عودة الدون كيشوت
خالد سليكي
الأربعاء 05 نونبر 2014 - 00:25
هجرة المقدس
لقد تزايدت الهجرة نحو بلدان الشمال، خصوصا أوروبا وأمريكا، بعد الحرب العالمية الثانية، نتيجة ظروف اقتصادية وهو ما تزايد وتفاقم مع مطلع القرن الحالي، بسبب البطالة والفوضى والاختلالات الاقتصادية والتنموية التي عرفتها الدول المتخلفة..مما ضاعف من أعداد المهاجرين العرب والمسلمين، وهنا لابد من التمييز بين فئتين أو شريحتين: (أ) تمثل الأولى فئة متعلمة ونخب مثقفة تجمع بين العلماء والمفكرين والباحثين، وقد ساعدتهم درجاتهم العلمية والفكرية من تجاوز الصدامات، هذا إذا لم تكن المسألة الدينية تشكل بالنسبة إليهم عنصرا حساسا في حياتهم. إذ أغلبهم تحرر من الطابو الديني ومن السلط الرمزية التقديسية بما تشبعوا به من قيم وأفكار اتسمت بالتنوير والعقلانية.. وهم بذلك حققوا اندماجا هادئا ومتفاعلا مَكَّنهم من التفاعل بشكل إيجابي مع الواقع الذي هاجروا إليه..فكادت أن تنمحي الفوارق الثقافية من حيث السلوكات الظاهرة، خصوصا لدى أبنائهم الذين اختاروا لهم أن يستقروا ويندمجوا إلى حد كبير في بلدان الاستقبال؛
(ب) أما الشريحة الأخرى، والتي تشكل قاعدة عريضة من المهاجرين في هذه البلدان فإنها هاجرت بسبب أوضاعها الاقتصادية، فكان هدفهم الأول والأخير هو تحسين مستواهم المعيشي وضمان مستقبل عيشهم الذي اختاروا له، في الغالب، الادخار في بلدانهم الأصلية باعتبارها نقطة العودة بعد إقامة مؤقتة، وإن طال أمدها، وهم بذلك أبعد ما يكونوا عن الأحداث الثقافية وحياة الفن والتواصل مع الجماعات الثقافية لبلدان الاستقبال..فظلوا يعيشون في جماعاتهم المنغلقة على نفسها وعلى ثقافتها، متحصنين في أفقهم الثقافي الذي أتوا به من بلدانهم إن على مستوى الفكر أو التقاليد أو العادات.. فهم لا يروا في البلدان الغربية سوى "دار حرب" ينبغي أن تتم الاستفادة منها ماديا، أما ثقافيا فإن الحضارة الإسلامية تكفيهم في كل شيء يطلبونه.. وهم بذلك ليسوا في حاجة إلى إْعادة طرح قضايا الوجود والعالم والحرية والفرد، لأنها أمور تجد أجوبة عليها داخل تراثهم.. وقد زاد من تضخم هذا الشعور اعتقادهم باستقلال التكنولوجيا وآلياتها عن آليات العقل الذي أنتجها، فازدادت بذلك قناعتهم حين تمكنوا من استعمال التقنيات، بل وأحدثها..!
غير أن التحولات التي شهدها العالم العربي والإسلامي، لم تكن في الحسبان، ولم يكن المسلمون على استعداد لتقبل عدد من الحقائق التي ظلت منفلتة عن قبضتهم وإدراكم، خصوصا أن العالم الغربي قد تعامل مع عدد من التنظيمات الإسلامية والمعارضين الإسلاميين، بنوع من المحاباة، حين استقبلهم ودلل أمامهم الصعاب، ودعمهم في فترة تاريخية لا يسمح المقام بذكرها. فظل العربي/المسلم جسدا يتحرك في بلاد المهجر ولكن قلبه وروحه مسكونان بتعاطف مطلق مع واقعه في بلده.. وهكذا سرعان ما تحول طموحه من مجرد تحسين وضعه المادي إلى تنصيب نفسه مدافعا عن حرمة الدين والتاريخ العربي/الإسلامي.. فأصبح مشاركا في التظاهرات، وصار داعية لنشر الدعوة الإسلامية والتعريف بهويته، التي -في اعتقاده- تفوق من حيث القوة والشموخ ما وصل إليه الغرب، الذي ما كان ليكون لولا الحضارة العربية الإسلامية؟!
في ظل هذا السياق السياسي والاجتماعي وما لهما من آثار على اللحظة التاريخية للراهن العربي/الإسلامي، طفت على السطح أنواع من العنف الثقافي والصراع التي انتهت إلى شعارات تدفع إلى "صراع الحضارات"، والتي لم تزد المجتمعات المتخلفة سوى تقوقعا على ذاتها وعلى تراثها.. إذ في ظل الانتكاسات النهضوية والتنموية داخل بلدانها، وفي ظل غياب شبه مطلق للإبداع، والمبادة الخلاقة، كانت عودة المقدس إلى الواجهة مسألة جد طبيعية.. لأن هؤلاء -المهاجرون-، المتشبعون بنمط من الوعي الديني، وجدوا أنفسهم أمام خيارين: أن يقبلوا بالواقع ويندمجوا فيه، أو يدافعوا على قيمهم وثقافتهم التي لايمكن أن تفصل عن الدين الإسلامي الذي جعل منهم »خير أمة أخرجت للناس«..
فالغرب بالنسبة لهؤلاء ليس مجتمعات لها خصائصها الفكرية والثقافية، بقدرما هي بلدان "الكفر"، ومصدر ما يحدث داخل بلدانهم.. وهكذا صار الإحساس بالاغتراب مضاعفا..ومن ثم أصبح دوره هو أن يكون الحارس الأمين والرقيب على كل ما يمكن أن ينال من هويته الدينية و اللغوية..وصار أي تطرق لأية قضية لها صلة بالإسلام أو العرب تثير فيه امتعاضا، لأنه لم يعد بمقدوره أن يتحمل النقد، وفي اعتقاده، يظل مستهدفا من قبل المجتمعات التي تنفق وتخطط من أجل كسر شوكة العروبة والإسلام!
هكذا أصبحنا نشهد انتفاضات كبرى، بسبب حوادث قد تقع في أحياء هامشية، أو لما تنشره بعض الصحف المحلية التي لا تجد أي رواج أو انتشار حتى داخل المنطقة التي تصر فيها، فأحرى أن تشكل حدثا داخل بلدانها..! والمشهد يتكرر..بل وسيعرف تصعيدا وتكررا في المستقبل القريب، في ظل سيادة نمط من الوعي الذي يعيد إنتاج "المقدس"..
لم تعد مسألة الهوية أو المحافظة عليها تنحصر في "التسييج" و "التحصن" من الخارج، وإنما في القدرة على تداول الفكر والاختلاف والبحث عن الهوية باعتبارها خصوصية ومنطلقا للحوار مع الهويات الأخرى، ولأننا عندما نتواصل -كما تقول باربرا ويتمر- فإننا ننقل أفكارنا وتجاربنا، وأفكار وتجارب الآخرين، وننقل أساليب تنظيم الأفكار والتجارب وفهمها، كما ننقل الاندماج الثقافي لكل الأمور في بنية تحتية لهوية ترشيد الفهم والسلوك الجماعيين.. لذلك ينبغي الوعي بوجود أزمة، ثم الوعي بأن الواقع لم يعد كما تتصوره المجتمعات العربية وأن ما يُعتقد أنه انتصار ليس في النهاية سوى إعلان واضح عن كبرى الهزائم..أو كما قال الشاعر أراغون »حينما نفتح ذراعينا لنستقبل الحياة، نكون قد رسمنا الصليب من ورائنا«!!!!
❊ عودة دونكشوت
ثمة مشهد في »الدون كيشوت« يحكي قصة الدون كيشوت رفقة سانكو وهما في طريقهما إلى برشلونة، مرا بعصابة من اللصوص وجدوهم يتقاسمون غنائمهم، فوقف الفارس مندهشا، الأمر الذي دفع زعيم العصابة إلى القول: »إنني إذا لم ألتزم العدل بين رجالي لتعذرت علي الحياة معهم« فرد سانكو بسخريته وهزله: »إني إذا حكمت بما قد شهدت الآن لقلت إن العدالة شيء جميل ينبغي التمسك به حتى بين اللصوص«؛ فانتفض اللصوص وكادوا أن يفتكوا به لأنه اجترأ على تسمية اللصوص لصوصا..! لأن أصعب موقف يواجهه الفرد هو أن يواجهَ بالحقيقة التي سخر كل طاقته من أجل إتلافها والتستر عنها..فهل يزعج الإنسان العربي والمسلم أن توضع أمام وجهه مرآة تكشف ما لم يكن يراه أو يتوقع أن الآخر يعرفه!!