0inShare
Share on Tumblrث- أطباء الحضارة والاستغراق في تأصيل الحلم الحضاري
قد لا ندرك سر هذا الجنون المحموم نحو تأصيل الأصالة خلفياته وشروط إمكانه وتجلياته وانعكاساته ولعل البشرية كانت ولا تزال تدفع تبعاته خاصة الأبرياء منهم الذين كانوا يقدموا قربانا من اجل الدفاع عن تلك الخصوصية وتحصينها.إلى درجة أضحى الخطاب جله إن لم نقل كله إما ينتصر لصراع الحضارات وتصادمها أو مع تعايش الحضارات وتسامحها، والأولى المطلوب من أهل العرفان والتفلسف هو ضرورة الحفر في مقتضيات ذلك الخطاب وفي دوافعه ودلالاته ومالاته بدل تكريسه والتأسيس له والتقعيد مفاهيميا لرؤاه وأوهامه وإضفاء الشرعية عليه. فعن أية خصوصية نتحدث؟ خصوصية من؟ ومن يستفيد منها؟ ولماذا؟
تستبطن كل حضارة ناشئة رغبة دفينة في التماهي مع الحضارة المهيمنة ، وحينما تتحصل السيادة والتمكين فإنها بدورها تسعى إلى التهام الحضارات السابقة من خلال فرض نموذجها ودفع الحضارات الأخرى إلى تقمصه والتماهى معه،كما تختزن قرونا من القهر والاستعباد من الحضارات الغازية والمستوحشة، والتي تحتاج إلى إشباع نزواتها والى الثأر من قرون استعبادها السابقة، لذلك يكون رد فعلها أشد وحشية وأشد عنفا من سابقتها، حتى أنه لا يمكن فهم تطور الأدوات والمعارف والتقنيات إلا استجابة لهذا الدافع والداعي ، دافع الاستقواء والاستغوال وداعي الانتقام وسحق الآخر ويمكننا أن نوسع ذلك المنطق ليشمل حركة العصبيات والقبليات وبحثها المجنون عن أساليب تقوية شوكة تلك العصبيات من خلال استثمار كل ما أمكن من رأسماليات بشرية ومادية ورمزية.
ويستعصي فهم حركة تناسل الحضارات إلا وفق ذلك المقياس إذ كل حضارة تشكل انعكاسا وتمردا على الحضارة أو الحضارات السابقة أو المجاورة والمنافسة إنها تشبه لعبة المرايا والانعكاس المراوي.ولعل ذلك ما ترسخ في الفترة الراهنة مع الحضارة المظفرة وما واكبها في غزواتها المستمرة وفي فتوحاتها خارج أوطانها وكان لزاما عليها كي تفعل حلمها التوسعي أن تعبئ وتستنفر الكل لخدمة مشروعها، وأن تمتطي روح حضارتها وتشحذ روح أصالتها وتزرعها في النفوس حتى تستنهض الهمم ويصبح الحلم عقيدة وكل شئ يمكنه أن يشكل حطبا ووقودا في سبيل ذلك المشروع المأمول، وكل شئ يهون في سبيل الخلاص الأبدي.
يعج تاريخ الإنسانية بشواهد ومنعطفات خطيرة لا تعد ولا تحصى من سيرورة الحضارات الإنسانية، حصل ذلك مع اليهود وجهودهم المستمرة في تحقيق الحلم الموعود وسعيهم الحثيث للتأصيل له واستغراقهم في الخصوصية إلى درجة اعتبروا نفسهم شعب الله المختار وان الشعوب الأخرى عليها أن تقر بذلك وان دمها الملوث لن يتطهر إلا بالولاء لاصطفياء الإله. ويشكل حلم تطهير الأرض من الدم الملوث رسالة سماوية أوكلها الإله بمختاريه مهمة النهوض بها. لاتزال اليوم فلسطين تدفع ضريبتها، وحصل ايضا مع الحضارة اليونانية والتي بعدما قهرت الالهة وانتزعت النار المقدسة من زيوس وقهرت العمالقة لم يبقى امامها سوى ان تنقض من اعالي جبال الاولمب على الشعوب الهمجية وتستعبدها وتسقيها من كاس باخوس نبيذا معتقا وتنير ظلامها الدامس بشعلة حارقة من شمس ابولون، وتعيد ترتيب وتدبير مدنها الهمجية وغير الفاضلة بجمهورية أفلاطون من خلال خلق التناغم والانسجام واحترام ناموس الطبيعة وطبائع الانفس وخصوصية كل معدن وكل عنصر وما هياته الطبيعة له، فالشهواني يختلف عن العدواني وعن النوراني والترابي لا يمكنه ان يرقى للذهبي أو للأثيري، ذلك ما تحقق مع الإسكندر وحلمه بملكوت الأرض ، حصل ذلك مع المسيحية وجهود نقل ملكوت الاب الذي يوجد في السماء إلى الأرض أو رفع ملكوت الابن في الارض إلى ملكوت السماء، وما تلاه من حروب ودماء إلى حد تغيير جغرافية الارض وخارطتها وابتداع لغة خاصة وجدولة خاصة للزمن وللاحتفال وطقوس اصيلة في العبادة والعيش واساليب في التعامل وفنون في البوح والاعتراف والتطهير............وكذلك الفترتين الحديثة والمعاصرة لا تشكلان استثناءا
وقد لا نعدو الصواب إن قلنا أن الكل تم الزج به في هذه اللعبة بما فيهم من فلاسفة ومفكرين ورجال دين ومحترفي علوم وفنون إلا من شذ عن القاعدة وظل يغرد خارج السرب، منهم من أصابه الجنون، ومنهم من رمي في ظلمات السجون، ومنهم من استيقظ بعد فوات الأوان ومضى يصرخ في الفراغ ويلعن هذا الزمن الموحش ويبشر بقدوم الكارثة والنهاية المأساوية وانه لم يعد ثمة من مخرج سوى الانهمام بالذات والدعوة إلى خصوصية ثانية لكنها ليست بخصوصية حضارية أو خصوصية دينية أو خصوصية فلسفية أو عرقية حضارية .........إنها مجرد خصوصية شاعرية وذات أبعاد صوفية جمالية وفنية متجردة من نزوعات أنانية مفرطة في الأنانية لا تروم الذوبان في الآخر أو تقمصه ولا اختزاله ومحو كينونته وتجريده من مقوماته الإنسانية، وبعبارة أوجز تمثل شكلا من العزاء والمواساة لا اقل ولا أكثر.
والحال انه في دعوة الغالبية العظمى من أطباء الحضارة إلى الخصوصية ونزوعهم نحو التحرر والتجديد والتميز والفرادة لم ينتبهوا إلى السم المدسوس في عسل الخصوصية عن حسن نية وكرد فعل عفوي، أو بدافع رد الاعتبار للذات الجريحة، أو من شدة حلاوة عسل الخصوصية وتميزه، ونتيجة لبريقها الذي يعمي الأبصار. وبالتالي من حيث لا يحتسبوا سقطوا في شباك وفخاخ حماة الخصوصية وحكامها وسماسرتها ووكلائهم الذين لا يعدون ولا يحصون، وهي حالة عامة تعم مناخ الكوكب الأرضي واشد كونية من خطاب العولمة بل هي العولمة نفسها. فلا نستغرب إذا ما رأينا هذا التسابق المحموم بين الدول والحضارات كل منها يقدم نفسه على أنه النموذج الأمثل ويبشر بنمط حياة وفلسفة في الوجود وسياسة هي الأمثل، ينبغي على الشعوب الأخرى أن تحدو حدوه من اجل الخلاص. يمكنكم أن تجربوا النموذج التركي فهو الأقرب إلى خصوصيتكم والى تاريخكم الحضاري، فالمشترك أوسع ومجال التناقح والتلاقح اضمن وانسب يساعد على التخصيب والخلق والإبداع، في التعليم وفي التربية وفي الفنون والسياحة والتسويق..... وإذا لم يواتيكم المثال التركي فجاره الإيراني يغري ....أو استلهام الحلم الأصفر فان تكلفته اقل ويسترالعري ويسد الأفواه الجائعة، ويرد الفحولة ويحل العنوسة، كما يصنع بيوتا ورقية وأقفاصا بلاستيكية يمكن أن تحل أزمة السكن التي عجزتم عنها في قرون، في سنة، في يوم، في ساعة، أو في رمشة عين.....لا أحد يدرك إلى أين ستقود رحلة التأصيل للخصوصية والتي نجحت في نحت قاموس مفاهيمي اكتسح جميع المجالات، الفكرية والسياسية والدينية والاقتصادية.......وأصبح موضة العصر وديوان المنابر الإعلامية، وقناة تصريف الأحلام وتحقيق التنمية المنشودة وحبل نجاة من واقع التأزيم يكفي الرقص عليه والتعلق به للوصول إلى بر الأمان. فلا نندهش من إيقاعات الخصوصية والخصخصة والخوصصة والمخاصصة والتخاصص والتخصص والاستخصاص والخاص والخصصوصي...... والتي منبعها واحد وإن تلبست بمظاهر التجديد والتنويع وبصيحات الحداثة......وهي تحمل في احشائها أصولا عرقية وعصابا طائفيا ونزوعات استعمارية تسلطية يتم تصريفها اليوم في فلسفات ومشاريع تجارية عملاقة وفي ماركات عالمية مسجلة تنزع نحو التسلط والهيمنة.
كما أنها(دعوى التأصيل للحلم الحضاري المنشود والمنتظر والموعود) تبدو حجة مقنعة خاصة إذا تمثلنا الحضارة كمعدن أصيل أو كروح كونية تقيم هناك في البرزخ خارج الزمن وبعيدا عن قانون الكون والفساد وأنها في شباب دائم لا يفسدها الدهر أما إذا تبث العكس فان حال هؤلاء يكون كحال تلك العجوز التي ذهبت عند العطار تستجدي أمل استرجاع شبابها فكان جواب العطار أقوى وأفصح من وصفات أطباء اليوم ، وهل يعيد العطار ما أفسده الدهر. وحتى إن افترضنا أن البعض منهم يشبه الحضارة الأصيلة بعشيقة حرون ومتمنعة أو طليقة متدللة حصل الهجران بينهما ويكفي إظهار حسن النية وعربون الثقة ويغدو الميثاق اشد قوة وأكثر من ذي قبل لتعود روح الحياة وطعمها. في الحقيقة إنها ليست نفس الحبيبة وليست نفس الطليقة، وان الحضارة هشة كالمرأة وكالمرآة وكالزجاج لا يشعب كسره، وان سلطان الكون والفساد يأتي على كل شئ فقط لم نتعلم السياحة في الأرض والإنصات للريح. ولكن ما يشفع لدعاة الخصوصية والتأصيل ويضفي على حلمهم الاستمرارية والجاذبية ليس فقط كونية الخطاب ومصداقيته، بل في وظيفته التي تكمن في تأسيس الذاكرة الجمعية وترسيخها، وربط الحاضر بالماضي، وقدرته على تثبيت وتوطيد وتوطين الهوية والانتماء للجماعة، وفي قوته على تحقيق الضبط الاجتماعي واستنهاض الهمم وتحريك عجلة الحضارة واغنائها. للمبررات السالفة يصعب القفز عليه أو تجاوزه، فهو مثل الظل ولا احد يمكنه القفز على ظله، قدر ويظل مصير ومكتوب الإنسانية وقد يكون سر معاناتها وسبب هلاكها ونهايتها.
يتبع.......