"عندما نقتل غلطة، يأتي دائما أحد ليحاول بعث الروح فيها من جديد".
فولتير إذا لم يكن الله موجودا فإنّ كلّ شيء مباح! قد تكون للمقولة الشهيرة بعض
معنى حينما يتعلّق الأمر بمجتمعات سيطرت فيها الديانات 'التوحيدية' المؤمنة
بالله الأوحد، ولكنّ الفكرة ستبدو ساذجة جدّا عند حضارات لم تنتج آلهة مثل
الحضارة الصينية التي لم تنجب ربّا واحدا عبر تقاليدها الروحية الثلاثة
الكبرى. فهل انتفاء فكرة الله في هذه الحضارة العظيمة وغيرها قد جرّد أهلها
من الحسّ الأخلاقيّ؟ وماذا كان بطل دوستوفيسكي إيفان كارامازوف سيقول، لو
لم يكن غارقا في مركزية-توحيدية غير قادرة على تمثّل الأخلاق خارج الله -
الدين؟
"إنّ القرن الواحد والعشرين سيكون دينيّا أو لا يكون"، كثيرا ما يردّد
المتديّنون في خطاباتهم الدعوية هذا التكهّن المنسوب زورا إلى الكاتب
الفرنسيّ الشهير أندري مالرو! ولئن كنا لا نستطيع الجزم بهذا أو ذاك ونحن
لا نزال في بداية القرن، فإننا نعيش تغيّرات سلوكية وفكرية تذهب عكس ما
يراد لهذا القرن أن يكون.
يبدو أنّ فكرة الموت هي المزرعة التي تنبت فيها الآلهة والأديان، وتترعرع
في سعي لرفض نهاية الإنسان بانتهائه الجسدي، إذ أنّ أوّل وظيفة للدين هي
تسويق لانهائية الإنسان باختلاق حياة افتراضية له بعد موته. فلماذا يتنازل
غير المؤمنين للدين في تنظيم رحيلهم عن الحياة؟ وإلى متى يبقى تدبير شؤون
الموت طقسا دينيا حصريا؟
تفطن الملحدون في الغرب لهذا الأمر المهمّ، وبدأنا نشهد تنظيم جنائز
علمانية لادينية بغية طرد الدين نهائيا من الحياة والموت وما بينهما. في
فرنسا وصل عدد هذه الجنائز المسمّاة 'مدنية' حسب إحصائية أخيرة إلى حوالي
30 بالمائة بينما لم تكن نسبتها تتعدّى الواحد بالمائة. أما الترميد أو حرق
جثث الموتى تنفيذا لرغباتهم فأصبح مألوفا ودخل في ثقافة الناس حتى البسطاء
منهم، وقد يصبح في المستقبل القريب القاعدة وأسلوب الدفن الكلاسيكي هو
الاستثناء. ورغم معارضة الأديان، لم يتوان المشرّع عن إباحة الموت الرحيم
في بلدان كهولندا مثلا، ولا يزال نقاش رفع المنع حادا في بلدان أخرى
كفرنسا. وهو ما يعني رفض الإنسان اللاديني المعاصر انتظار موته الطبيعيّ
وحضور انحطاطه الجسدي والعقلي، منتظرا رحيله الأبديّ في ما يطلق عليه 'دار
عجزة' والتي هي "قاعة انتظار الموت"، كما يقول أحد المتفكهين الفرنسيين.
يتغاضى كثيرون عن الواقع الذي يتهافت فيه الدين يوما بعد يوم، إذ لم تبق
"شهادة وفاة الله" التي أمضاها الفيلسوف نيتشه حبيسة الكتب والتأمّلات
الفلسفية، بل ترجمها الناس في الغرب (وحتى في الشرق أحيانا) إلى سلوكات
حياتية وأسّسوا أخلاقا إنسانية جديدة على أنقاض المقدّس. أصبح موت الله
واقعا يعيشه الإنسان في حياته اليومية، وذلك لا يعني خواء روحيا أو عدميا
كما يدّعي المتديّنون، بل نحن في عصر الديانات الفردية المشخصنة التي لا
تتطلب إيمانا قاطعا بقوة خارقة قاهرة. يعيش الكثير من الناس روحانيتهم
اليوم دون حاجة إلى إله من بطشه يخافون ومن رحمته لا ييأسون مثلما يفعل
المؤمنون حتى ولو كانوا في قاع الهاوية منذ دهور يقيمون!
لقد خسرت فكرة الله كثيرا من المواقع تحت ضربات النزعات الإلحادية القديمة
والحديثة. ولكنها ستتلقّى ضربة قاضية من اتجاهات فلسفية معاصرة جديدة،
بدأت تعيد النظر في احتكار الأديان الكلاسيكية للحياة الروحية للإنسان،
وتنظّر لترسيخ هذه الحياة دون الحاجة إلى إيمان بالله. وهكذا أصبح فقدان
الإيمان تحرّرا وليس مأساة عدمية وضياعا في غياهب القلق والخوف من الموت
والمجهول. "هناك حياة قبل الموت"! كتبت يد "ثمانية وستينية" على حائط في
الحيّ اللاتيني. على طرافته وبديهيته يبدو كأن هذا الخبر السعيد لم يصل بعد
إلى بعض البشر. "الحمد لله اللي كاين الموت"، نحمد الله على وجود
الموت، ذاك ما يردّد أهلنا في الجزائر آملين تعويضا في الآخرة أمام ما
يلحقهم من ظلم في دار الدنيا.
لا ينتظر اللامؤمن بــ"الحياة بعد الموت" شيئا، لذلك فهو يعيش كلّ لحظة
بكلّ ما يملك من حبّ للحياة الحاضرة، مكتفيا بـ" هنا والآن'.
إذا وجد المؤمن عزاءه ومواساته في وعد الدين ووعيده أمام الموت، فإنّ نفس
هذا الموت سيكون بالنسبة للملحد دافعا لحبّ الحياة ومحاولة التمتع بأكبر
قدر بمباهجها. فإذا كان الموت شيئا مقدّرا فمن العار أن تموت صاحيا، كما
يلخّص الفكرة أحد أجدادنا. أليس من الأجدر بنا أن نحاول استغلال فترة
وجودنا في التمتع بالحياة بدل تضييع حياتنا في الخوف من الموت وما
بعده؟ ألم يكن مارك أوريل الإمبراطور الفيلسوف محقا حينما كتب أنّ الموت
دافع لنا كي نعيش أحسن؟
أصبح اليوم ساذجا ذلك القول الذي يدّعي أصحابه أنّ عدم الإيمان بالله هو
نفي للحياة الروحية والروحانيات، وأسذج منه ذلك الذي يؤكّد أنّ اضمحلال
الدين يعني دخول الإنسان عهد عدمية خطيرة. هل يتجلّى وهج الروح في عبادة
سلبية لحجر أسود أو صلوات تتلى على عجل أو إيمان بحياة في عالم آخر أو لطشة
على الجبهة من بعيد كالختم تظهر؟ أهو التباري في سنتمترات قد تبلغها
شعيرات ذقن أو مدى كثافة حجاب أو هو ذاك التبرّم من رؤية خصلة من شعر؟
إذا كان المؤمنون من كلّ شيء متيّقنون، فهم من سحر العالم وغرابته
محرومون، إذ أنّ الدين يدّعي إنتاج حقيقة لهم تحت غطاء الإيمان. وبذلك يكون
غير المؤمنين إلى الروحانية أقرب في بحثهم الحرّ والمتسائل عن علاقة
كينونتهم بالعالم : الإنسان كائن منتهِ يتوق نحو اللانهائي، وكائن زمنيّ
محدود يتوق نحو الأبدية، ونسبيّ يتوق إلى المطلق..الروحانية هي الوعي
السعيد أو الشقيّ بهذا الوضع البشريّ المعقد في هذا الكون الذي لم يكشف
الإنسان كل أسراره.
ذهب الدين في الغرب ولن يعود لسبب بسيط هو أنّ الإنسان قد بدأ مسيرته
التحررية من ربقة الأسطورة الدينية وإرهاب النمطية الأخلاقية. لقد
ماتت فكرة الله سوسيولوجيا في القرن العشرين بعد ما قتلت فلسفيا في القرنين
الثامن عشر والتاسع عشر.
فهل عودة الروح هي جموع تصلّي وتستجدي الله في كلّ مكان حتى وسط القاذورات
ومجاري المياه العفنة؟ هل العودة هي بابا فاتيكان مستمرّ في غيّه رافضا
إباحة الواقي الجنسيّ ومعرّضا حياة آلاف البشر لخطر الموت، حفاظا فقط على
نظرته العتيقة الساذجة للعالم؟ هل تعني عودة الروح محاولة تهويد دولة
وتحويل مواطنيها إلى مؤمنين بعقيدة يحمد ذكورها يهوههم كلّ صباح في صلاة
لأنه خلقهم ذكورا لا إناثا؟