منذ أن تمكّنت حركة النّهضة الاخوانيّة بدواليب السّلطة في تونس واستولت على أجهزة الدّولة انبثق مكبوت قديم –متجدّد يسعى إلى نشر بل فرض المذهب الوهّابي في تونس. تعود أولى المحاولات إلى مطلع القرن التاسع عشر عندما وردت في أواخر حكم حمودة باشا باي تونس (1882-1814) دعوة محمد بن عبد الوهاب التي أرسلها إلى تونس وإلى باقي أقطار المغرب والمشرق سعود بن عبد العزيز بن سعود طالبا اتّباع النّاس للمذهب الوهّابي والولاء له ومن خالفه فقد وصمه بالشرك في اعتقاده.
و قد تمّ الردّ على هذه الرسالة من قبل شيوخ الزيتونة ومن أشهر تلك الردود رد الشيخ المفتي قاسم المحجوب الذي نقتطف بعضه:
“فإنك راسلتنا تزعمُ أنك القائم بنصرة الدين، وأنك تدعو على بصيرة لما دعا إليه سيد الأولين والآخرين، وتحثُّ على الاقتفاء والإتباع، وتنهى عن الفرقة والابتداع، وأشرت في كتابك إلى النهي عن الفرقة واختلاف العباد وقد زعمت أن الناس قد ابتدعوا في الإسلام أمورًا، وأشركوا بالله من الأموات جمهورًا في توسلهم بمشاهد الأولياء عند الأزمات، وتشفعهم بهم في قضاء الحاجات، ونذر النذور إليهم والقربات، وغير ذلك من أنواع العبادات، وأن ذلك كله إشراك برب الأرضين والسموات، وكفر قد استحللتم به القتال وانتهاك الحرمات، ولعمر الله إنك قد ضللت وأضللت، وركبت مراكب الطغيان بما استحللت، وشنّعت وهوّلت، وعلى تكفير السلف والخلف عوَّلت، وها نحن نحاكمك إلى كتاب الله المحكم، وإلى السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم...”
كان الردّ واضحا ففيه رفض صريح لتهديدات الوهّابية وحجاج شرعي موثّق يدحض مزاعمها ويرفض الاعتراف بها كفرقة ناجية تقدّم نفسها قدوة للمذهب السليم والطريق القويم.
عاد هذا المكبوت النائم من جديد بعد “ربيع الثورة” الواهم وبعد أن تمكّن فرع الاخوان المسلمين في تونس من الحكم.
بدأ السباق المحموم للوهبنة وفرض إيديولوجيا “الحلية والحرمة” ونظيمة الفتوى والقصاص بعملية لوجيستيكية واسعة النطاق تتمثل في بعث سيل من الجمعيات المتدثرة بغطاء ثقافي- خيري ولكنها جمعيات دعوية تحريضية تعبوية ناهز عددها 3 آلاف تشترك كلها في إيديولوجيا “الصيانة والحماية”للأخلاق والعقيدة والشريعة وادعاء “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” بعضها يسمّى البركة والآخر الرّحمة والتوبة لها تقريبا نفس الأجندات وهي توزيع العطاء والإكراميات في المناسبات الدينية والمدرسية وتحاول استقطاب المتعاطفين وتحويلهم إلى مريدين خلصاء لفرض نمط معيّن من المناسك داخل المسجد وخارجه بفرض نظيمة مخصوصة في اللباس والتحية وإقامة الأفراح والأتراح...
هي محاولة لفرض النموذج الوهابي أو مجتمع “الحلال”الذي بمخالفته يقع الإيهام بمخالفة الشريعة وينبثق أساس التكفير للآخر.
يتمّ هذا في تعارض كامل مع روح قانون الجمعيات التونسي الذي يمنع الخوض في مسائل الدين والسياسة...
تأتي التمويلات من الورع النفطي الخليجي الذي تستفزّه حالة الحريات الشخصية ومكاسب المرأة في أرض عليسة والطاهر الحداد وبورقيبة.
لم يقف الأمر عند الجمعيات بل تعدّاه للمساجد ونظيمة التدريس العصري وقنوات التلفاز والإذاعات فقد خضعت أغلبها إلى محاولات سيطرة وهّابية عبر “تسربّات” داخلية أو محاولات احتواء وتأسيس جديدة.
كانت عملية “الوهبنة” تتراوح من المجال الاستراتيجي الأكبر “الماكرو” إلى المجال المجهري الصغير “الميكرو” هي محاولة لسيطرة وهابية منظّمة ومُمنهجة من الفوق إلى الأسفل تستهدف النموذج التونسي الذي يقلق الكثير من المحافظين خصوصا في مجال حرية المرأة وحقوقها ومسيرتها نحو المساواة الكاملة.
تحاول المجموعات الوهابية في تونس إقامة “إكليروس” ديني يتحكّم في الضمائر ويوجهها وجهة مذهبيّة وهابيّة.
يكون ذلك بالسيطرة على مؤسسة الإفتاء وتحويل وزارة الشؤون الدينية إلى محكمة تفتيش للضمائر وبالسيطرة على المساجد ومحاولة “مسجدة المجتمع التونسي” وإخضاع برامج التعليم بل حتى مناظرات الأمن والجيش لمرجعية دينيّة ذات مشارب وهّابيّة والمطالبة بمنع الاختلاط والرجوع إلى تعدّد الزوجات وإعادة نظام الأوقاف ووصل الأمر مداه عندما قامت مجموعات وهابية متطرفة بإقامة الحدود على الطالبات والنساء السافرات ففي بعض النواحي مثل جندوبة بلغ الأمر حد قطع يد أحد السارقين في تحدّ صارخ لقوانين البلاد وفي انسجام كامل مع فكرة محاكم التفتيش الجديدة ذات الحلّة الوهابية.
يكتمل المشهد باستقدام الدعاة الوهابيين من أمثال وجدي غنيم ومحمّد حسان ومحمّد العريفي...
يأتون إلى تونس في ثوب الفاتحين مقسّمين أهلها إلى “أتباع الطريق القويم” و“كفرة علمانيين” وتونس عند أغلب هؤلاء الدعاة مطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية لكن المقصود طبعا هو تطبيق المذهب الوهّابي.
ولأن هاجس “وهبنة تونس” لا زال يجيش في أفئدة هؤلاء الفاتحين الجدد تم مؤخرا يوم 6 رمضان تفجير العملية بإشراف أكبر موزّع هاتف في تونس وهي “شركة تليكوم” التي قامت بتوزيع إرساليات قصيرة لحرفائها تدعو لشراء إرساليات صوت الشيخ العفاسي المترنم بالداء أو آيات الذكر الحكيم بمبالغ “بخسة” وفي المتناول...