2012-12-19
بحث حول الإبستمولوجيا التكوينية
|
| |
يبدو
أن الفهم السليم للموقف الذي تدعو إليه الإبستمولوجيا التكوينية مع بياجيه
يقتضي النظر إليه انطلاقا من رغبته في تجاوز العيوب التي يعاني منها
الموقف الوضعي وخاصة في شكله المحدث، والذي يغفل النظر إلى المعرفة في
نشأتها وصيرورتها وتكوينها، فضلا عن اعتباره لقطبي المعرفة كمعطيين ثابتين
وسابقين عن المعرفة. في هذا الاتجاه إذن يمكن اعتبار الإبستمولوجيا
التكوينية محاولة لتجاوز الطرح التقليدي لمشكلة المعرفة، وللإشكالية
العامة لفلسفة العلوم.
فإلى أي حد يمكن اعتبار الإبستمولوجيا التكوينية علما؟ وما طبيعة تصورها
لنمو المعرفة؟ وما هي المناهج التي تستخدمها في دراستها لنشأة المعرفة
وتكوينها؟
I- الإبستمولوجيا التكوينية كعلم.
إذا كانت الإبستمولوجيا كما يرى بياجيه قد شكلت طويلا أحد الفروع الأساسية
للفلسفة حين كان كبار الفلاسفة – مثل ديكارت وليبنتز- في نفس الوقت علماء
مبتكرين، ومنظرين للمعرفة ، فإن وضعية العلوم وحالتها الراهنة على مستوى
التمايز التدريجي للمعرفة قد بينت أن "المستجدات الإبستمولوجية قد نشأت من
تفكير العلماء في شروط المعرفة ضمن تخصصاتهم..." .
من هنا نلاحظ أن موقف بياجيه من الإبستمولوجيا كتحليل ودراسة لتكوين
المعرفة ينطلق من عملية وضع حدود وبالتالي التمييز بين البحث العلمي
والبحث الفلسفي.
إن هذا التمايز بين البحثين لا يقوم انطلاقا من طبيعة الإشكاليات التي تتم
معالجتها على مستوى العلم والفلسفة، ولكنه يتحدد انطلاقا من مدى شمولية
مختلف الإشكاليات المطروحة على صعيديهما، إذ أن الفلسفة تميل إلى طرح
تساؤلات ذات نوعية عامة، تنصب على الواقع في كليته، بينما ينزع العلم إلى
معالجة أسئلة أكثر خصوصية لا تتناول إلا جزءا من الواقع، وبالإضافة إلى
ذلك فإن الفرق بين الفلسفة والعلم يتجلى من خلال المنهج المعتمد من
طرفهما. فالفلسفة لا يمكنها الاعتماد إلا على التأمل والتفكير، بينما
يستخدم العلم مناهج أمبريقية واستنباطية صارمة وقابلة للمراقبة.
بناء على هذا التمييز بين العلم والفلسفة *
ينشأ تمييز آخر بين الإبستمولوجيا العلمية والإبستمولوجيا الفلسفية. فإذا
كانت الإبستمولوجيا الميتافيزيقية تطرح مشكلة المعرفة في ذاتها، فإن
الإبستمولوجيا التي تريد لنفسها أن تكون علمية – انطلاقا من ضرورة تخصيص
وتحديد أسئلتها- تتخلى عن مشكلة المعرفة في عموميتها وتضع حدودا لمجال
فعاليتها، أي أن التحليل التكويني يرفض وجهة النظر الميتافيزيقية ليتساءل
عن كيفية تكون ونمو المعارف، ليكون في النهاية "علم تكون العلوم".
-الإبستمولوجيا التكوينية كعلم لنمو المعرفة.
الإبستمولوجيا التكوينية عند بياجيه هي "إبستمولوجيا بيولوجية تتأسس على مفهوم النمو".
يتضح إذا أن الإبستمولوجيا عند بياجيه مقترنة بعلم هو البيولوجيا، بل نجد
هنا مقارنة صريحة بينهما، ما دامت البيولوجيا تدرس نمو الكائن الحي في
الزمن.
من خلال هذه المقاربة نستطيع استخلاص مفهوم بياجيه للمعرفة وتعريفه لموضوع الإبستمولوجيا التكوينية.
1.إن معرفة ما – علمية كانت، أو قبل علمية- هي بمثابة بناء حي، وهنا نكون أمام اعتبارين اثنين:
الأول: أنها ليست ثابتة ولا مطلقة، يقول بياجيه ليس علينا أن نتساءل عما
هي المعرفة العلمية ككل ساكن، بل علينا أن نضع السؤال: كيف تنمو المعارف
وتتزايد؟ و لانها خاضعة للنمو في الزمن، دون بداية ولا نهاية. وفيه ومن
خلاله تنبني وتتحول بفضل تفاعل الذات العارفة وموضوع المعرفة. وبهذا الشكل
فإن المعرفة لا تعدو أن تكون نسبية في مرحلة ما من سيرورة تكونها.
الثاني: إن المعرفة مثل أي كائن حي، ليست تجميعا لعناصر مختلفة ومستقلة،
ولكنها تكون "كلا" يتبنين وينتظم خلال مراحل نموه وحسب قوانينه الخاصة.
2.إن موضوع الإبستمولوجيا التكوينية ليس هو المعرفة في ذاتها، بل هي
المعرفة المطروحة من ناحية نموها في الزمن، وهكذا فإن التحليل التكويني
يجب أن يبرز ميكانيزمات هذا النمو، وبمعنى آخر فإنه يجب أن يشرح كيف يتم
الانتقال من "معرفة قليلة الجودة إلى معارف أكثر غنى وثراء" * أي من حالة
من المعرفة ناقصة إلى معرفة أعلى. ولا على مستوى كل نوع من المعرفة –وهكذا
نحصل على ابستمولوجيا خاصة بكل علم.
ثم على مستوى المعرفة عامة. وتكون الإبستمولوجيا التكوينية، في شكلها المعمم، هي دراسة الميكانيزمات المشتركة لمختلف أشكال النمو.
إن تحليل التكون الحقيقي للمعرفة، يتحقق عبر مستويين:
* على المستوى الفردي، حيث يدرس بياجيه تكون بعض مفاهيم وبنيات التفكير منذ الولادة إلى سن الرشد (المنهج النفسي التكويني).
* على المستوى التاريخي يدرس نمو المعارف عبر تاريخ الفكر العلمي (المنهج التاريخي النقدي).
هذان المنهجان يمارسان رقابة متبادلة الواحد على الآخر، ويتعاونان معا:
وهكذا تبين بياجيه واكتشف توازيا بين ميكانيزمات نمو المعارف الفردية
والوسائل المساعدة على تطور الفكر العلمي الجمعي.
الموضوع الأصلى من هنا: منتديات الأستاذ التعليمية التربوية المغربية :
فريق واحد لتعليم رائد
http://www.profvb.com/vb/showthread.php?p=132170 إن الإبستمولوجيا التكوينية لا تتساءل إذن إلا على نمو المعارف، ولكنها
تسلم على عكس الأفكار اللاتكوينية، أن ميكانيزمات هذا التكاثر والنمو
تستطيع أن تخبرنا عن طبيعة المعرفة في حد ذاتها. وهكذا فبعد استبعاد الخطر
الميتافيزيقي الذي تمثله الإبستمولوجيا الفلسفية، يؤكد بياجيه أن التحليل
التكويني يهيئ حلا للسؤال الأساسي " "ما هي المعرفة في ذاتها؟" ولو أن هذا
التهييء يمكن أن يبرز بأنه ليس من الممكن إيجاد جواب شاف.
III- مناهج الإبستمولوجيا التكوينية: المنهج النفسي-التكويني، والمنهج التاريخي النقدي:
* تقتضي كل معرفة وجود بنية ووظيفة لهذه البنية وهكذا فإن دراسة بنية
عقلية ما تشكل عملية تشريحية، أما المقارنة بين بنيات متعددة فهي بمثابة
تشريح مقارن. كما أن تحليل الوظائف يطابق عمل الفيزيولوجيا من جهة أخرى،
وفي حالة الوظائف المشتركة، يطابق هذا التحليل الفيزيولوجيا العامة.
لنفكر أولا في التشريح المقارن بين البنيات العقلية، ما هي الطريقة التي
يعتمدها التشريح المقارن في تحديداته لشبكات التنظيم الخاصة بهذه البنيات؟
* نجد أنفسنا أمام منهجين متمايزين ومتكاملين في ذات الوقت:
-المنهج الأول هو المنهج التاريخي النقدي، ويقوم على متابعة تسلسل
البنيات، للمقارنة ضمنها فيما بين البنيات العقلية، مثل البنيات الخاصة
بالمفاهيم المركبة والتي يستخدمها التفكير العلمي، كما يقوم بمتابعة نمو
المفاهيم المستخدمة من طرف علم ما عبر تاريخه، من جهة، يكون من السهل بناء
بعض التسلسلات بالتتابع المباشر أو من خلال تحديد نظام الارتباطات
المستخدمة من جهة أخرى ، إذ يمكن المقارنة مثلا بين مختلف أشكال القياس –
في المكان والزمان– ، ومختلف الكميات الفيزيائية ... الخ- لنجد في
سياقاتها التاريخية الخاصة بعضا من الارتباطات الثابتة نسبيا.
ولكن المنهج التاريخي النقدي يبقى من جهة أخرى، محدودا داخل حقل تاريخ
العلوم نفسها ليركز على مفاهيم تم بناؤها واستخدامها من طرف تفكير مبني
مسبقا. ويبقى هذا المنهج في الغالب قاصرا عن الاستجابة لمتطلبات المقارنة
النسقية، ذلك أن هناك تسلسلات ، تنفلت نهائيا من إمكانية التحليل، من جراء
الصعوبة الكبرى لإثبات تتابع واضح.
لهذا السبب نجد هذا المنهج (الذي يهتم بالتسلسلات المباشرة والارتباطات
كما هو الشأن في علم التشريح المقارن، يصبح بالضرورة في حاجة إلى أن يدعمه
منهج ثان، هو المنهج الجنيني Embryologique، أو النفسي التكويني
psychogénétique ويقوم هذا المنهج على تمديد المقارنة وتوسيعها لتشمل
اللحظات الأكثر أولية في النمو التطوري للفرد، ويعني ذلك بناء كل المفاهيم
الأساسية أو المقولات الفكرية التي يمكن رسم خريطة تكونها عبر النمو
العقلي للفرد من الولادة إلى سن الرشد.
صحيح أيضا أن نمو الطفل يتأثر بالوسط الاجتماعي، والذي لا يلعب فقط دور
المحرك، بل يلقن كذلك جملة من المفاهيم تتضمن في ذاتها تاريخا جمعيا. وإذا
كان الفرد في طور التكوين يتلقى الإرث الاجتماعي بهذه الطريقة، وهو الإرث
الذي تشكل من طرف الأجيال السابقة، فمن الواضح إذن أن المنهج التاريخي
النقدي الذي تحول إلى منهج اجتماعي- نقدي، هو الذي يوجه المنهج النفسي-
التكويني. ولكنه ليس واضحا جدا، أن الطفل لما يتلقى المفاهيم المتشكلة في
الوسط الاجتماعي، يستطيع تحويلها وتمثلها ببنياته العقلية المختلفة، مثلما
يتمثل الوسط الذي يتكون من الأشياء المحيطة به.
هذه الأشكال من التمثل وتتابعها تشكل معطيات ليس بإمكان السوسيولوجيا
والتاريخ تفسيرها، ومن خلال دراستها يصبح المنهج النفسي- التكويني موجها
بدوره للمنهج التاريخي- النقدي.
ومن أجل أن يكون التعاون بين المنهجين التاريخي- النقدي والنفسي التكويني،
مثمرا، ومن أجل تطور الفكر العلمي نفسه، يلزم بطبيعة الحال أن يحصل
التعاون كذلك بين العلوم الحقة أو الدقيقة وعلم النفس. ذلك أنه بين
العلماء المنتمين للعلوم الحقة، والمهتمين بالإبستمولوجيا فعلماء
الرياضيات هم الميالون أكثر إلى الاهتمام بالاعتبارات التكوينية أو
النفسية على الأقل. ويفسر ذلك كون مواضيعهم تم ابتكارها بواسطة الاستنتاج
أو الحدس، أي دون اللجوء إلى آلات المختبر، وهو ما جعل علماء الرياضيات
أكثر استعدادا للاستفادة من المعطيات النفسية. كما أن الفيزيائيين بدورهم
اقتربوا من علم النفس في الفترة المعاصرة كما هو الشأن بالنسبة لألبرت
إنشتاين الذي نصح بياجيه (سنة 1928) بدراسة حدس السرعة هل يقتضي في تكونه
فهما مسبقا للتوقيت، أو أنه يتكون بمعزل عنه. وتدخل هذه المشكلة ضمن موضوع
السببية الفيزيائية عند الطفل.
يلاحظ إذن أن مهمة الإبستمولوجيا التكوينية مزدوجة، فهي من جهة بمثابة
دراسة نفسية للنمو الفكري، بوصفها تسعى إلى تفسير مشكلة نمو المعارف.
لكنها حينما تعتمد التحليل التاريخي النقدي تميل أكثر إلى ضبـط العلاقـات
القائمة بين العلـوم مبرزة ما يربط الذات بالموضوع في اتجاه فهـم أعمق
للمعرفـة الإنسانيـة.