العلمانية كجهادية دنيويةنشر بتاريخ :8 07 2012 | الساعة 20:29بقلم : . . جورج طرابيشي
العلمانية كجهادية دنيوية جورج طرابيشي عندما يدور الكلام عن العلمانية فغالباً ما يتم تناولها بوصفها آلية -
من طبيعة قانونية في المقام الأول - للفصل بين الدين والدولة، وبالتالي
لتسوية العلاقات بين الأديان المختلفة، كما بين الطوائف المختلفة داخل
الدين الواحد. ولكن وجهاً آخر للعلمانية يمكن أن يكون مهماً كل الأهمية
للعالم العربي - الإسلامي، وذلك من حيث أنها عنصر فاعل أساسي في جدلية
التقدم والتخلف. فمن منظور هذه الجدلية حصراً، وبالعودة إلى الأصل الغربي
للعلمانية كما للديمقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان وسائر مذاهب
الحداثة، نستطيع أن نطرح السؤال التالي: لئن تكن أوروبا الغربية هي التي
سبقت إلى اجتراح مأثرة الحداثة، فهل مرد تقدمها هذا إلى أنها كانت مسيحية،
كما يرى ذلك بعض فلاسفة الحضارة ومن طاب لبعض المستشرقين أن يصطاد
أطروحتهم هذه في المياه العكرة لما سيسميه صمويل هنتنغتون بـ "صدام
الحضارات"؟ أم أن مرد تقدمها ذاك هو إلى أنها كانت هي السباقة أيضاً إلى
التعلمن كما نرى نحن؟
وبالفعل، وفيما يخص الإطار الجيو- ثقافي، العربي- الإسلامي، فإن لهذا
السؤال أهمية قصوى: فلئن تكن أوروبا الغربية قد تقدمت لأنها كانت مسيحية
تحت مظلة كاثوليكية-بروتستانتية مزدوجة أو متناحرة[i]، فهذا معناه أن فرص
القارة الجيو-ثقافية الإسلامية، العربية وغير العربية على حد سواء، في
التقدم ستظل معدومة إن لم يكن إلى الأبد، فلأجل غير مسمى من الزمن. بل
أكثر من ذلك بعد: فبما أن الإسلام يرتبط ارتباطاً تأسيسياً باللغة
العربية، فإن العالم الإسلامي العربي سيبقى مستبعداً من حلبة السباق
الحضاري أكثر حتى من العالم الإسلامي غير العربي، باعتبار صميمية علاقته
اللغوية بالإسلام، على عكس حال باقي القارة الإسلامية التي قد تستطيع أن
تنجز "فطامها" بسهولة أكبر، كما يشهد على ذلك المثال التركي بالأمس
والمثال الماليزي اليوم.
أما إذا كانت أوروبا تدين بتقدمها لعلمنتها، لا لمسيحيتها، فهذا معناه
أن فرص القارة الجيو-ثقافية الإسلامية، العربية وغير العربية على حد سواء،
في التقدم ستكون موفورة بتمامها إذا أنجزت هذه القارة نفس سيرورة العلمنة
التي أنجزتها القارة الجيو-ثقافية الأوروبية الغربية، وربما في مسافة
زمنية أكثر قابلية للانضغاط بحكم المفعول التسريعي لقانون التطور المتفاوت
والمركب[ii].
إذن ما الآليات التي تحكمت بمولد الحداثة الأوروبية؟ بل ما تعريف هذه الحداثة أصلاً؟
بين عشرات التعاريف التي يمكن أن تعطى للحداثة يستوقفنا من وجهة النظر
التي تعنينا هنا التعريف الذي اقترحه مرسيل غوشيه عندما أقام بين التحديث
والعلمنة علاقة ترادف: الخروج من الدين[iii]. ذلك أن القارة الجيو-ثقافية
الأوروبية الغربية كانت مسكونة سطحاً وعمقاً بالدين، وما كان لها أن تشق
طريقها إلى التحديث إلا بالقطيعة مع النظام المعرفي الديني للقرون الوسطى.
وهذه القطيعة هي ما يمكن أن نطلق عليه اسم العلمنة sécularisationالتي
يمكن لنا أن نعرِّفها بدورنا، بالتضامن مع تعريف مرسيل غوشيه ولكن بالرجوع
هذه المرة إلى مفردات المعجم العربي الإسلامي، على أنها جهاد في سبيل
الدنيا كخيار بديل عن الجهاد في سبيل الآخرة[iv].
هذه الجهادية الدنيوية، التي لا نتردد في أن نقول بأنها أحدثت في مسار
البشرية انعطافاً بمائة وثمانين درجة، تلبست شكل علمنة على مستويات عدة:
أولها—ومهما بدا ما في ذلك من مفارقة- هي العلمنة الدينية. فلوثر،
بكسره احتكار الكنيسة الكاثوليكية للإيمان الديني، ردّ هذا الإيمان إلى
الشخص البشري، وأوكل إلى عقله المتمتع بالسؤدد الذاتي مهمة تأويل النصوص
المقدسة. وقد ترتبت على ذلك نتيجة خطيرة من منظور الحداثة: فالأب الذي صار
هو المسؤول –لا الكاهن- عن التعليم الديني لأولاده، صار ملزماً بأن يتعلم
قراءة النصوص المقدسة بنفسه وبأن يعلِّم هذه القراءة لأولاده بدورهم.
وهكذا اقترن الإصلاح البروتستانتي بثورة حقيقية على صعيد محو الأمية
وتحطيم احتكار رجال الدين لعملية القراءة والكتابة[v].
وثانيها العلمنة الثقافية. فمنذ بوكاشيو (مؤلف الديكاميرون) في القرن
الرابع عشر إلى رابليه (مؤلف غرغنتوا) في القرن السادس عشر تطورت حساسية
أدبية جديدة، ذات منزع دنيوي ومنعتقة من ربقة التصور الديني للعالم. وهذه
الحساسية الجديدة هي التي تمخضت، مع سرفانتس ودونكيشوته في القرن السادس
عشر، ودانييل دوفو وروبنسونه في القرن السابع عشر، عن ظهور نوع أدبي جديد
هو الرواية التي هي بالتعريف فن متمحور حول الإنسان في مصائره الدنيوية.
وثالثها العلمنة اللغوية. فتلك الحساسية الأدبية الجديدة ترجمت أيضاً
عن نفسها بالتمرد على لغة المقدس التي كانتها اللغة اللاتينية، وبتكريس
اللغات العامية الدنيوية ورفعها إلى مستوى لغات قومية تكرس بدورها
القطيعة، على مستوى الشعوب والدول، مع وحدة الكنيسة المسكونية
وإمبراطوريتها المقدسة.
ورابعها العلمنة "الإنسانية". ونحن نضع هذا النعت بين مزدوجين للإشارة
إلى أنه، وإن يكن مضافاً من حيث الاشتقاق إلى الإنسان، فهو مضاف في
الدلالة إلى "الإنسانيات" Humanités؛ وهو الاسم الذي أُطلق، في سياق
العلمنة الثقافية واللغوية، على دراسة الآداب اليونانية والرومانية
القديمة. والواقع أن الإنسانيات بهذا المعنى تعادل عملية إحياء حقيقية
للثقافة الوثنية للعصور القديمة، وردّ اعتبارها كاملاً إليها بعد أن كانت
تمثل بالنسبة إلى الثقافة الدينية المسيحية للقرون الوسطى ما تمثله
"الجاهلية" بالنسبة إلى الإسلام.
الإثنين يوليو 15, 2013 12:40 pm من طرف بن عبد الله