نشرت كريمة بنت المكّي قبل شهور قليلة كتابا بعنوان “كيد المشاعر”، وهو نصّ سرديّ يحتوي الباب الأوّل على مجموعة من الأقاصيص، أمّا الثاني فيضمّ نصوصا قصيرة يمكن أن نطلق عليها خواطر أو ومضات. إنّ الجمع بين الأسلوبيين في كتاب واحد يجعل من الصّعب تصنيفه، ولعل الخيط الرّابط بينهما هو الرّغبة الجامحة في البوح، ولكنّه بوح تلجمه البيئة الاجتماعيّة، والتقاليد الضّاربة بجذورها في عصور غريبة عن عصرنا.
إنّ القارئ لا يحتاج إلى جهد كبير كي يكتشف المحور الأساسي في جلّ النّصوص، إن لم نقل في كلها، فهي تعلنه في الصفحة الأولى، صفحة الإهداء وتنصح حواء المكلومة والمشتهاة
أن تسير في درب الحبّ إلى آخر شوط رغم الأشواك والفخاخ، وتحرص في الصفحة الأخيرة، صفحة الغلاف أن تذكرنا بالموضوع الذي شغلها دائما، بل قل أرّقها، إنّه الانتماء الإنساني، والألم النّسوي ولكنّها تفسد علينا متعتنا بهذا الشعور الإنساني النبيل لما ختمت نصها بسؤال بديهي يشبه القول: السّماء فوقنا، تسأل: لم نصيب الأنثى من الألم دائما ضعف نصيب الذّكر؟
إنّه شرف الأمومة يا سيدتي، إنّه ثمن بعث الحياة، إنّه نخوة ولادة الأبطال، وصناعة البطولات.
***
وعندما نحاول رصد محتوى النّصوص السرديّة عن كثب نلمس في يسر أنّها تدور أساسا حول معاناة المرأة تبدأ من داخل البيت من قصّة الجدّة الأبيّة، وقد ترملت في عز شبابها، ثم نجد قصصا تقص علينا قضايا اجتماعيّة أسيرة ماض متخلف، ساعية اللحاق بركب الحداثة، ولم تحقق منها إلا القشور، أمّا اللب فهي بعيدة عنه مسافات طويلة، وما بعد العيان من بيان.
معاناة المرأة بصورها المتعددة تشد انتباه الساردة، ولكن تبدو أن لها حساسيّة خاصّة تجاه عاملات المنازل، فمنذ البداية تقص علينا حكاية “ونّاسة” المتصيّدة لأخبار الجنائز لتهرول إلى بيوت أصحابها ليس حرقة أو لأداء واجب، فهي لا تعرف أصحابها في جل الحالات، إنّها فرصة لتنهمر دموعها، وتنهمر معها أحزانها المكبوتة، ونوحا على الحظ المشؤوم، ثم تعود للمشكلة في نص طويل (ص53) لتقص علينا تجربة أخرى من تجاربها مع عاملات المنازل،
ولكن هذه المرّة مع صنف جديد، صنف صاحبات الشهائد العليا الناجحات بتفوق ليجدن الأبواب بعد ذالك موصدة، و تزداد المحنة عندما يتظافر في هذه النصوص الفقر،
والبطالة، والحب الضائع.
نجد صنفا آخر من معاناة المرأة، المرأة الجديدة، المرأة الغارقة في مستنقع “البورجوازيّة الصغيرة”، الخيانة الزوجيّة أو التعلق برجل متزوج، وما يرتبط بذلك من صراع تافه حسمته المرأة في المجتمعات المتقدّمة منذ قرنين، أي مع بداية عصر الحداثة.
مرّة واحدة في كامل النصّ نجد السّاردة في قصة “أحلام عاطلة” تربط الحديث عن المرأة بالشأن الوطني “ما حكم حاكم منا إلا واعتقد أنّه الوحيد الذي يحبّ الوطن ويغار عليه ولذلك يكون من حقه أن يستفرد به و يحكمه بالطريقة التي يرضاها”
“لا يغرنك حالنا البريء فتحت الرّماد اللهيب”
“لا رماد ولا لهيب نحن هاويات الأدب لا نتجرأ إلا بالحبر على الورق”
“نحن بنات الكاف العالية حفيدات الكاهنة البربرية وما أدراك”
أملت أن يعترض سبيلي نص يقص علينا معاناة صنف معين من النّساء، صنف المناضلات الرّائدات وقد دفعن ثمنا باهظا في سبيل ذودهن عن حقوق المرأة، وحقوق الوطن.
تحلم الساردة أن تحكم المرأة، ولكن سيكون حكمها بشرع الحبّ وحده، وتخيلت تونس جنّة خضراء تعج بالرّقص، والشّعراء، وأصحاب الأصوات السّاحرة، وأن تعم في مدنها ملاعب للأطفال وحدائق للعشاق.
لا أشكّ لحظة أن هذا الحلم قد راودها قبل أن يزحف طاعون أسود جديد سيكون أشدّ حلكة لو لم تلتحم المرأة بالرّجل لحسم المعركة نهائيا، وإلا فإنّ حدائق العشّاق ستتحول إلى ساحات للجلد
والرّجم.