نعم، يمكن استعراض النسيان في التاريخ باعتباره تاريخاً قائماً بذاته، ليس هذا فحسب، إنما إمكان القول: إن كل محاولات التفكير في التاريخ وقائع وأحداثاً ومدوَّنات تاريخية لا تعدو أن تكون منفذاً إلى النسيان ومداراته أو ملاطفته ليفرج عما يمكن تذكره، إن جاز التعبير. إن تاريخ النسيان يقابلنا بجمهرة كبرى من الكتابات القديمة والحديثة تلك التي تتصارع أو تتنازع أو تتحاور بطرق متفاوتة فيما بينها من منظور نسياني، وضبط السرد والقائم عليه أو مساءلته هنا وهناك، أي ما يصعد بمفهوم النسيان عالياً وليس باختزاله مدرسياً والتقليل من شأنه.
يمكن الحديث هنا عن مُعطى قائم و“هائم” من النسيان في نسخته العربية، جرّاء استنطاق المغيَّب في التاريخ العربي- الإسلامي، أو المعتم عليه، ومن يقوم على كتابته وهو مصدر إلهامه( بدءاً من كتّاب الوحي وصفاتهم الاعتبارية، مروراً بـ“رجالات” الحديث النبوي: الرواة والوسطاء، وجامعيه وممارسي الجرح والتعديل، والمؤرخين ورواتهم من جهتهم، وليس انتهاء بما جرى ويجري حتى اللحظة في تتبع الخطوط المتداخل لكتابة التاريخ، وما يتركز على محاولة “إعادته” من زوايا مختلفة، أو دواعي لا تحصَر.. إن الإيديولوجيا المعرَّبة لها وضع قيمومي هنا!)، كأن ثمة تبارياً في كيفية مناشدة النسيان حباً بذاكرة معينة.
لعل الكتابة تقوم على خميرة نسيان: لا نكتب لكي لا ننسى، إنما ننسى فنكتب ما نعتبره داخلاً في “حرمة” النسيان. وما هو مختلَف عليه هنا، هو ما يبقي النسيان في الواجهة القيمية أكثر.
في مثال“حق يأبى النسيان” يعني أن ليس من نسيان، وإلا لما كان حقاً بمواصفاته الخاصة !
إن ذلك يضعنا في الموقع الأكثر تمازجاً برهانات الأب بنسخته العربية الإسلامية وما يصله حتى بالمقدَّس، الأب الذي يطلب من “الابن” الثقافي الفكري الأدبي الفني...الخ، أن يأخذ علماً قياماً وقعوداً وحتى في المنشّط الحلمي له، أنه يعيش في مداره: كمرجع، كمحكوم بالماضي حتى وهو ينتقده ويحاول تقويم خطة عمله وطريقة إدارته للأمور، أنه ذاكرة الابن لئلا ينسى: أعني إياه طبعاً، ليكون انشداد الابن إلى الأب مسمّيه ومنمّيه، حتى وهو يخاصمه بحثاً عن أبوَّة لا تخفى أبداً، يستميت في تمثلها وهي في طبعتها الحداثية جهة النظر إلى الآخر: الأوربي : الغربي هنا، وما في ذلك من تهديد للأب بلزوم الاعتدال أو الاعتراف بحقوق الابن أكثر.
في هذا النسيان “القاعدي” يظهر النسيان ببذخه سيّد الموقف وهو ينظّر باسمه كثيراً في مكاشفة الماضي على أكثر من صعيد: ماضي الأب وسلطان الأب وسلطته والموقَّع باسمه.
إن الابن لا ينتقد الأب إنما يتوخى مصالحته كثيراً، إنه مأثوره الممضيُّ عليه بقوة، إذ ليس من مصلحته إدارة الظهر له، طالما أنه يجد من خلاله ما يتعزز به، إنه أشبه باورفيوس الموسيقي الذي يجب عليه وعليه ألا يلتفت إلى الوراء“وهنا إلى الأمام” لئلا يفقد ما تمناه أو يخسره، لأن ثمة ما سيتحسّر عليه، وهو أن يكون نداً ما للمقابل: الاوربي: الغربي. ليكون هذا المعضل:
بين نسيان يخص الآخر الذي يجتهد حداثياً لتقعيد أب على صورته، وتكون ذاكرة الابن أرحب، ونسيان يخص العربي المأخوذ بالإسلام بداية، نوعاً من الصهْر معرفياً، وهو يحاول الاجتهاد لتعبيد طريق الأب لأنه يملك ذخيرته، لتكون ذاكرة الابن أوفى لاشعورياً، كما هو الممكن تحرّيه في سياق هذه “اللعبة” المغوية المتجددة والمثمرة أيضاً في نقاط جلية تخصها.
هل من بدء نسياني؟
في حدود متابعاتي ذات الصلة بمأثور النسيان والعائد عربياً منه، أرى أن الباحث العادل خضر “وهو أكاديمي تونسي” هو أكثر من اجتهد هنا، أعني بذلك أكثر من سعى إلى العمل تحت مظلة النسيان وهو ينهمُّ بنصوص لها صلة بالتراث ومن انشغل به قبله من نظرائه عربياً، وهنا أسمي في الحال، الباحث الأثير: عبدالفتاح كيليطو الأقرب إليه في التعاطي الأدبي، وثمة الباحث الآخر ولو من زاوية أخرى منهجياً“انتروبولوجيا فرويدية في المجمل”، وأعني به: فتحي بن سلامة الأثير الآخر فيما قدَّمه من نصوص لا تفارق شغف الابن بالأب بجلاء، كما سنرى.
أين يمكن موقعة كتابات الباحث العادل خضر في مرتقى النسيان؟
إنها في واجهة النص التراثي الأدبي نشأةً، وأسمّي هنا كتابه كمجال للنظر( نسيان ما لا يُنسى أو صور الأصل في الأدب )، إنه التحديد للعنوان ونطاق استثماراته في النقد التأويلي، رغم أنه فيما انهمَّ به يتجاوز حدود الأدب بمعناه الحصري، بقدر ما يعايَن بما لا ليس أدبياً في كتاباته(1).
العنوان يدخل حلبة السباق في الحال بالنسبة لمتعهد “النسيان” والمحيط بأمره: ما نعتبره نسياناً ليس أكثر من تذكر، وما ننساه هو ما نعرف أننا ننساه، وللأدب جمالياته النافذة في سياقه.
أين يتراءى الأب اللامنسي، ويعمل الابن رمزياً في نطاق المتذكّر للآخر ولما يقوم به نقدياً ؟
إن الكتاب في بنيته مثمر في حقل النسيان. من أجل النسيان وللاعتراف بجميله كان هذا الطرح الذي أعتقده محفّزاً على العمل في أكثر من نطاق معرفي، نظراً للجوانب التي تطرَّق إليها وهي تتجاوز حدود الأدبي الحرْفية، ومن خلال “حامل” العنوان بالذات: سلسلة تحليل الخطاب (2).
بين أن يعيش الكاتب بما يشغله، كأنما يؤخَذ به“مثال الدودة الوحيدة”، وأن يستعيد نفسه من وراء الكتابة ومن أجلها يكون،“مثال حيوان: الكاتوبلاباس الخرافي”، هو ملخص تعريفي وتكثيفي لحقيقة الكاتب، اعتماداً على البيروفي “يوسا،ص 14”، كما لو أن الحالة الأولى تقرّبنا من الأب الذي لا يُنسى، وفي الحالة الثانية ينهض الابن وهو في معمعة الآخر معايناً نفسه في كل مرة: كأن دودة النسيان تهدد ما بقيت حياة الكاتب، لينشّط كاتوبلاباس ذاكرته البُنوية!
فيما ينطلق منه بذكْره هو وسواه، يرسم الباحث بشغف الآثاري الجليّ حدودَه خارج المنتظَم عقلياً ( تتفق هذه الأمثلة على أن العلاقة بين الإبداع والمؤلف هي علاقة افتراسية حيناً، التهامية حيناً آخر، مستجيبة بذلك لتصور ما للحقيقة تقع خارج قوانين المنطق والعقل، وتقوم على الالتهام، هي حقيقة الآكل والمأكول. ص 14). إن هذا التحديد يسمُ الكتاب في المجمل (3).
إي إن ثمة خفاء في العلاقة القائمة بين الكاتب وأثره، ولمعرفته لا بد من تتبعه عميقاً.
والحقيقة المركَّبة: الالتهام- الافتراس لافتة، لأنها ( تثير في آخر المطاف معضلة من المعضلات الكبرى تتعلق بأصل الأدب، أو سؤال الأصل..) ويصاغ في صياغتين مختلفتين:
1-ربْط الأصل بمشكل المحاكاة، فالأصل في الفن والأدب هو المحاكاة.
2- ربطه بمشكل الخلْق..وأبلغ ممثّل لهذا التصور هو نظرية الكتابة الدريدية، فالأصل في الفن والأدب هو اليُتْم، بما هو كتابة لا تنوب الأب/ المؤلف...
إنه “هم الأصل” كما سيُسمى في مصدره لاحقاً، وحيث يتفعل أثر دريدا بامتياز !
ولعل سؤال الأصل هو محاولة البحث عنه، من باب الفضول. إنه سؤال الابن كما يبدو.
ويظهر، كما يذكر الباحث ( أن الموت بالقتل عمل ضروري لتأسيس الأصل..ص15).
أليس في ذلك نوعاً من التقابل بين أب غائب أو يغيَّب ليُبحث عنه، وابن لا يريده تأكيداً على وجود له ولكنه يريده طالما أنه الأقدم منه، كما لو أنه مبرّر ذاكرته حيث يقوم نسيان الأب ؟
وما يذهب إليه الباحث والذي يغطي كامل مفاصل الكتاب هو هذا القتل: مرتين للأب من جهة الابن، ومرة واحدة للابن من جهة الأب، والمرات الثلاث متجاورة، وتظهر لديه هكذا في الأدب العربي القديم عبر ثلاث صور أنموذجية:
1-صورة الدَّيْن: بقتل الابن لأبيه، والقتل هنا يتأسس على شاكلة “فقيد” والأدب بهذا المعنى ( عملاً جنائزياً تحيي فيه ذكرى الأب على نحو مستمر.)..
2- صورة الحِداد: إذ يقتل الأب ابنَه، ويتخلص منه ( وحينئذ يؤسس القتلُ الأصل على أنه شوق إلى مستحيل متمثل في استعادة الأصل.) هنا( يضحي الأدب تكراراً لا يتوقف للعودة إلى الأصل أو استعادته لتملكه ).
3- صورة الافتقار، حين يعود جثمان الأب، أو جسده ( الميت بين الأحياء على شكل كتاب، فإن الموت يؤسس الأصل بوصفه ذاكرة قد فقدت أفق انتظارها..)..هنا( يضحي الأدب نسياناً للأصل كثيراً ما يتخذ صورة الهجرة والرحيل..)..
إنه الارتباط بالماضي دائماً، وهو ماضي الأب الذي يحرّك مشاعر الابن وأفكاره إزاءه، إنه التحريض النسياني على التذكر، والذي يوثّب للقاء ما للأب ولو بقتله الرمزي للاحتفاء به، فنكون في الحالة هذه في عهدة سيكولوجي فرويدي إزاء ابن يقتل أباه ليديم تذكره لا نسيانه !
هذه العلاقة الغريبة لدى الباحث، وبتعبيره، تنهض أساساً ( على مفهوم اليُتْم بوصفه مفهوماً أنسابياً تضحي فيه العلاقة بين المؤلف والكتاب كعلاقة الأب بابنه أو أبنائه.. ص 17 ).
الباحث خضر يوسع في هذه المفاهيم الثلاثة بطريقة لافتة بتشعب مشاهدها وجمالية الطرح فيها:
عند الجاحظ في الحالة الأولى، وقد قتلته كتبه( فالقتل وإن اتخذ في موت الجاحظ صورة قتل الأب، إنما يعلّمنا طريقة من الطرق التي نستطيع أن نتواصل بها مع الأموات للفوز بالأبدية. ص 21).
في مثال التوحيدي، يكون ( العُقْم بما هو حِداد ) حيث ( إن الخلاص من الميت هو جوهر عمل الحِداد.. ص 21). إنما كيف؟ ( الحِداد هاهنا ليس بسبب اليُتْم، وإنما من جرّاء العُقْم.ص23)، وذلك إزاء شعور التوحيدي وهو يتلف كتبه ( لإبطال عمل الوراثة. ص 22)، ويكون المشهد الثالث في حيّز“الوهم بما هو افتقار”، عبر مثال ابن رشد، بعد إخراجه من قبره ودفنه في مكان آخر، وهو موت مأسوي مضاعف ( فمشهد القبر أو التابوت يخفي صورة أخرى لا تُرى هي جثمان ابن رشد. ص 26 ).
أي أبوة دريدية تم العمل بموجبها، كما تعلِمنا النقاط المفصلية للكتاب؟
تكون النتيجة في الصيغ الثلاث هكذا: وهي أنها ارتبطت بالنسيان، وبالتالي، فإن ( الأصل لا يكون إلا بنسيانه والسكوت عن ذكراه... ص 27 ) ، وهي العملية التي تؤكد أن ( النسيان لا يُنسى، وأن ما لا يُنسى هو هذا الأصل الذي كلما أسسناه بالقتل عاد إلينا كعودة المكبوت في صورة أليفة غريبة هي صور النسيان، أو “نسيان ما لا يُنسى”. ص 28 )، والباب الثالث الذي يستند إلى ( النسيان بما هو افتقار)، مخصَّص للبحث فيما هو شعري“مع المعرّي”، وهو يُذكر لاحقاً، أي يحل محل ابن رشد. فنكون إزاء كاتب متعدد الأغراض هو الجاحظ، ولاحقاً، يأتي التوحيدي القريب منه والمختلف عنه وهو حالة تمردية معروفة، والمعرَّي الشاعر، وهو الناقم الآخر على تاريخ قائم، وتحديداً من خلال المأثور الديني وتفعيله القيمي.
في هذا الإطار يفتح الباحث الباب واسعاً، لاستعادة المثار باختصار، بادئاً بالجاحظ ومغزى“الاسم المحظور”، لعله اسم الأب بالذات، كما هو متَّفق عليه، وعبر سرد أمثلة مختلفة، حيث تكون الكنية هي القائمة في مواجهة الغريب، وفي حيّز لعَبي ( فالكنية غطاء الاسم .ص39).
والمفصَح عنه هو أن المنسي لا يُنسى لأن الكنية هي التي تعلِمنا به، وهذا ينطبق على الجاحظ في مثال يعنيه وقد نسي اسمه أياماً ثلاثة، ثم جاءت الكنية ( إن محو الاسم هو غيابه أيضاً..ص 51)، ولعلنا إزاء التفاف على الاسم ( فالجاحظ وهو يمتنع عن ذكر اسم اسمه، يجعل نصه في وضع اللقيط. ص 51)، وهكذا كانت طريقة تعامله مع كتب له بعدم ذكر اسمه، لأسباب لها صلة بالمحيطين به، كما في الخوف من ( طعن الحاسدين. ص 59 )من جهة أخرى لم تكن كثرة الأسماء المشتركة في كنية “أبو عثمان” بسبب النسيان ،بل( فرط التذكر.ص 71).
لكن الكتابة تظل تذكّر بالكاتب ( فالكتابة ليست سوى هذا الغياب الأبوي، أي هذه الرغبة “في اليُتْم والتدمير القاتل للأب” . ص 85 ).
ومما يلفت في متابعة الباحث لكتابات الجاحظ هو ربطه بين كتابته وجحوظه بوصفه نتوءاً، ومن باب الدهشة، ليقول( العين هي تيولوجيا المعنى..ص87)، ومن ثم ليربط بين الكتابة واعتبارها ( الانقذاف المنوي..ص91).
في الحالات كافة تلك المتعلقة بالجاحظ، يبقى الجاحظ في مواجهة نفسه، كما لو أن الجاحظ أقام علاقته مع كتابه على أكثر من صعيد، إنما من موقع تشكيكه في الآخرين، وكونه وجد نفسه الوحيد مع كتبه، كما لو أنه بث قواه في كتاب لم تكن علاقته به كما يجب، انطلاقاً من تنوع الموضوعات التي تطرَّق إليها، وكأن هذا الإجراء ارتد عليه بمقتله.
في الفصل الثاني الممثّل للصيغة الثانية، نكون إزاء( القول المسلوب )، وما في ذلك من تقابل بين النسيان والذاكرة، بين الحقيقة وحجبها، مع هيدجر ولاكان وغيرهما،( ففي الملفوظ “عبارة: نسيت شيئاً” إقرار بالنسيان، ولكنه إقرار لا يمكن أن ينجز إلا بتذكر الذات حدث النسيان لا الشيء المنسي.. ص 104 ).
ذلك ينطبق على الصوفي أيضاً، وهو لا يلفظ خالقه إلا بطريقة خاصة: ينساه ويتذكره، ينساه ويشتاق إليه، حيث يقوم موضوع“الشوق و( التشوق للمستحيل. ص 117 ).
والمثير في هذا السياق، هو القائم على مفهوم” الجزء اللعين “وهو لباتاي، وهو كيفية التخلص مما هو فائض لاستعادة التوازن، كما في حال التوحيدي عبر الخلاص من ( الفائض من مكتوبه، بإخفاء بعض كتبه في البداية، أو إتلاف جميع كتبه في النهاية. ص177).
ولنكون في رحابة مرئية وغير مرئية للصيغة الثالثة لاحقاً: النسيان بما هو افتقار ( نسيان الشعر.. أشعار النسيان )، ومن خلال المعرّي أنموذجاً.
البدء يكون مع ” لسان آدم.. أبو النسيان “تعبيراً عن هذا النسيان المفعَّل بشرياً.
ثمة نسيان لآدم لبعض الأشعار، ونسيانه للغته السالفة وقد حل على الأرض” ص 211“، ويتأكد أيضاً مع ( رسالة الغفران ) للمعرّي، باعتماد” ابن القارح “لسان حاله، حيث الربط” بين انسان الذاكرة وذاكرة العميان “، وعبر التطرق إلى أمثلة مختلفة من خلال ( نسق هذه الأساطير وطقوس” الذاكرة والنسيان “نسجت قصص النجاة والخلاص في رسالة الغفران..ص 256 )، وعبرها تتشكل لعبة المعري في نسج أقواله وحكاياته وأشعاره.
صيغ مركَّبة ثلاث يتقابل فيها الأب مع الابن، وربما يكون الابن هو الساعي إلى ذلك، كونه يحتاج باستمرار، وبصفته الابن إلى استرضاء الأب باعتباره المرجَع، وما يسرده يحيله إليه، بقدر ما يبعده عن النسيان. ألسنا نجد أنفسنا في مواجهة ميتافيزيقا عنف تبلبل علينا ذاكرتنا؟
ذلك ما يتم عبر تفعيل خاصية القتل، وفي صيغ قابلة للتعميم، كما قال منذ البداية. وهنا يمكن القول: إن الملاحظة الكبرى الممكنة التوجيه إلى الباحث حيث تتم” أبونة “الكتابة، وهي بفضيلة” مؤبننة“إن جاز التعبير، هي اعتماده على ثلاثة أسماء تكاد تتقارب كثيراً: الجاحظ المعتزلي، والتوحيدي المعتزلي اعتباراً، بصفته” لامنتمي “عصره، والمعرّي الساخط هو الآخر ليس على عصره فقط، وإنما الرافض لطريقة التفكير والتعامل مع الحياة تاريخياً، وكان يمكن لابن رشد الفيلسوف وابن القرن الثاني عشر أن يكون أكثر أهلية لموضوعه، رغم قربه من الآخريْن، طالما أنه أورده في البداية، وهو يتحدث عن” الأدب العربي القديم “.
ربما هو نسيان من نوع آخر لا يندرج في سياق المفهوم المقدَّم به في النص!
خضر يتحدث عن أصل الأدب العربي الموجَّه بعمل القتل، من خلال مجموعة نماذج، وهي متقاربة طبعاً، مقارِباً إلى حد كبير بين الجاحظ، وهو يعمل في حقول مختلفة، على مشارف الفكر والنقد، وآخر، هو التوحيدي من بعده مختلف عنه جهة الرؤية إلى موضوعه، ونقده الحاد لمجتمعه، وهو الأكثر هامشية، والمعرّي الأقرب إلى الشعر طبعاً، بنزوعه التشاؤمي.
ثمة توحيد لكل صور الأدب، وما اعتمد عليه كان أكثر بعداً مما هو أدبي بالمعنى الحديث.
لكن اللافت هنا هو مدى تأثره بكيليطو، رغم محاولته نقده وتجاوزه، عبر السعي إلى تعميق مفهوم” النسيان “، وأعتقد أن خضر قد قرأ كتاب كيليطو” الكتابة والتناسخ “أكثر من مرة، أكثر من سواه أو توقف عند نقاطه المفصلية، ونوّع فيما جاء به، رغم حضوره القليل عنده (4).
ما أود طرحه هنا هو الآتي:
إن قراءة كتاب كيليطو” السالف الذكر، في ضوء قراءة كتاب خضر، تظهر، بما لا يدع مجالاً للشك، أنه استقى منه جل أفكاره، وهي المتعلقة بمفهوم المحاكاة والنسيان(5)، وبدءاً من الفصل الأول،وليكون المتعلق بالجاحظ أهم ما استوقفه خضر وانهم به، وقد احتل فصلين عند كيليطو: السادس والسابع “صص 63- 80”...الخ.
لا أظن أن خضر أخذ المسألة من زاوية بحثية ليتجاوزها، إنما لأن المثار عند كيليطو تملَّكه نفسياً بأكثر من معنى، كما لو أن الذي جاء به أراد أن يعلِم قارئه أنه مغاير للآخر، والموضوع ليس كذلك إطلاقاً، على الأقل لأنه لم يلتزم بما هو أكاديمي وهو الاعتراف بفضيلة السابق قبل كل شيء، ومن ثم بأهمية حضوره الأدبية والتأويلية تحديداً. إن الأبوة لها منحى آخر هنا.
هذا ما يتعلق بكتب أخرى لكيليطو: لسان آدم، أبو العلاء المعري، أو متاهات القول، خصوصاً وأن المعري احتل الباب الثالث من كتابه، كما أسلفت. إن حضور كيليطو ملحوظ جداً في متن بحثه، رغم أنه يكاد يظلل جل فقرات بحثه في كتابه (6).
لكن ذلك ينطبق على علاقته بدريدا أكثر من خلال “الغراماتولوجيا” و“صيدلية أفلاطون”، حيث إن استثماره لمفاهيم درّيدية لا يقصينا عن نوعية المغامرة في كتابته من جهة المختلَف عليه ثقافياً، وفي الوقت نفسه يُتْم استقدام مقاييس لها خطورتها من جهة المحاكاة، وصِلات الأب والابن، والكتابة والكلام، أو الكتابة والاستمناء، وهو مفصل رئيس لكتاب دريدا(7).
في الجانب الآخر، ربما بدا فتحي بن سلامة، وتحديداً في كتابه ( الإسلام والتحليل النفسي) مؤثراً أيضاً، حيث الحديث يتعلق بالرغبة في المستحيل، والذي يحيل إلى أصل، لا بد أن يتقرر في شخص أب لا يحاط به، ولا بد أن يكون كذلك، بوصفه منسوباً هنا إلى اللاشعور، وهو يصل بالأب الذي يقع في نطاق المستحيل بلوغه(8).
محاولة مجاراة الأب
هنا يمكن التعرض لكيليطو، ولو باختصار، إذ ذكِر سابقاً، وأشير إليه في المتن والهامش معاً، إنما من خلال سعي الباحث خضر إلى الكتابة في ضوء قراءته للعديد من كتبه، وفي المقدمة( الكتابة والتناسخ )، لتأتي هذه القراءة نوعاً من التباري المضمر، حيث تتضاعف الأبوية.
كيليطو يبرز مكثفّاً لكلمته، وثمة اقتدار في الإحاطة بالفكرة المطروحة، في نطاق تأويله الذي يستند إلى ما هو تفكيكي من ناحية، وإلى جانب من الاستهوائية النفسية من ناحية أخرى.
لكن ثمة أباً غريباً يظلل نصه كثيراً، ويحال عليه دريدياً:
إن مؤلَّفه ( الكتابة والتناسخ ) لا يخفي هذا المعلَم التأثري، إنه محاكاة لمحاكاة، هو الأثر الذي نتعرف عليه من خلال بنية الكتاب عبر الرجوع إلى دريدا في ( علم الكتابة ) وفي علاقة الاسم بالكتابة، وكيفية استعمال الاسم رغم اختلاف المسار، لكن ذلك لا يحول دون القبض على ما هو مشترك، يكون المؤلف دريدا هو أب لمن يحاول أن يكون أباً: كيليطو، وبالتالي، فإن الاقتداء بالأب هنا يتخذ صيغة استحواذية، يبعد المؤلف: كيليطو عن حقيقة رغبته في أن يكون أباً.
يدخل النسيان في لعبة الإخفاء والتجلي، من جهة حامله الفعلي، عندما يحاول كيليطو تأصيله عربياً، حيث إن عبارته ( التقليد راعي حياة الكلام وجوهره..)(9)، لها نسب دريدي، على صعيد العلاقة بين كل من الكتابة والكلام، وموقع الأب من ذلك: إلى متى يمكن للابن أن يسلَم من عنف الأب باعتباره الأصل المفترض، وهو يتكلم“الابن” ثم يحاول الكتابة في ضوء ما يبقيه مشدوداً إلى الأب؟ حيث إن النسيان يتقاسم البعدين، إنما دائماً تحت مظلة الأب المفترضة.
في التقليد ثمة أصل ما، تخلص له الجماعة ذات النسَب الأبوي، ولحنينها قوة ضاربة في التاريخ من جهة تجديد العقد باستمرار مع أب يُحتمى به، لأن ثمة من يريد التحرك على منواله، وليكون الكلام الذي يتردد هنا وهناك طعم التعويذة الشعائرية، ولا تبتعد الكتابة عن هذا المؤصَّل وهو مخيف ويتوعد الساعي إلى الابتعاد بنفسه، كما هو جبروت الصوت و“كهنوته” المعرب في الثقافة العربية الإسلامية، ورهبة الأسماء بالمقابل، وكيفية التعامل معها حتى الآن.
كيليطو الذي يتحفنا كثيراً في استرساله المحاكاتي لأصل هو مرجعه الدريدي كثيراً، في مختلف كتبه، ما يشغله هو الأصل: القريب أو البعيد، حيث الماضي يسيطر حتى على لاشعوره، وكتبه هي التي تعلمنا بذلك، في ( الأدب والغرابة ) و( ولسان آدم) و( شرفة ابن رشد)(10)..الخ.
إنه يكتب ليتذكر، يتذكر لئلا ينسى، لكن الذي يحاول نسيانه هو ما يحفّزه على الكتابة: هو ألا يكون مثل هذا الذي يتذكره ويريد نسيانه: الأب وثقافته، نظراً لأن الأب في هيئة شبح، يحول كثيراً دون التحرك كما يريد، وكونه متأصلاً في بنية ثقافة تصل ما بين السماء والأرض.
أزعم هنا أن كيليطو الذي اهتممت به كثيراً، ونظراً لتنوع موضوعاته التي تتعرض لأسماء هي رموز في الثقافة العربية الإسلامية، يحاول أن يؤسس لـ“غراماتولوجيا” على طريقة دريدا، وفيما أثاره الأخير في ( هوامش الفلسفة ) و( الكتابة والاختلاف ) و( الانتثار) و( أبراج بابل)، وغيرها من الكتب الأخرى، وهي تتفاعل مع بعضها بعضاً، إنه أب من نوع آخر لكتابته (11).
إن شوق كيليطو إلى الأب الذي يعنيه، يصطدم، كما أعتقد كثيراً بعوائق لها صلة بالمنهج الذي اعتمده ومن يشكل خميرته، إذ إن غواية الأب المستقى بنسبَه الدريدي تتملك المفاصل الحركية الكبرى لنصوصه، وفي الوقت الذي يفصح أسلوب كيليطو عن منحى جمالي أخاذ في تناول موضوعه بكثافة واقتدار، إلا أنه يترجم مدى انسكانه بصوت متكلم هو الأب الدريدي، وما في ذلك من دخول في طريق يقصيه عن الأب الذي يتعرض لنصوص من كتبوا في محيطه عربياً.
النسيان في لاشعور فتحي بن سلامة
لعله قناع مختلف هو هذا النسيان الذي يمكن النظر فيه والذهاب إلى ما وراء مكوّنه وتفرع “أصوله”، لدى باحث تونسي يشتغل في التحليل النفسي في باريس، وله ضروب اجتهاد لافتة.
إن كتابه المشار إليه ( الإسلام والتحليل النفسي ) له اعتباره الثقافي أو الانتروبولوجي العميق هنا طبعاً، من خلال البحث عن أصل ما لكل هذا القلق الذي يتلبس الثقافة العربية الإسلامية منذ نشأتها إلى الآن، حيث عنف الراهن الذي يتعرض له هو الذي يحفّزه على الذهاب بفكرته بعيداً لاستنطاق الأصل، وتحري العلاقة القائمة بين الأب والابن، وما هو أكثر من ذلك: الأب الآخر بالمعنى الكوني والمجازي: الله نفسه، وما يناظره على صعيد قدسي أرضياً، لأن مفهوم“الغربة” هو الذي يتجذر في صلب الكتاب: غربة عن الأصل، غربة عن الأب، غربة عما هو منشود، حيث يكون سرد الكلام، وهو محاكاتي في الصميم، ومن خلال بنية دينية، رغم أن المرأة هي التي تلوّن الكتاب بموضوعاته المختلفة“هاجر”، ولكن هاجر لا تنفصل عن الأب المسيطر، باعتباره السلطة في الكلام وفي الكتابة التي لا تبتعد عنه، أبعد من حدود “ابراهيم”.
إن ( هم الأصل ) وهو مفتتح الكتاب في فصله الأول، هو حامل حبات المسبحة، وللأصل في همه أصلاً، وأعني بذلك ما هو دريدي، عبر الإحالة إليه، ولو بإشارة عابرة (12).
هم كبير للباحث الانتروبولوجي الفرويدي اللاكاني المسار، هو ما ينشغل به، في كيفية مقاربة الأصل، رغم معرفته التامة أن البحث عن الأصل وهم، ولكنه الوهم الذي يفجّر تصورات ومن ثم يرسم حدوداً مفترضة لعلاقات بين كلام لا يمكن التأكد منه، إلا في سياقه المتخيَّل، وما يبقيه في الواجهة كلامياً، في نصه الديني ومن حاولوا قوعدته فقهياً، أي شرعنة الأب الأعلى، ومن ثم الاحتفاء بهذا الأب الذي لا يمكن تجاوزه “الأب البدائي” بمظهره الفرويدي في ( موسى والتوحيد)، وليُتْم التجاذب بين هذا الأب المرهوب الجانب والمهيوب الطلعة والذي يستحيل النظر فيه أو إليه، حيث لا يحاط به، وهو يملأ الكون المرئي واللامرئي، وهذا يشكل مدعاة لأن يندفع المعني في كل اتجاه ليرسم صورة افتراضية له، أو يتخيل كتابياً ما يمكن أن يكونه.
ثمة تنازع بين الكلام الذي يُزعَم أنه للأب: البدء في اللغة، والكتابة المحصورة زمكانياً، ومحاولة قهر النسيان عبر التأسيس لذاكرة لا تقصي الأب إنما تؤالفه هنا وهناك.
يكون الشوق إلى المستحيل انجذاباً إلى هذا الأب بالذات، ومتعة في تصوره الذكوري، لكنه الشوق المحال لأن الأب لا يطال، ليبقى الابن طوع أوامره في المتن، مسكوناً به، وفي الوقت الذي يكون الأب الأرضي محتكراً له، كما لو أنه الناطق بحقيقته فقهياً، وما في ذلك من تنويع في الكتابة التي تسلّط الضوء على الأنثوي من منظور ذكوري لافت في المحصّلة.
الباحث فتحي بن سلامة رغم براعته في مكاشفة ما يهمه، وعبر عشرات الإحالات المرجعية، يبقى في عهدة الأب: المرجع، ثمة دريدا، وثمة سواه، لكن دريدا مفصلي الحضور، حيث المعتبَر الكلامَ المفصح عن حقيقة الأب وهو سارح في تاريخ لم يؤرَخ له، والكتابة التي لا تكف عن مناشدته، ليس حباً في اكتشافه، وإنما تعبيراً عن مدى انشغال الابن بالأب وفتنته (13).
يتخذ النسيان هنا بُعداً من الأسطرة في الكتابة، ولعله كذلك إزاء هذه الرحابة اللامتناهية بين كل من الأب والابن، كما لو أن الابن يتذكر الأب لئلا ينساه هذا، رغم أن العلاقة ذات مسار واحد، وهو أن الابن هو من يحاول تذكر الأب، لئلا ينساه، ويمارس حضوره باعتباره الأبَ نفسه، سوى أنه في الشوق إلى المستحيل، لا يخفي قلقه من سيطرة الأب عليه في المجمل، ولعل هذا الضرب الاستثنائي من العلاقة هو الذي يحول دون الإتيان بما هو إبداعي في مختلف المجالات الحياتية، طالما أن انشغالاً لافتاً يتلبس جسد الابن، وينبهه بأنه الابن، خلاف دريدا الذي ظهر أكثر تحرراً من سيطرته في كتابته، وليكون فتحي بن سلامة محالاً إلى هذا الظل الدريدي، أما كيليطو فهو مجاوره في تأويله الأدبي، بينما خضر فهو في الترتيب اللاحق رغم تنوع أمثلته.
هذا يحفّزنا على مفاتحة جنسانية الأبوية الطاغية في الثقافة العربية الإسلامية، إنما الأهم من كل ذلك، الأبوية المرتسمة والمعمولة في بنية النفس، وما في ذلك من سلفية أكّالة !