استخدام العلم من أجل التجهيل:
نرصد في هذا المقال المواجهة بين السوبر حداثة والسوبر تخلف. فبينما
السوبر حداثة تدافع عن المعارف المعبّرة عن الأكوان الممكنة ولا تؤمن
باليقينيات، يعتمد السوبر تخلف على اليقينيات وبها يقاتل معتقدات الآخرين.
صراع البشرية اليوم صراع بين السوبر حداثة والسوبر تخلف.
تختلف السوبر حداثة عن الحداثة وما بعد الحداثة. بينما تقول الحداثة إن
الكون محدّد و لذا من الممكن معرفته، تعتبر ما بعد الحداثة أن الكون غير
محدّد ولذا من غير الممكن معرفته. لكن السوبر حداثة تقول إن الكون غير
محدّد ورغم ذلك من الممكن معرفته لأن من خلال لامحددية الكون من الممكن
تفسيره. هكذا تجمع السوبر حداثة بين لامحددية الكون و إمكانية معرفته،
وبذلك تختلف عن الحداثة وما بعد الحداثة. مثل تطبيقي على السوبر حداثة هو
التالي : الكون غير محدّد ما هو, لذا تنجح النظريات العلمية المختلفة في
تفسير الكون و وصفه رغم التعارض فيما بينها. هكذا تفسّر السوبر حداثة
لماذا تنجح النظريات العلمية في وصف وتفسير العالم رغم اختلافها كاختلاف
نظريتي النسبية لأينشتاين ونظرية ميكانيكا الكم. فكل نظرية منهما ناجحة في
تفسير و وصف العالم رغم اختلافهما وتعارضهما لأنه من غير المحدّد ما هو
الكون. أما إذا كان الكون محدّدا ً لنجحت نظرية واحدة في وصف وتفسير
عالمنا. من هنا، من غير المحدّد ما هو الكون، لكن رغم ذلك من الممكن
معرفته لأنه من الممكن تفسيره من خلال لا محدديته تماما ً كما تفسّر
السوبر حداثة نجاح النظريات العلمية رغم اختلافها من خلال حقيقة أن الكون
غير محدّد.
بالنسبة إلى السوبر حداثة، اللامحدّد يحكم العالم. من هذا المنطلق
تعتبر السوبر حداثة أنه لا بد أن تكون أفكارنا و معتقداتنا غير محدّدة كي
تنسجم مع وتعبّر عن عالمنا. وحين تكون معتقداتنا غير محدّدة في مضامينها،
حينئذ ٍ لن نتعصب لها و سنعتبرها مجرد أفكار ممكنة و ليست يقينيات. هذا
لأنه عندما تكون المعتقدات غير محدّدة ماهي وما معانيها ومدلولاتها ستكون
متساوية في قيمتها، وبذلك نتحرر منها ولا نتعصب لها. على هذا الأساس، تدعو
السوبر حداثة إلى اعتبار كل المعتقدات مجرد أفكار ممكنة و غير يقينية.
وتغدو معتقداتنا غير محدّدة متى عبّرت عن الأكوان الممكنة العديدة كونها
أكواناً مختلفة عن بعضها البعض، وهذا ما يضمن أن تكون معتقداتنا أفكاراً
ممكنة لا غير. أما عالمنا الواقعي فهو مجموع العوالم الممكنة المختلفة
لكونه عالماً غير محدّد. بذلك تتمكن السوبر حداثة من جعل أفكارنا و
معتقداتنا مرتبطة بالعالم رغم أنها مجرد أفكار ممكنة. هكذا تنجح السوبر
حداثة في التعبير عن إمكانية معرفة العالم رغم معاداتها لليقينيات. الآن،
بما أن السوبر حداثة تدعو إلى جعل معتقداتنا أفكاراً ممكنة بدلا ً من
يقينيات، إذن لا مجال سوى أن تواجه السوبر تخلف و تصارعه. فبينما السوبر
حداثة ترتكز على اعتبار المعتقدات كافة مجرد أفكار ممكنة قد تصدق أو تكذب،
يعتمد السوبر تخلف على اعتبار أنه توجد يقينيات مطلقة من الخطأ تغييرها أو
استبدالها بمعتقدات أخرى. من هنا، لا مفر من المواجهة بين السوبر حداثة
والسوبر تخلف.
ثمة فرق أساسي بين التخلف و السوبر تخلف. الشعب المتخلف هو الشعب
الذي لا ينتج ما هو مفيد للعالم و البشرية، بينما الشعب السوبر متخلف هو
الشعب الذي يطوّر التخلف من خلال استخدام العلم من أجل التجهيل. و هذا ما
نقوم به اليوم بالضبط. فمثلا ً, كل قبيلة مذهبية أو طائفية لديها مدارسها
وجامعاتها و وسائل إعلامها الخاصة، والوظيفة الأساسية لها كامنة في معاداة
ومحاربة القبائل المذهبية والطائفية الأخرى. هكذا نستخدم العلوم
والتكنولوجيا من أجل نشر الجهل. لسوبر تخلفنا تجسدات عديدة ومختلفة منها
أيضا ً أننا نعتمد على بعض أقوال و أفكار الفلاسفة والعلماء من أجل تبرير
حروبنا الأهلية المتكررة و وجود أنظمتنا الديكتاتورية. ومن تجليات سوبر
تخلفنا أن معظم خطاباتنا ونصوصنا تعارض مبادىء المنطق فتقع في التناقض
والمصادرة على المطلوب والدور كتعريف الماء بالماء كما لا أسس علمية لها.
كما يظهر سوبر تخلفنا في أن معظم عباراتنا أمست بلا معنى كعبارة "العدد
سبعة متزوج" ؛ فلا نعلم ما الذي يجعل العبارات ذات معان ٍ و ما الذي
يجعلها فاقدة للمعنى. نحن اليوم سوبر متخلفون لأننا نرفض العلم والمنطق و
نستغل العلوم و التكنولوجيا من أجل التجهيل. فمعظم شاشات الإنترنيت تحتشد
بفتاوى التكفير، ومعظم جامعاتنا تخرّج إرهابيين بدلا ً من مثقفين وعلماء.
لكن ما الذي يجعلنا نصل إلى هذا المستوى من التخلف؟ يكمن الجواب في أن
معتقداتنا يقينيات بالنسبة لنا. بما أن ما نعتقد أصبح يقينا ً بالنسبة
لنا، واليقين هو المعتقد الذي يستحيل تغييره أو استبداله بمعتقد آخر، إذن
من المتوقع أن نتعصب لمعتقداتنا ونرفض الآخر و معتقداته. هكذا أمسينا سوبر
إرهابيين نقاتل بعضنا البعض من جراء سوبر تخلفنا. على هذا الأساس، الطريق
الوحيد نحو الخروج من سوبر تخلفنا وسوبر إرهابنا قائم في تحويل معتقداتنا
من يقينيات إلى مجرد أفكار ممكنة قابلة للتعديل والتغيير والاستبدال.
فعندما تغدو معتقداتنا مجرد أفكار ممكنة لن نتعصب لها وبذلك لن نرفض الآخر
ما يسمح لنا أن نبني مجتمعات و دولا ً. هذا يعني أنه ينبغي علينا القبول
بالسوبر حداثة التي تسعى إلى تحويل معتقداتنا إلى أفكار ممكنة بدلا ً من
يقينيات. فبالنسبة إلى السوبر حداثة، كل الأفكار والمعتقدات من الممكن أن
تكون صادقة لأنها فعلا ً مطابقة لأكوان ممكنة مختلفة وبذلك تتساوى كل
المعتقدات ما يجعل التعصب لمجموعة معتقدات دون أخرى أمرا ً مستحيلا ً.
نحن اليوم نرفض العلم وما يتضمن من منطق و موضوعية كما نستغل
التكنولوجيا و العلوم من أجل تطوير جهلنا وتخلفنا و صراعاتنا الداخلية لأن
معتقداتنا يقينيات بالنسبة إلينا. فبما أن ما نعتقد أمسى يقينا ً لدينا،
وبما أن العلم نقيض اليقين، إذن من الطبيعي أن نرفض العلوم ونستغلها من
أجل إعلاء رايات الجهل. من هنا، إذا غدت معتقداتنا مجرد أفكار ممكنة وليست
يقينيات سوف نقبل العلم ونشارك الحضارة في إنتاجه ما يسمح لنا في العودة
إلى الحضارة واكتساب إنسانيتنا من جديد. الآن، العلم نقيض اليقين فلا
يقينيات في العلم لأن العلم عملية تصحيح مستمرة؛ فالنظريات العلمية يتم
استبدالها باستمرار بنظريات علمية أخرى كما استبدلت نظرية نيوتن وحلت
نظرية النسبية لأينشتاين مكانها. فالمعتقدات العلمية تُستبد َل بأخرى
مختلفة ما يجعل التفكير العلمي بعيدا ً عن التعصب الفكري. فليس في العلم
مقدّس؛ فمثلا ً بينما الزمن مطلق بالنسبة إلى نظرية نيوتن العلمية، الزمن
نسبي بالنسبة إلى النظرية النسبية لأينشتاين.
هكذا بمجرد أن نقبل العلم ونشارك في بنائه سوف نتمكن من التخلص من
يقينياتنا فمن تعصبنا فنتحرر بذلك من ذواتنا ونتمكن من إعادة صياغة
إنسانيتنا ومجتمعاتنا. ويبقى السؤال: هل سوف تنتصر السوبر حداثة أم
سيغزونا سوبر تخلفنا باستمرار؟
آخر تحديث ( الأربعاء, 29 أغسطس 2012 08:48 )
كاتب هذا المقال:
حسن عجمي