ظل ابن خلدون إلى حدود سنة 1825 معروفاً بواسطة بعض المقتطفات ذات الحدوس النظرية القوية المستلة على وجه الخصوص من كتاب “المقدمة”…وقد اعتنى الباحثون الغربيون في مرحلة لاحقة وفي سياق حسابات سياسية وعسكرية محددة بالأجزاء المتعلقة بتاريخ البربر، وترتب عن ذلك بصورة غير مباشرة عملية دمج الأثر الخلدوني في المعرفة الكونية. بل إن الأمر تجاوز ذلك، حيث حرص بعض الباحثين الغربيين على تمجيد العناصر والمعطيات النظرية ذات الطابع العقلاني والوضعي في نصوصه، وأنجزت في سياق ما سبق عمليات في المماثلة بين آثاره والآثار النصية للرواد من مؤسسي العلوم الإنسانية. فترتب عن هذه المماثلات أننا أصبحنا أمام مفكر يتمتع بامتياز احتضان نصوصه داخل سياق مدارس الفكر الغربي المعاصر، وذلك رغم انفصال مسار تشكل خطابه عن مسارات تبلور خطابات التاريخ والمجتمع والاقتصاد ثم الانتربولوجية في الأزمنة الحديثة والمعاصرة، ورغم سيادة نزعة التمركز المعرفي الغربي التي واكبت كما هو معروف ميلاد الظاهرة الامبريالية.“ولم يكن تدريس بعض نتف من مقدمة ابن خلدون في الأزهر من طرف محمد عبده بالحدث البارز في ما سمي بفكر النهضة العربية دون تكلف عناء البحث التاريخي في الظروف والسياقات التي جعلت محمد عبده وغيره من رواد النهضة يرون في الدولة الأساس الموضوعي لانبثاق الحداثة في المجتمعات العربية والإسلامية ومن ثمة تشكل هاجس البحث عن سلطان قاهر يفرض العقل بالقوة لذلك ولدت مقولة المستبد العادل التي وجد محمد عبده أصولها القهرية الاستبدادية في مقدمة ابن خلدون(9).
تمجيد وتعظيم ابن خلدون للروح العصبية البدوية دينيا وأخلاقيا واجتماعيا واعتبارها النموذج المثالي لدولة الغلبة والقهر والاستبداد الديني والدنيوي الخالي من الفساد الأخلاقي والديني والعمراني والمترفع عن خراب وظلم وانحلال قيم التمدن والحضارة ليس أكثر من تغطية وتعمية عن المجازر الفظيعة والكوارث الاقتصادية الصناعية والتجارية والبيئية الزراعية التي كانت ترافق مرحلة التأسيس لإقطاع عصبية الروح البدوية. فالشعوب تجهل بفعل الجهل والقهر والاستبداد الذي مورس في حقها عبر التاريخ القيمة المعرفية والرمزية والاجتماعية والتاريخية لأبطالها الأسطوريين الذين بنوا زيف مجدهم السلطوي على أساس فظيع كله ظلم وحروب. فكيف مثلا ستكون نظرة الناس إلى صلاح الدين الأيوبي عندما تكون المادة التاريخية النقدية في متناولهم.” وبديهي أن تترسخ الإقطاعية بالمثل في مصر والشام وشبه الجزيرة العربية بعد نجاح صلاح الدين في تأسيس الدولة الأيوبية. وهذا راجع إلى الطابع العسكري الذي صبغ دولة بني أيوب ذات الصراعات الدائمة والدائبة مع الأتابكة والصليبين فضلا عن فلول الفاطميين. بديهي أن يختص صلاح الدين نفسه وأسرته وأجناده بأجود الأراضي الزراعية. لذلك قال المقريزي “وأما ما كان في أيام صلاح الدين إلى أيامنا هذه فان أراضي مصر كلها صارت تقطع للسلطان وأمرائه وأجناده.” مصداق ذلك إقطاع أبيه الإسكندرية ودمياط والبحيرة. كما أقطع أخاه شمس الدين توران شاه قوص وعيذاب. وأقطع أخاه العادل حلب والكرك والشوبك و البلقاء فضلا عن بعض قرى مصر(10).“وهذا جزء من فيض مارسه أبطال ملاحمنا المقدسة المتعالية على التاريخ.
ولنا في المراحل الانتقالية التي كانت تمر بها المجتمعات أكبر درس تاريخي يعبر عن همجية استبدادية البداوة بقيمها العنيفة التي يؤسسها التوحش والبأس والقوة في النهب والمصادرة وفي التحكم بمنطق الغلبة والقهر. فعلى أنقاض الظلم والسلب والنهب وعنف الدماء كانت تأسست مثلا دول عصبية الروح البدوية الإقطاعية لكل من الأمويين والعباسيين والفاطميين وغيرهم من خلال تسلط الولاة في أجزاء الخلافة. ولنر كيف”أمر عبد الله بن ياسين نفسه اللمتونيين بغزو جماعة من قبائل البربر فهزموهم وسبوهم وقسموا أموالهم وخمسوا صبيتهم فيقال إنه كان أول خمس قسمه اللمتوني بعد انتصاره على برغواطة(11).“فماذا يميز هذا الخراب البدوي في مرحلته التأسيسية المثالية الذي كان يتكرر عند بداية ولادة وصعود عصبية الروح البدوية للعمران البدوي الذي سكن مجاهدة ابن خلدون الصوفية في شهوته العارمة للعنف والاستبداد الإقطاعي عن مرحلة فساده وظلمه وتفككه وانهياره كسقف حضاري إقطاعي للاجتياح البدوي؟ فمؤسس الدولة المهدي بن تومرت الذي” قتل من قتل من المرابطين قسم أراضيهم وكورهم بين أصحابه وأصفى ديارهم جوائز لكل قبيلة جائزة.“وهذا يعني استمرار ظاهرة الإقطاع القبلي التي وجدت في عصر المرابطين. وما جرى من تغيير في هذا الصدد هو استبدال قبائل صنهاجة المرابطية بمصمودة الموحدية(12).”
ونحن نرى اليوم حجم الكوارث الإنسانية التي تعيشها شعوب المنطقة بفعل التكامل الموضوعي برغم ما يظهر من اختلاف مخادع بين الروح البدوية للإقطاع العسكري الديني المحلي والقوى العظمى الاستعمارية. وإن أقصى ما يمكن ان تتوافق حوله هذه الرؤية الهمجية المشتركة في تدمير الإنسان والمجتمعات والأوطان هو أن “تصور المجتمعات المتخلفة كالمجتمعات العربية التي هي بأمسّ الحاجة إلى التكامل الاجتماعي وإلى تركيز مفاهيم المواطنة ولواحقها... تصور هذه المجتمعات على أسس تفتيتية تفصل ما بين مكوناتها على أسس اثنية ولغوية ودينية وما إلى ذلك على اعتبار أن الديمقراطية شأن للجماعات وليس للمواطنين الأفراد أي أننا نساهم في العملية الديمقراطية بوصفنا مولودين في جماعات معينة ذات مواصفات عرقية وغيرها وأن هذا هو الإطار الصحيح للعبارة عن التمثيل السياسي. أي إن الديمقراطية تحالف بين القيادات الطوائفية وليس تمثيلا لأفراد على أساس اختيار حر.(13)”