تجنيس النسيان بين الأب والابن
الثلاثاء 12 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013
بقلم: إبراهيم محمود
شارك هذه الصفحة:
مفردة “بيْن” تتضمن مسافة قليلة أو كثيرة تحُول دون لقاء الأب والابن أو بالعكس، لكنها المسافة التي تسمّي الأب الذي يحدّد، هو بالذات، من جهته تلك المسافة التي تبقيه محبوباً مهيوباً، يستحيل لمسه بالكامل، حفاظاً على موقعه الرمزي كأب طبعاً. والبيْن هو البُعد أيضاً !
لكن كيف يمكن مقاربة النسيان ومكاشفة الموقع النُّشئي“الجينالوجي” له ؟ كيف صار النسيان نسياناً؟ ولماذا يستمر نسياناً ؟ ومن الذي يحرص على إبقائه وبقائه نسياناً؟ وأي دور يؤدّيه في هذه العلاقة البينية التاريخية في الصميم ؟
لكن قبل مفاتحة العنوان عبر تبيُّنه، يمكن إثارة التالي :
النسيان واقع بين الأب والابن إعلاء من شأن الأب وتأطيراً دقيقاً لمقام الابن من خلاله.
النسيان لا صلة له بالأب، إنما بالابن، لأن الأول يتكلم. إنه مالك زمام الكلام، حاضره المتدفق، كما لو أنه يلغي التقطيع الزمني، وبالتالي فلا ماض“خلفياً” له، بما أنه عين الكلام، مرئِيُّه، بينما الابن فهو المعني بالكلام: المصغي إليه، لئلا يسقط من زمن الأب، لئلا “يفترسه” الكرونوس“الموقَّع عليه أبوياً، سوى أنه منسوب إليه. إن نسيان الأب كارثة بِنَوية إذاً.
للتخفيف من حدة النسيان، من سمة التهديد فيه، يبقى التذكر العلامةَ الفارقة للابن؟ نعم! الابن يتذكر وعينه ووجهه وتركيزه على الأب، على الجهة التي يتموقع فيها، إنها إحداثيته الكبرى، أي كينونته الآتية من خلاله. فالنسيان واقع على الابن، ولئلا يطاله بيولوجياً، ما عليه إلا أن يستمر في التذكر، كون الإصغاء وضعية تنبُّه، أي تذكر: تذكر ما يقوله الأب ليحيا به.
الأب ليس لديه ذاكرة. ولماذا الذاكرة، إذا كان النسيان مستبعَداً عنه؟ إذا كان هو ذاته الحاضر المستمر، بصوته وصورته ونبرة صوته ومشهدية ملامحه..، التذكر مهمة الابن التي لا تنتهي، لأن ثمة تأبيداً لها، كما لو أن الابن محكوم بالأب، أي في اعتباره حامل الزمن دون انفصال، فيكون التذكر متصرَّفاً به خشية الوقوع في النسيان، وما لذلك من عواقب، ولعل من أولاها: الحرمان الزمني الوخيم، لفترة تطول أو تقصر، من نعمة سماع صوت الأب، من رؤيته. إن كل انفصال جلَّاب لسيئة ما، من ذلك: التأخر عن ركب الأب، عن تفهمه، والتهديد بالموت: فالكلام إيعاز بليغ بحياة تحيل على الأب، وانقطاع صوته إيعاز بالموت الذي يتوعد الابن تباعاً.
التذكر لا يليق بالأب كونه الأب، أباً، التذكر وضع تعبوي تبعي معاً، إنه يتقمص الابن الداخل رغماً عنه، وليس عن رغبة في طواعية الأب، لئلا تصيبه عاهة النسيان من جهة الابن. التذكر يسمّي الابن بالمقابل، ولأنه يسمّيه فالنسيان داخل في بنيته أو يشاركه مصيراً، كما لو أنه محكوم بلعبة الأب بامتياز، وكون الاثنين يعنيان الزمن متقطعاً، يكون الابن مهدَّداً بالأب: الزمن من جهة أخرى، كما لو أنه مولود ومحتفىً به ليكون في مقدوره تسمية الأب وتعظيمه.
الأب هو الأب، كما لو أنه المجرد من البنوة” لم يكن ابناً ذات يوم “، رغم أنه كانه بالتأكيد، ولكنه، ولأنه لا يتذكر ما يجعله ابناً، ويأبى النسيان، النسيان الذي يوحي باعتباره ابناً ذات يوم سابق، يستقر ويتمركز حول اسمه، ويكون شغف الابن إلى ما كانه وهو مجهوله.
النسيان هو المحرّض على التذكر، باعتباره تذكراً: من ينسى يعني أن ثمة ما يُتذكَّر، فثمة مراوحة بين المتعة في تذكر ما كان عليه الأب: المتعة التي تبقيه في الوجود، والشوق إلى أصل يستشرف مبناه ومعناه، بينما النسيان الذي هو أحد وسائل الأب الدفاعية يحول دون بلوغ حقيقة المتعة تلك، حيث يكون أساس الكلام، الأب المحض الذي يتراءى خارج نطاق تكويني .
الكلام: الأب، والذي لا يكف عن التردد تعبيراً عن كينونة فارضة سلطتها، يظلل ما عداه، أي ما يصل به دون أن يكونه، حيث تتم الانعطافة الكبرى: الكتابة، الكتابة: الابن، وهي تتطلب تدخلاً دائماً من الأب، وحتى تقريعاً، وإعلاماً بوجود خطأ، أو خطل، أو خلل في بنيته، لأن ثمة صمتاً، بينما الكلام فهو حي بقواه الكاملة، ليكون الابن الكتابة القهرية لأب ينبذها كونها تخاصم الكلام الذي يكونه، وكأنها تحرمه من الاستمرار في الوجود، من البقاء مستغرقاً في متعته، كأن الكتابة مقاومة الابن وحالة شِرْك تسعى للإطاحة بالأب، بمتعة قائمة بعيداً عنه.
يبلغ الصراع أوجه من جهة النسيان وفقهه وفلسفته وإدارة أموره مع ظهور الكتابة، وهي تجعل من الأب: الكلام محوراً لها، وهو في حالة غياب مستمرة، ويكون الشوق إلى أصل يستحيل بلوغه، كما لو أن الابن يريد أن يصير أباً وهو محال لأنه ينطلق من الكتابة.
النسيان يمثّل أخطر لعبة عاشتها ولما تزل تعيشها البشرية في تقاسم السلطة بين الأب الذي يرفض التنسيب إلى ابن ما، وحتى التسمية باسم ما، والابن الذي ينسكن بالقهر والكبت وصور المقاومة، والتوق إلى متعة معتبَرة، وهي أن يتكلم، أن يكون الأب أيضا دون جدوى. يكون الاصطدام بقدرية محكَمة، مقننة ومشرعنة على أكثر من صعيد، ليكون التاريخ مسرحهما الذي يستحيل الإحاطة به، فلا بداية ولا نهاية إلا افتراضاً، وكأن المثار حقيقة.. ويا له من عبث !
دخول على خط النسيان:
أصل النسيان، هو أنه لم يكن، لم يصبح، أو لم يغدُ نسياناً، إلا على وقْع تذكر ما، وكأن شبح الأب الذي يواعد الابن ويلح عليه بضرورة الالتزام بحدوده، هو الذي يثير الموضوع، وأن الابن نفسه داخل في هذا العقْد الذي يوقَّع عليه باسمه، وحتى بالنيابة عن الأب. الابن الذي يكتب طبعاً، إزاء الأب الذي لا يكتب” كحال سقراط “، رغم أن مثير الموضوع هو نفسه من أضفى اعتباراً استثنائياً على الكلام بوصفه الأب: أفلاطون” الابن الرمزي لسقراط “، والذي صار يكتب على هوى الأب الغائب والمغيَّب، ليكون المثار الأفلاطوني خميرة كتابات شتى، ومن خلال سلسلة تاريخية طويلة جداً من المصطفين أبناء، وبأكثر من لغة، يصغون إليه بوقار .
الحائر والقلق جاك دريدا”1930-2004“ربما كان أكثر الفلاسفة” الخاصّين“انشغالاً بقضية النسيان، والخصوصية لها صلة بطبيعة التفكير التي ينطلق منها وإليها يعود، بصفته أبعد من كونه” خارج السرب: الفكري الفلسفي الأوربي “،ولأن جعْل النسيان Oubli” وبالحرف الكبير دلالة على التمايز “المحور الأكثر إثارة له في مجمل مؤلفاته، بل ربما أمكن وصفه دون تردد بـ” فيلسوف النسيان “حباً بتذكر معزَّز باسمه، لأنه رأى نفسه في المساحة” الفالتة، وغير السوية “بين الكلام الذي يعيد الاعتبار للذات، لحاضر يستعاد، من منطوق الأب، الأب كسلطة نسقية لا تجارى ولا تبارى، والكتابة التي تهمَّش ويُنظر إليها بريب، فهي منظور إليها ( في إطار وظيفة ثانوية وأداتية ..) (1)، إلى درجة مقاربته كما لو أنه كان يعيش فوبيا النسيان.
بقي أفلاطون اليوناني ما قبل الميلادي، بمثابة الأب الناطق والمستنطق للفلسفة الغربية: مبتداها، والمستعاد في أغلب القضايا الفلسفية ما قبل الميلادية غربياً، وربما إلى أجل غير مسمى!
كان سقراط الأب لأفلاطون، والذي لم يكتب، كما هو معروف، وأفلاطون المتكلم باسمه والكاتب مكرَهاً لتخليد اسم معلّمه” أس الكلام ومعلّمه “ليكون شاهد الكلام وشهيد الكتابة.
في أتون الحرب الوطيس بين الكلام والكتابة تتراءى كل القضايا الموقَّع عليها ليس على مدرَّج جامعة الفلسفة فحسب، وإنما في التاريخ بامتياز، لأن المرجع هو هذا التصور الكتابي.
” فيدر: فايدروس“الكتاب الفلسفي الأفلاطوني الممسرح والقائم كغيره من كتب أفلاطون على المحاورة رغم محورتها سقراطياً، جوهرة كتب أفلاطون بالنسبة لدريدا، حيث يتم استئناف قضية الفلسفة بوصفها قضية نسيان دورياً: توقير الأب والخوف منه( الكتابة هي هذا النسيان للذات، هذا التخارج المضاد للذاكرة الباطنية ولعملية التذكر التي تفتتح تاريخ العقل. وهو ما كانت محاورة فايدروس تقوله: الكتابة هي في آن تكنيك للتذكر وطاقة للنسيان..غ،ص91 )، وهذا ما يتكرر لاحقاً( الكتابة نسيان لأنها توسط وخروج للوغوس من ذاته..غ،ص111).
يخرج اللوغوس ليظهر على ملأه الكتابي باعتباره كلاماً مؤصلاً، أو مؤصلاً ككلام، وما كان له أن يعلَم بأمره دون هذه الحيلة: المكرية، بالكتابة، لتكون تذكيراً بسلطة الأب، الأب المقذوف أساساً في تاريخ لا يعرَف عن نشأته ما يمكن الأخذ به بدقة، كما يقول الأثر trace، البوصلة الدريدية التاريخية في تحرّي جينالوجيا الكلام، الأثر الذي يقود إلى ( اللاأصل..غ،ص147).
ندخل هنا في صراع جانبي مع الاسم، إنما لإضاءة قضية النسيان، من خلال شتراوس الإناسي، وهو وسط هنود” النامبيكوارا“في” أميركا“، حيث يحظَّر نطق اسم العلم، للغرباء خصوصاً، فهؤلاء بعيدون عن الكتابة، ولهم طريقة خاصة مع الأسماء” يحظر اسم الأب“، كما لو أنهم يتقاسمون الكلام والكتابة ويحظَّر نقل هذا السر إلى الغريب” شتراوس، مثلاً“، والذي يكتب: ينقل سراً، في كتابه ( مدارات حزينة)، وما في ذلك من عنف ممرَّر من لدن شتراوس نفسه.
ربما هذا ينطبق على روسو، والذي لم أناسياً، وهو شخصية مأثورة لشتراوس، لرهانه على الطبيعة، كما لو أنه بطريقته ينقذ الكتابة والكلام معاً، إنما دون أن يتحرر من سطوة نسق الثقافة التي تربَّى عليها، حيث المكمَّلsupplément، ينير هذه العلاقة لصالح الطرفين( المكمل الخطير يقطع الوشائج مع الطبيعة. غ، ص288)، لكن هل تمكَّن روسو من الخروج من الدائرة الساخنة لمنطق الأب الحي، ومن كتابة الابن، وهو لا يني يذكّر به؟ لا يبدو الوضع آمناً هنا.
دريدا اللانسقي، ينسّق الموضوع على طريقته، لحظة الربط بين الكتابة والاستمناء، وفي أكثر من موضع. لماذا هذا السائل المستثير؟ لأن الاستمناء يجهر باسم المتكلم، يعطَف على ذاته هنا ( لوقت طويل؟ هذا الاستمناء الذي يسمح بحب الذات بمنحها أشكالاً من الحضور وباستدعاء ألوان من الجمال الغائب لا يكف روسو أبداً عن اللجوء إليه والاعتذار منه . غ،ص300).
الحضور المستمر، أو باعتباره توقيعاً متجدداً للأب وظله وصوته، ذاته، قدرته على البقاء، عبر مفهوم سيميائي: علاماتي: الاستمناء: الإنجاب، للالتفاف على الغياب نفسه. يصل الابن ويستبقيه كما يشهد مفهوم المكمل( إن المكمل ينتهك الممنوع ويحترمه في آن. وهو ما يسمح أيضاً بالكتابة بوصفها مكملاُ، ولكنه ما يسمح بالكلام بوصفه كتابة بوجه عام . غ،ص302)، وهذا ينطبق على أفلاطون، خصم الكتابة باسم معلّمه: الأب سقراط، وتابعه لأنه يراهن على الكلام، ليكون الأب بالوكالة، ويحُول دون إمكان البحث في هذا الأب المستولد من داخله، وهو ما يكونه روسو في توليفه بين طبيعة لم تفلت من تشكيل ثقافي يعنيه وثقافة احتكرت ولما تزل تحتكرها.
روسو الخارج من جهته سالفاً عن النسق الثقافي: الفكري الأوربي مسحوب به إلى داخله، لأنه ظل يحتفظ بمنطق الأب، حيث تتداخل الكتابة مع الاستمناء أيضاً، ولا إمكان للفصل بينهما دريدياً( فهذان المكملان يشتركان- على الأقل- في سمة الخطورة. فهما يخترقان المحظور، وتتم معايشتهما في إطار الشعور بالذنب..)، تالياً وفي ذات الصفحة( تتجلى إمكانية حب الذات في حالتي الكتابة والاستمناء، كما يلي: إنها تترك أثراً للذات في العالم.. غ،ص319).
دريدا عبر تعقبه لخط سير متعرج، ساخن، ممتلىء بضحاياه من مناوئيه، في مقاربة حب الذات الجنسي والعائد إلى الأب طبعاً، وبنوع من العناد، مع خلطة لا تخفى من روح الانتقام، يرى بما أن” الميزة المهلكة“لما تقدم( أقدم بكثير مما استطعنا أن نطلق عليه” استمناء“.. فإن التهديد المكمل للكتابة أقدم بكثير مما استطعنا أن نطلق عليه” كلاماً“. غ، ص 322).
إنه بحث في التاريخ المغيَّب، ليكون التاريخ حقيقة، ربما هو تاريخ فحولة معينة تعني الأب: الذكر بمفهومه الجمعي، ربما هي انعطافة أخرى تذكّر بالأب ذي النسخة الفرويدية ( موسى والتوحيد، نموذجاً)، حيث يفترق كل من الرجال والنساء عن بعضهم بعضاً، ومن داخل هذا الشريط المتعرج والشائك لتاريخ الكتابة وسيرورة الكلام: الأب وتحولاته، ومن خلال محترَف روسو التأملي، لحظة النظر في هذا التقابل الخطير( إن الرجال مثل النساء- ربما أكثر منهن- يشعرون بخصائصهم الجنسية الحميمة، ولكن حين تسترتجل النساء فإنهن لا يفقدن إلا التقاليد الخاصة بهن، أما نحن الرجال، فنخسر تقاليدنا وتكويننا دفعة واحدة.. غ،ص 339).
هذا ما يقوله أب مصغَّر عن أب أكبر، أو يجري تكبيره، وإن كان يصمم على معالجة الخلل في الجسد الذكوري، وإعادة الأمور إلى نصابها، ربما قبل تجلّي الأب ومنطقه.
روسو بقي عالقاً في الفخ الذي نصبه للأب الثقافي في مجتمعه، وهو مشهَر بجنسه: الذكر، والكتابة بوصفها إحاطة بالذاكرة وحؤولاً دون وقوع النسيان جهة الأب كان هذا الدفع بصورة الأب المتكلم، القوي” الهرقلي“التليد ربما، و” تبييض “صفحته واعتباره مفخرة له بالتالي.
في هذا السياق المتقطع، أو السرد المتعرج، تبرز خطورة الكتابة بأثرها كما الرسم: الصورة التي تملأ فراغاً والكلمات التي تحوزه ( إذن الكتابة مثلها مثل الرسم هي في آن واحد الداء والدواء..)، وهو تذكير أعمق بأفلاطون وقلقه على هذا الطباق المخيف: الداء والدواء( كان أفلاطون قلقاً إزاء الكتابة من جراء تشبيهها بالرسم.. غ،ص 533).
لكن دريدا لا ينفك يتابع ويقتفي أثر خطى روسو وهذا التمازج بين الكتابة والمتعة( فالكتابة تكرر المتعة بصورة رمزية. وبما أن المتعة لم تكن أبداً حاضرة إلا في تكرار ما، فالكتابة تذكرنا بهذا التكرار وتمنحنا المتعة أيضاً..فالكتابة تمثل.. المتعة. فهي تعزف المتعة وتجعلها غائبة حاضرة. إن الكتابة هي اللعبة.. غ،ص 563).
لعلنا في دوامة، في مسرد كلامي حلزوني، جرّاء هذا التعميق في مفهوم الكتابة والكلام، أو بالعكس، وموقع النسيان في اللعبة تماماً، وما يعنيه الحضور بالنسبة للأب، وخاصية المتعة في المتن، وحتى بالنسبة لحضور الابن الذي يلهج باسمه أحياناً، أو يكون مجرد حضوره بالقرب منه شهادة على أبوته وكونه يصغي إليه، وما في ذلك من رعب السلطة التي تشمل مجتمعاً، وطريقة توزع الأفراد وتقاسم السلطات الرئيسة فيه، وموقع الرجل والمرأة فيه.
إن حضور الأب بالضرورة هو اعتراف مؤبَّد إزاء هذا الاستمرار التاريخي اللافت به، بصفته الدائم والقائم مهيمناً على كل ما عداه، حيث يكون الكلام ممهوراً بصوته ونبراته وقسمات وجهه، المتغيرة، لفرض هيبته أكثر، وفتوَّته بالتالي، والكلام كتعبير عن الذات يجازي الجسد، حيث تكون المتعة: يكون الاستمناء عبر الكتابة الدالة عليه، وحتى غيابه يتضمن حضوراً من خلال الابن بالذات، فكأن الابن موجود ليكون الآخر هو الوجود تماماً.
تكون الكتابة داء مقضاً مضجع الأب، لأنها تفسح في المجال لمن يلتفت إلى جهتها لا جهته، فيبقى في وضع مقلق: أعزل، لكنها” الكتابة“هي التي تطمئنه بأنها من أجله.
يلعب الابن دوراً خدمياً، وكل ما يخص المكمَّل يعود إلى الأب بالذات، حيث لا مفر منه (3).
لكن الابن يستذكر بالأم، بالمرأة، كون الاستمناء يحيل عليها، على جسدها، كما لو أن الأب نفسه بمفهومه الاستمنائي: قضيبياً، يلخص كينونة المرأة كمفهوم فرجي- رحمي، طلباً للولد، إنما حباً بنفسه، باسمه، كما لو أن الكتابة بالذات تجمع ما بين المرأة ( المفَرْجنة: بجعلها توضعاً فرجياً)، والابن المكمّل له طبعاً، والبنت مضمرة طبعاً أيضاً. على طريقته، تكون الكتابة بذراً،نطافاً، والقرطاس: أرضاً مفلوحة في انتظار البذار وما ينمّيها ويظهرها سماوياً.
دريدا في متابعته المتعددة الجهات لخاصية النسيان في السالف ذكره، يبدو عليه اللهاث، وهو يصل بالكتابة إلى واقعة حُلمية: ( مشهد الحلم هو دائماً مشهد الكتابة..)، فإنه يكاد يعترف بأصول السلطة الكبرى للأب، سوى أنه يحلم، كون الأب يعيش في امبراطوريته الكونية الممجدة، ونظر دريدا الأسيان إلى التغيير( سوف يقال إنني أحلم أنا أيضاً. نعم أعترف بذلك، ولكني في مقابل ما لا يقوى الآخرون على فعله، أقدم أحلامي على أنها أحلام تاركاً للآخرين البحث فيها عما يمكنه أن يكون نافعاً لأناس يقظين ..غ، ص569).
نبرة وسط بين صياغة شوبهورية وأخرى نيتشوية، هي خلاصة ما لقراءة دريدا الخطيرة جداً لتاريخ أوربي من موقع مناظرة الأب الذي يحيا رغم تموضعه المتحفي هنا وهناك، ولكن الجاري يخبرنا أن لا شيء مما تقدَّم يمكن الاطمئنان إليه، وهو ما يشير إليه دريدا، على أنه قضية النسيان التي تمثّل تهديد الأب المستمر للابن بلزوم الإحالة إليه ليذكَّر به هو وليس من كان سبباً في ولادته: الحذر من نسيان الأب، تجنباً لنسيان الابن الكارثي والباهظ الثمن.
متابعة النسيان:
دريدا، كما أسلفت، ربما رغب في أن يضيء عالم الأب وكيفية مباشرته لحضوره باستمرار، يتوقف عند هذه النقطة المحورية من خلال المعتبَر كتاباً ( صيدلية أفلاطون )4، وهو ينقّب في كلمات محاورة” فيدر: فايدروس“الأفلاطونية، مستلهماً أفكاراً أخرى في سياق: ما هو الأب، وبمزيد من التكثيف، رغم البعد الوصفي للكثير مما استوقفه، وهو خاصية أخرى لفكر دريدا.
سألخص المركَّز عليه من الأفكار المحورية في النقاط التالية:
ثمة نص مكتوب، وثمة ما يراهن عليه( لا يكون نص نصاً، إن لم يخف على النظرة الأولى، وعلى القادم الأول، قانون تأليفه وقاعدة لعبه: ص، ص 13),
يكون النص مفهوماً نسيجياً، إنه يُنسَج كحال الكتابة، وثمة ما يتشربه” صباغه“ص،ص13”، وفي الفرنسية يسهل الربط بينهما: النصtexte، النسج textue، النسيج toile، حيث إن الأثر المحسوس يشير إلى صانعه: واجده طبعاً.
الكتابة مهدَّدة، كما يظهر بالبلى، كحال النسيج، كحال الأوراق الذابلة( إن الكتابة والمعرفة الميتة والجامدة، المكنونة في الأوراق المكتوبة، والحكايات المتراكمة والسجلات والوصفات والصيغ المحفوظة عن ظهر قلب، هذا كله غريب على المعرفة الحية والجدل، غرابة الفارماكون على علم الطب . ص، ص 24).
إنها استعادة للغراموتولوجيا وترصيصها أكثر: علم الكتابة، حيث الطب أبقراطي، مفتوح، ولا يقيَّد، ويمكّن من الاتصال بالبشر، كحال الكلام، سوى أن الكتابة كمفهوم صيدلياني: فارماكوني خلافه، إنه يحيل على نطاق ضيق، ومحل شبهة: المخبر، كما يظهر، أي في الأسفل ودلالته.
والأب حائر متوثب، ومتشنج مما هو فارماكوني بدائه ودوائه، أو عقاره المعقَّد( الفارماكون مقدَّم هنا إلى الأب ومرفوض من لدنه، محقر، ملفوظ، ومساء تقديره: ص، ص 28).
إنه موت الصوت والملامح، وظهور الكتابة حيث يعهَد في قراءتها إلى شخص ما أو أكثر، وما في ذلك من إساءة إلى هذا النص، وهو واقع لا مهرب منه، من جهة الأب بالذات، كحال اللائذ بالعقار، إذ يعتبَر مريضاً، ولا بد من مداواته، وما في ذلك من تعريف به، فقد يودي به.
كل ما هو مؤثرٌ عائدٌ إلى الأب: اللوغوس بجلاء( اللوغوس هو الأب. بل إن أصل اللوغوس هو أبوه.. إن الفاعل المتكلم هو أبو كلامه..ص، ص 28).
لا أحد يحاسب الأب، هو مرجعه الذاتي لنفسه، هو الفاعل وليس المفعول به، حامل العقل إياه.
ما يقوله لاحقاً، وفي مشهد طريف وشديد مأسوية، يظهِر البعد الرهيب للأب وفعله في الابن، عندما يكون الابن لوغوساً ولكنه مكرمة الأب بالذات، وبالأب يبقى الابن، وبالكلام تكون الكتابة، ودون الأب: الكلام، لا وجود لكليهما، نكون إزاء حالة يتم، إزاء مأساة مركَّبة:
( فاللوغوس ابن، وإنه ليفنى دون حضور أبيه ومن دون عونه الحاضر. حضور أبيه الذي يجيب. يجيب عنه ومن أجله. من دون أبيه، لا يعود، بالذات، سوى كتابة.كذلك هو، على الأقل، ما يقوله هذا الذي يقول، هذه هي أطروحة الأب. وعليه، فخصوصية الكتابة، إنما تعود إلى غياب الأب. يمكن أن ينصاغ هذا الغياب للأب بطرق عديدة، متمايزة أو باختلاط، توالياً أو على التزامن: كأن يكون المرء فقد أباه بفعل موت طبيعي أو عنيف، وفي الحالة الثانية بباعث من أي عنف كان أو قتل للأب، ثم يلتمس عون حضور الأب، الممكن أو المتعذر، يلتمسه مباشرة أو بادّعائه الاستغناء عنه، الخ. ص،ص 29 ).
هذه الكتابة بمتتالياتها التاريخية والأدبية النشأة أيضاً، تضعنا في مواجهنا“أفعال” الأب الضارية، عندما يضع الابن في خدمته الأبدية أو تحت خدمته، أو يوحي إليه باعتبار: كونه ابنه طبعاً، ليظل على الدوام ناطقاً بالوكالة باسمه، كما لو أنه الأب الآخر، ولكنه سيمولاكره، إنه صوته المستعار وليس هو، ومقيم أكثر من علاقة معه، عبر صنوف الكتابة، ودونه لا يمكنه أن يتنفس أن يكون الابن حتى: الأب الحاضر والمتنحى، الأب برغبة أو بعنف، أو قتله، أو المستدعى حيث يلتئم شعور الابن بحضوره، ويخفَّف عنه ثقل الحالة اليتمية.. الخ.
لكن أي شعور هو الذي يعيشه هذا الابن، في حضرة هذا الأب الكلي؟( الأب هو دائماً أبو [ كائن] حي متكلم. ص، ص32)(5).
في الحالة هذه لا يبقى أمام الابن إلا أن يستسلم له، ويسلّم بأمره باعتباره الموجود من خلاله.
هذا التشديد على موقع الأب وبجواره يكون الابن: الكلام المتطلب للكتابة، يحفّز على وضع قانون يكرّر نصه، قانون الأب( الحال، إن القانون هو دائماً قانون تكرار، والتكرار هو دائماً الامتثال قانون.: ص، ص79).
ماذا عسى إذاً أن تكون الكتابة ؟ ( الكتابة هي الابن البائس. هي البائس:ص، ص106)(6). إنه وضع قدري مجدداً، وعبر مفهوم“دائماً”، لأن الكلام ينزع عن الكتابة ذائقتها الذاتية الخاصية، أي سمة الاستقلالية والمرجعية، حيث الأصل المغيَّب من وراء الأب، ليبقى الابن في دوام البحث عنه دون جدوى، مأهولاً بسؤال الأب، وكيفية إيجاده، مع أصوله في الكلام، ليكون هذا السؤال المعلَّق في فضاء الخارج، والداخل المقلق، فلا يرى نفسه إلا وهو مشدود إلى الأب.
وبما أن الكتابة تعني الابن، رغم أنها أقيمت على شرف الأب، إلا أنها مذمومة( الكتابة، الخارج على القانون، الابن الضال:ص، ص107).
يضيع الابن، أو يضيَّع، ليظل مشغولاً بالأب: النقطة العلام له، كشأن السلطة مع رعاياها.
وربما، جرّاء هذا التدويخ في العلاقة تعرّف الكتابة بنفسها في أخطر دور لها، مقابل الدور الأخطر للأب: بقاؤه( الكتابة قاتلة للأب:ص، ص125). تقتله، لكي يستمر كاتبها بذاته.
الابن الغريب، المستغرب، المغرَّب، الغارب نفسه، هو ما يتراءى للأب، حيث يكتب عنه.
وكأن التذكير بلائحة معاني الفارماكون، من لدن دريدا، هو استشراف عالمه المتعدد المغازي بالتأكيد، عدا اعتباره داء ودواء، لا بد ربما يظهر هذا التركيب حاضن هذا التنوع( الفارماكون يعني ضربة...“وهكذا بحيث تكون المفردة الفارماكون دلت على ما يتعلق بضربة شيطان أو ما يستخدم كوسيلة لدرء مثل هذه الضربة”.. “ضربة [ عملية قسر].. ضربة مجازف بها.. ضربة مدبَّرة [ مكيدة أو مؤامرة ].. وضربة للاشيء [ حركة طائشة ]... الخ:ص132).
يسترجع دريدا، أو كأني به يعيش اللحظة الحلمية لنهاية” الغراماتولوجيا“وهو يجد نفسه في مواجهة الأب الذي ناوره وحاوره وحاول الابتعاد عنه دون مفارقته باسمه وسلطته كما يشتهي، مع شروق شمس، في نهاية المحاورة، في انتظار مختلف( لكن ربما كانت هذه بقيا، حلماً، نتفة من حلم، صدى لليل.. هذا المسرح الآخر، هذه الدقات من الخارج.. :ص، ص 133).
المحاورة تبقينا في الليل، في الغموض، حيث تتوثب غرائز الابن، وقلق الابن، ومخاوف الأم، أو المرأة من تطاولات الأب ذاك، والصباح في أول طلعته، كما لو أننا في مشهد فيلمي مرمَّز.
ألم يبق دريدا، على مستوى الابن المعرَّف به ضالاً وبائساً: ضالاً وبائساً معاً ؟
قد لا يكون هذا القول بصورة قطعية إزاء أهم رمز فكري برز معارِضاً لنسق ثقافي فكري غربي النشأة وعلى مدى أكثر من ألفي عام، وهو ينبش في بنية هذا الفكر ومستجداته الثقافية ومن خلال كم لافت من كتّابه في مجالات شتى، هو جاك دريدا، على الأقل من خلال هذه القائمة الاسمية من الذين” اشتبك “معهم بطريقته المعروفة” التفكيك “، وردّوا عليه أو احتدوا في الموقف من كتاباته ذات الطابع الشذراتي أحياناً، أو المميَّزة بصعوبتها أيضاً، وفي أكثر من لغة عالمية، وإلا لما كان هذا الحضور العالمي، بغضّ النظر عن حالة الـ” مع “أو الـ” ضد“!
فالرجل قدَّم جملة من التركيبات اللغوية القائمة والمصنَّعة على” يديه“، باتت أشبه بالعملة المتداولة على نطاق عالمي سواء عبر تبيئتها أو تبنيها أو حتى الهزء منها، أب عبر عائلة التفكيك بالذات: الأثر، الإرجاء، المكمّل، الهامش، الفارماكون، المهماز، الانتثار...الخ.
والرجل رجل فكر كان، ولما يزل يسمى، ويختلَف عليه بصيغ مختلفة، تأكيد على أهميته .
لعل الشاغل الرئيس لدريدا هو كيفية الحد من طغيان المتن: الأب، رغم أن ثمة ما يسبق الأب في التاريخ، في عهده المترياركي، والدفع بالأب: المستبَد به أو المقهور، ليعطى شأناً، أي حين تكون الكتابة محرَّرة من سيطرة الأب زعيم الكلام أو ممثله المزكَّى أبدياً، ويبقى للكلام هو الآخر نطاقه المرسوم دون إطلاق، وفي زحمة القواعد والقوانين التي تحمل اسمه.
النسيان أولاً، ربما هكذا يمكن الحديث عن دريدا، عندما يطرَح اسمه للمناقشة أو حتى للتقويم، عندما يقع النسيان هذا في أتون الأبوية وما هو مسجَّل باسمها. النسيان الذي يذكَّر به، تخويفاً للابن ليدخل في عهدة طقوسية أو شعائرية للأب ومباذله المبهرجة.
وفي تجنيس النسيان يكون الأب بكل عتوّه، في منظوره، وكأن على الابن أن يعيش بنوة الآخر إلى ما لانهاية، بمعنى أن يكون مبعداً عن الحقيقة الوهمية للأب نفسه، وعن أصوله المزعومة، ومن خلال هذا التحرّي المستمر، يكون السجال مع المعنيين به، إنما لإحقاق حق، قد ينفع من يبحث عن هذا التنوع في الكتابة داخل الثقافة الواحدة تماماً، من قبل الرجل والمرأة معاً.
نسيان الأب عقوبة للابن في حال تماديه بالكتابة عنه واستسهال أمره: سلطته، عبر الضغط على الابن المحرَّم من الكلام الحامل لاسمه. وتذكر الابن وباسم الابن كونه المأهول لأن يكون أباً هو أو سواه، بعيداً عن الأب الممثلج، هو الخطاطة الكبرى لدريدا في أطروحته المركزية، إنما تلك التي تحيل عليه قبل أي شيء آخر، فيما اعتبره تهميشاً لمن يتحدث في لغة الآخر وبلغته: بوصفه يهودياً لا يتنكَّر لأصوله، وهو المميَّز بالفرنسية التي لم يعتبرها لغته، وتلغيماً للمتن: مراح الأب ومحميته اللامحدودة، وليكون التجاذب بين الكلام والكتابة، أعني بذلك: هذا التأميم المفخَّم لكليهما، ولكل ذي لغة لديه القابلية في الكلام والكلام بلون مختلف.
وإذا كان في الإمكان النظر في القاموس التفكيكي الدريدي، ومساءلته عن مصادره، وهي في تشكيلها الغربي، ماذا قدَّم الباحث العربي، ممثّل النسيان الآخر إزاء الأب متكلم العربية ؟
هذا السؤال يواجَه بمأساوية مضاعفة، كون” النسيان “رغم مفردته العربية، لا يستطيع التنفس بعيداً، أو بصورة كافية، عن” النسيان “الدريدي، ربما لضراوة” الأب “العربي أو ربما لأن الابن يستشعر هذه الأبوية الموصولة بما هو قدسي أحياناً، ويتضمنها رافضاً إياها في المتن، بقدر ما تتشكل محاولة إنارة عالم” الأب “وإحقاق حق الابن كونه متعدّي مفهومه الرمزي !
” للبحث صلة “