مسودّة مْسُودْنين أو خمس مذكرات زرقاء تبحث عن روائي
08/09/2009
|
مسودنين |
ـ ولم يكن في هذه المدينة شيء نظرتُ إليه
وصدّقتُ بأنه ذلك الشيء للعينين ، بل كان كل شيء تعزيمة سحرية ، وبدا كأنه
قد تحوّل الى هيئة أخرى ، وهكذا حين رفست بقدمي الحجارة كنت أميل الى
رؤيتها بشرا ُمسخوا الى صخورٍ وطيورٍ أخذت أسمع زقزقتها - بشرا كسيوا على
الفور بالريش ، وفي الأشجار المحيطة بي رأيتُ أسوارا منيعة - وبالطريقة
نفسها ُكسي البشرُ بأوراق الشجر ، وعندي ريبة بأن منابع الماء راحت تنبثق
من أجسام البشر ، كمارأيت التماثيل والصور تتحرك من أماكنها ، وجدران البيت
تنطق ، وليس خوارالثور وشبيهه من البهائم إلا إطلاق تنبوءات ، ومن السماء
ذاتها ، من قرص الشمس الملتهب تطيرعلامة لإحدى العرّافات.
لوُكيوُس أبوُليوُس في ( تحولات Metamorphoses أو الحمار الذهبي (
……………
…………...
صارت خمسين ورقة ...
خمسون ورقة يشهق بها دفتر بكامله مفتوح على الهباء. دفتر أزرق لايشبه دفتر
رواية ليلة التنبؤ في شيء. وما دمتم تدمنون جريمة الإشتباه عفوا ألق
التشبيهات فلأكن واضحا من البداية حد الرماد بأنه أقرب إلى دليل للسخافة
التي لاتعني البلاهة. أو البلاهة التي قد تعني السخافة ... لاشيء فيها على
ما يبدو لي الآن غير لهاث عداء كسول لايركض إلا في حلمه بعد أن فاته أن
يكون كذلك واقعا. ربما هي شبيهة بما يكتبه مخبول فقد ذاكرته تماما ، كما لا
أشك بأني نصف مخبول. حاليا.
اللعنة ! لم أفقد الذاكرة بعد...
سوف لن أغتم إذا فقدتها كاملة. كيف سأغتم إذا انزاح عني ضجر غيمها الفاسق
... حينها سأعلن للعلماء عن كامل الإستعداد كي يعملوا مني مادة مختبرية
فأرية ، أرنبية ، قردية ، بل بشرية. ولم لا هكذا يفعلون في كل بقاع هذه
الأرض الشؤم. أحفاد موسى وإسحق ويعقوب وغولدي قتلوا الأطفال في غزة كي
يأخذوا من جثثهم هذا العضو وذاك طالما أنه سارٍ إلى أبد الآبدين مبدأ : كل
شيء للشراء والبيع...
في الخامسة والدقيقة الثانية والعشرين استيقظت من كابوس كما لو رسم بقلم
الرصاص وأراهن أن كوابيسي وأحلامي يرسمها فنان هاو مخبول مثلي مفتون
بالأبيض والأسود ( غالب الظن أنه يسكن شقة الطابق المقابل لطابق الشقة التي
أقيم فيها ) . لا أتذكر منه شيئا سوى أني كنت على سطح عمارة شاهقة وأراد
أحدهم أن يدفعني من الوراء الى الأرض. كنت أتأرجح على حافة السطح. بكل
تأكيد أنبش في رصيد الوجوه العالقة في مرآة صباحي عن هوية هذا الشخص الآثم .
لم كان علي أن أستيقظ قبل أن أتبين ملامحه التي لن تكون إلا بلون أرض
خاصمها مطر الأبدية ؟ كيف لي أن أتبين ملامح وجهه العطنة كما لو على زجاج
سيارة غارقة في بحيرة وهو كان يقف ورائي لحظة الدفع المريب ؟ لم أعرف إن
كنت أصرخ. أكيد أني كنت أصرخ أو أن صيحتي المثلومة تعطلت في رماد حنجرتي،
وإلا لماذا كانت حنجرتي جافة مثل العاقول. شربت قدح ماء الى آخر قطرة
لاأعرف لماذا أملتْ علي حواسي حنين رائحة قدح سافرة ، مصنوع من الخزف ،
مطلي بالقطران شربته ذات زقاق في صيف غائر . غريبة هذه الكوابيس. سوف لن
تنسيني في الرجوع إلى حكاية هذا الزقاق الذي يشبه نفق أرنستو ساباتو .
أليست غريبة هذه مجرد تحصيل حاصل؟ هل من كابوس مألوف . مرة خنقني أحدهم في
سيارتي لا أزال أحتفظ بأثر ملمس يديه الفظتين اللتين تشبهان يدي بائع
الهندية وإلا ما تفسير أشواكها الدقيقة التي شوشت علي مذاق منامي . في أخرى
فتح أحدهم من الخلف عليّ النار من رشاش قصير . لا بد أن رأسي مطلوب عمليا
لدى جماعة أو جهة داخلية أو خارجية . هل زعمت أنها خمسين ورقة ، لخمسين
يوما؟ فروق طفيفة بينها. ( القوانة ) العتيقة نفسها. بلاهات اليومي نفسها.
عدا الكوابيس تلك الفكرة اللحوح ، خيط رفيع لكنه متين. جرجرت رجليّ الى
الحمّام كي أجلس هناك أكثر من ساعة . دائما أتلمسها تلك الكتابات السومرية
والفينيقية والرومانية على جداريات حمامي . نهضت وتلفنت. أخبرتُ رئيس العمل
وهو من أعتى الأخلاقيين سماجة وصلافة بأني مريض جدا ولن أجيء لا اليوم
ولاغدا إلى العمل ، هل كان دابر مسكها : اليوم وغدا و أبدا أيضا تلك
المكالمة البليدة . المعتوه أراد تزويدي ببضع نصائح ذهبية( بأن أعرض حالتي
غير الآدمية على زوجته الطبيبة النفسية ) . قطعت عليه الطريق كما كل مرة
أتصوره فيها قطا أسود سمينا : أخي. أنا في حالة لا تسمح لي بالإستماع إلى
نصائحك – باذنجانك – هذه الأخيرة لم تدلقها كلماتي بل كانت على أهبة ذلك.
مع السلامة. هكذا ينبغي علي أن أتصرف مع أصناف القردة المملين. بعد الحمّام
جاءتني فكرة ليست بالعاطلة : أن أتصرف منذ هذه اللحظة بمرح ٍ وتلوين كل
شيء مما حولي بالوردي. حتما سأتهم بشبهة أيروتيكي عتيد . جرّبت حوالي عشر
دقائق قبل أن أشيع هنري ميللر بسيجارة . فشلت. لم أفشل في أن أصير كائنا
ورديا . بل لأنني تذكرت أن للجحيم حواليّ عشرات العيون والأفواه. نظرات
نمرية وصرخات قطيع غوريللا وشحاج غربان. رحت إلى التلفزيون. ماذا هناك ؟
أكثر من سيرك واحد. انتقلت إلى ( سيّار الحيوان Animal Planet). سخرت من
نفسي حين اكتشفت ، وبعد كل هذه السنين التي قضيتها في أحد أقفاص حديقة
الحيوان الكبرى الممتدة من القطب الشمالي إلى الجنوبي ، أن السبل وحدها
تفرق بين الإنسان والحيوان. بالتأكيد هي خمسون ورقة بدت كلها كأنها نسخ
مشوهة لورقة أصلية واحدة. اختلافات بسيطة أو اختلالات بالأحرى . هل تريدون
أن تعرفوها ؟ لأكثر من عشرين يوما حلقت لحيتي بشفرة واحدة حتى صار جلدي مثل
خريطة دفّ ماعزي . الأعمق هو الجلد ؟ قالها اللعين بول فاليري ولم ينطق
بها إلا بعد أن لمح في مرآة يومه خريطة وجه عائمة كالتي أتجشم شقاء
تلاوينها الباغية في ملامحي الجنوبية . استبدلتها بأخرى كي أحلق بها ما بقي
من الأيام الخمسين . في اليوم السابع عشر زدتُ من مقدار قهوة الصباح في
لحظة شرود ذهني ، كلا ، لم يكن شرودا بل مغصا سببه طعام غير طازج في
العشاء. كان قد أنساني المقدار اليومي... والى آخر الفروق التافهة حقا.
أستثني الرأس منها. التفكير ماء ساخن يبقبق وتتطاير فقاعاته في كل الجهات.
غريب أني لم أسجل هذه البقبقات على الأوراق الخمسين. هل تعرفون بم فكرت
وحتى قبل شرب القهوة أي قبل القرار بأن أكون مرحا ؟ بتأريخ الأرض الشؤم
هذه. عدت هنا إلى تسليتي التي بدأت أمارسها حين قرأت بأن الأكاذيب هي
بلانهاية بدءا بتلك الخليقة المزعومة وإنتهاء بما يحدث اليوم. فكرة جيّدة
ولأنها إنسانية للغاية : أن يبدأ تأريخ الأرض من 2009 كي ينتهي بماقبل
الأزمنة الجيولوجية الأربعة . تسلية مبتكرة أليس كذاك ؟ لم يفكر بها أخصب
كتاب الخيال العلمي مخيلةً. إذن لندر دولاب الهواء المثير هذا :
إنه الزمن الأركي الذي انتهى ، وللأسف الشديد ، منذ 600 مليون سنة. قبلها
بزمن طويل تخلصت الأرض من أوبئة كثيرة لما يسمى بالحياة : سكون جليل لا
يلوثه صخب بشري ولاحيواني عموما. آه ، لكم يمر الوقت سريعا. إنه الزمن
التالي الباليوزي ( إنتهى منذ 250 مليون سنة ) ، زمن ملعون إلى يوم القيامة
وبعده ، فهو زمن الحياة القديمة ( هذا وذاك يسميّه بالزمن الأول الذي
لوسمع به مغن مصري لناح عليه في سهرة المساء التي تستمر إلى الفجر! ) ،
لعلمكم فيه خمسة عصور : الكمبري ، الردوفيشي ، السيلوري ، الديفوني ،
الفحمي / الكاربوني . أكيد أننا الآن في عصور الزمن الميزوزي ، زمن الحياة
الوسطى أو الزمن الثاني الذي عبرنا عصوره الثلاثة : الكريتاسي ، الجوراسي ،
الترياسي. حان دور الزمن الكاينوزي، زمن الحياة الحديثة ، يا سلام ! يشمل
أيضا زمنين : الثالث والرابع. في الثالث أربعة عصور : الأيوسين ،
الأوليجوسين ، الميوسين ، البليوسين. الرابع فيه عصران : البليستوسين و …
الحديث. أرجوكم الآن أن تبدأوا العد التصاعدي كي تعودوا من عصر الدعارة
الألكترونية إلى عصر الصمت الجليل. إقتراح ليس بالسيء ، أليس كذلك ؟ أنا
بالخدمة. أظنها معجّنات البارحة ( زاعت ) كل هذه الحقائق عن أحوالي والأرض.
لا أقول بأني قد التهمتها من دون روية ، لكن اللعينة بدت طازجة. الغادرة.
حتى مذاقها كان بريئا. أشتريتها من أفخر ماركيت حيث تصدح الموسيقى وترّش
العطور. هل تجدون أن من الحصافة أن أكتب وصيتي ؟ كثرت أسئلتي إليكم. أنا
أعرف بأنكم ستسمعونها بعد رحيلي المفترض. لعلمكم أعتنيت كثيرا بفلم الفيديو
هذا فيما يخص الصوت والضوء والديكور الذي تشاهدونه خلفي. صورة الديناصورين
- المفترس والنباتي كلفتني بعض الوقت والنقود. أرجو أن لا تعيروا الإنتباه
لما أمامي. دواء ضد التسمم. ليس من الصيديلية. معروف منذ زمن الأسلاف
الأوائل. الكحول النقي مائة بالمائة تقريبا. C2H5OH . يهود الشمال مغرمون
بشرب هذا الكحول. ُبعدُ نظر. ينتقل هو من جدار المعدة إلى الدم. يختصر
الطريق ومن دون المرور بالإثني عشر والكبد والأمعاء الدقيقة. توفير للوقت
ووقاية من أمراض الثلاثة هذه. أسمح لنفسي بالثرثرة ، فأشرطة الفيديو عندي
كثيرة. اشتريتها من لص شارعنا بربع الثمن. هل تعرفون بأنه فيلسوف هاو بل لا
تنقصه تلك المؤهلات التي بفضلها ينعت الشخص بالمثقف أوالكاتب. تكلم مرات
عدة عن جان جينيه. قال بأنه سيكف عن السرقة بعد أول إعلان من الحكومة أو
الدولة بأنها ستقطع دابر كبار السرّاق ولن تنفق الملايين على هذه الحرب
وتلك. وهو من أهداني الدفتر الأزرق لمعرفته المسبقة بأن بلية الكتابة قد
أدركتني من زمن غابر اليقين . يقينا كان هذا المارق يستدرجني الى فخ أو
متاهة . وإلا ما سر اعتكافي على ترويض السديم الشرس لهذه الورقات البكر
التي تفوح منها رائحة المستشفيات . فيها رطوبة مندلعة لقبو أو سرداب . طبعا
هو أخبرني أن الدفتر كانت تمتلكه سيدة عجوز لفظت أنفاسها الداكنة على
السرير رقم 19 . والغريب أن ما خربشته فيه ضاع لأسباب غير معروفة . هو قام
بزيارتها يومين في دار العجزة قبل وفاتها وكان قد تفحص دفترها الغريب وليس
محض تخمين أن يلهج بكلام جازم حول عدد صفحاته المائة . والخمسون الأولى منه
مملوءة عن آخرها مثخنة برسومات وقصائد ووصايا ورسائل ... كان الوحيد من
المقربين إليها في عزلتها اليتيمة . وكان من الراجح أنها كتبت له أملاكها
في وصية كما يقول لأنه الكائن الذي حافظ على تعاطفه النادر معها وبقي لشهور
وأيام يزور حديقة بيتها ويقلم أعشابها ويرعى كلبها الأسود النحيف روميو .
قبل أن تؤول هذه الممتلكات الى امرأة منمشة أشد نحافة من روميو طفت إلى سطح
التفاصيل الشحيحة لأسرة العجوز التي بعينين ببر ... الفتاة الشاحبة ذات
العينين الفستقيين التي كانت تعتني بها في الدار هي من احتفظت له بالدفتر
الأزرق وهي للآن لاتعرف كيف انتزعت منه الأوراق الخمسين الأولى إذ كانت على
تمام اليقين من أنها فحصتها من أولها إلى آخرها قبل أن تضعها في درج
سريرها المخصص لها في دار العجزة مع طاقم المشرفين على تدبيرها ... والعجوز
من منحتها الدفتر في آخر ليلة كي يحصل عليه لص شارعنا الصاخب ... هذا الذي
يصر على أن يتتبع خيوط السيناريو ليكشف عن اللعبة المحبوكة ضده وضد عجوزه
الببرية ... وإن اضمحلت هكذا تفاصيل هلوساته إلى حين ... بقي رقم 19 راسخا
في ذهني كما دبوس مغروز فيه ...
فهو رقم الحافلة التي كنت أستقلها الى الجامعة أيام دراستي الرمادية والتي
اندلعت فيها النيران ذات اقلاع ونحن محشورين فيها كما سمك السردين ولم يفلت
أي منا من مضاعفات الحريق المهول ، مازال أثر ندوبه الفاقعة على ذراعي
اليسرى ...
وهو رقم المرحاض الذي وجدت فيه جثة صديقتي الشقراء التي كانت تهوى غيفارا والقيثارة ...
وهو رقم الشارع الذي دهستني فيه دراجة نارية وكسرت ترقوتي ... وهو رقم
العمارة التي انتحر فيها صديقي الشاعر ملقيا نفسه من شرفة إحدى طوابقها
السبعة ...
وهو رقم المنزل الذي داهم فيه البوليس أستاذ مادة الفلسفة مع زوجة أستاذ الشريعة الإسلامية ...
وهو الرقم المندمغ في قاع كاس شربتها ذات حانة فلما غادرتها كنت أراني
منفصلا عني كما شبح يشيعني وعشت على حافة فزع الموت الموعود كل الأسبوع
والشهر والسنة ...
وهو الرقم الذي وشمته امرأة على ردفيها نمت معها في سفر إلى باريس وعندما
سألتها عن حكاية الرقم أفصحت لي في هذيان الأورجازم بأنه السن الذي فقدت
فيه بكارتها، والغريب أن يكون من افتضها قد لفظ أنفاسه بين فخديها لحظتها
وكان من مدونة سنها ...
وهو رقم غرفة في فندق بهولندا هجمت علي فيه ليلا غربان فان كوخ التي أخذت
ترتطم بسقفها ودولابها وسريرها وهي تنعق بشكل حاد لا يزال صداه إلى الآن
غائرا ...
وهو رقم مقعد الطائرة التي لملمت أطرافي في سفر هوليودي بين مدينتين ، فقد
ربانها السيطرة على التوازن أثناء الإقلاع بسبب عطب ميكانيكي ومن يدري قد
يكون عطبا ميتافزيقيا فسقطت داخل حقل للطماطم ...
وهو رقم الزقاق الموشوم بمواخير الدعارة الذي شهد انكشافي الساذج الأول
والأسطوري على فرج مومس وأنا في سن الخمسة عشر فهرولت شائك الفزع من مشهده
العابس المقزز وكان مشوها ومتعفنا كأنما صاحبته من ضحايا الإشعاع النووي
...
وهو رقم عدد السجائر التي أدخنها عادة كل يوم لأنني أرفض تدخين آخر سيجارة
في علبة ، فليس من اللائق رمي علبة فارغة في عالم فارغ وتلك لباقة واعدة
مني أهديها لمتشردي الشوارع ولاقطي الأشياء المهملة فما من حرج أن أعترف :
لطالما فحصت علب سجائر ذات زمن بؤس زنخ وكنت أشتم وألعن أصحابها ، كيف لم
يحتفظوا لي بواحدة أو لكائن مثلي لا يمتلك ثمنها ، فيما بعد ومع تحسن غرابة
الأحوال صارت هذه العلب لاتحصى في شقتي وهي متناسلة ومستفحلة تصلح لأن
يشيد بها برج بابل جديد ، أما زجاجات الفودكا فتصلح عمليا لجدار عازل بيني
وبين الله ... هو رقم الحجرة المدرسية التي كان يلقن فيها معلم الفرنسية
دروسه الضبابية المتعثرة قبل أن يفاجئ المدينة ذات صباح شتائي وهو يركض
عاريا كما أدلقته أمه للعالمين صوب قسمه وتلاميذه الهلعين وبعدها زجوا به
في أقرب مستشفى للمجانين .
آه أصدقائي المجانين ...
أستميحكم عذرا ونثرا على هذا الاستطراد القاتم ... ولاترك سيرة الرقم ولص
الشارع والعجوز ذات العينين الببريين والكلب النحيف روميو وفتاة النزل
الشاحبة وووووو ...
امتثلت بعدئد لصوت الكردية الساحر تارا جاف التي ذهبت بخرفان يقظتي وحواسي
صوب حافة أو كهف قيلولة شعشعت قبل الأوان . وكنت كمن يغرق في مياه برميل
رصاصية . بالكاد أتنفس . كأن حاوية أزبال تجثم على صدري . فوجدتني داخل
طابور من تسعة عشر شخصا كما لو نحتشد على بوابة مخيم لوكالة غوث أجنبية .
وفي الداخل كان ينتصب السرير رقم 19 ، هو نفسه سرير دار العجزة الذي تجشم
لليال وأيام عناء جثة العجوز ذات العينين الببريين . وكانت تستلقي بكل
أريحية في قعره معزاة تتقمص جسد امرأة ممتلئ ومترامي الأطراف . امرأة
مألوفة جدا وهي تشهر ضرعها الذي يزدهر بتسع عشرة حلمة .
تقدم رئيس عملي الأخلاقي السمج العتيد ورضع من الحلمة الأولى فتحول إلى جرذ
ضخم . نظر ذات اليمين وذات الشمال وركض ليغطس في بالوعة المرحاض ...
تقدمت زوجته الطبيبة النفسية ورضعت من الحلمة الثانية فقامت تمتص أصابعها
وأزالت تبانها الأصفر وكشفت عن شيئها الذي يشبه جرح المومس الموسوم بتشوه
الإشعاع النووي وحاولت أن تتبول مثل رجل من النافذة المطلة على حديقة
خريفية ولما فشلت في ذلك حيث تحلب خيطها الأصفر المخلوط بالبنزين بين
فخذيها فولولت وصرخت إلى أن تحولت إلى قطة قمامة شعثاء ، غادرت المكان تموء
بسفالة باتجاه المرحاض ... تقدمت الفتاة الملائكية فستقية العينين التي
كانت تعتني بصحة العجوز قبل موتها . رضعت من الحلمة الثالثة وتحولت إلى
أرنب أبيض ، نظرت بخجل إلى الجهات الأربع ثم اختفت في جحر تحت السرير ...
تقدمت العجوز ذات العينين الببريين ورضعت من الحلمة الرابعة ، أمسكت بأحمر
شفاه وضمخت ثغرها الصبياني المتغضن . لبست تنورة وردية وحاولت عبثا أن توضب
من اعوجاج صدرها المترهل ليصير جامحا ، تلقفت مكنسة في الركن وامتطتها كما
حصان ثم أقلعت باتجاه كوكب زحل ...
تقدم لص شارعنا الدموي ورضع من الخامسة فتحول إلى لقلق ، طقطق منقاره طويلا
كما لو يشحذه لغزوة على حافة النافذة وحلق باتجاه عشه المفترض فوق برج
إيفل أو بيزا ...
تقدم الكلب الأسود الأغبر النحيف روميو ورضع من الحلمة السادسة فتحول إلى
ساحر إفريقي يعزف على طبل مصنوع من جلد تمساح ، قفز من النافذة الى السطح
المقابل ومن السطح المقابل إلى الشرفة المحاذية وهكذا دواليك ...
تقدمت صديقتي التي وجدوها جثة في مرحاض عمومي ، عاشقة غيفارا والقيثارة ،
رضعت من الحلمة السابعة وتحولت إلى شرطية مرور ، لائبة أخذت تصفر في
الإتجاهات ، لفظها باب الغرفة إلى الخارج وهي تتمشى في إيقاع ضالع في
التناسق صوب رأس الشارع ...
تقدم صديقي الشاعر الذي ألقى بجسده من الطابق السابع ورضع من الحلمة الثامنة وتحول إلى مروض ثعابين بجامع الفنا بمراكش ...
تقدم أستاذ الفلسفة الذي داهمه البوليس على إثر وشاية لم تكن باطلة في سرير
مع زوجة أستاذ الشريعة الإسلامية ورضع من الحلمة التاسعة وتحول إلى صاحب
مركب صغير حقير في نهر دجلة يهرق (البستات ) من حنجرته الملوثة بالدخان ...
تقدم المعلم الذي ألم به الجنون الشتائي وجاء إلى تلاميذه الهلعين عاريا
ذات صباح مثخن بالصقيع ورضع من الحلمة العاشرة وتحول إلى بومة حلقت توا إلى
أقرب جدار برتغالي ...
وتقدمت شخوص لاداعي لذكرها الآن ... إلى أن جاء دوري لأرضع من الحلمة
الأخيرة أي رقم 19 ، وما أن أجهزت عليها بشفتي الممسوستين حتى ألفتيني أرضع
نهد صديقتي عازفة البيانو ...
واستفقت على صيحة حادة من صيحات ماريا كالاس وأنا لاأعرف كيف تحولت المغنية
الكردية تارا جاف التي بطش صوتها بيقظتي فنمت كما جندي بعد معركة طاحنة في
حانة طبعا وليس في ساحة حرب ومسخت لتصير ماريا كالاس ...
كيف لم يستطع منطق وضيع الى الآن أن يبطل آلة جنوني . ما من سبيل إلى حياة
لاتؤتى إلا بالحماقة . كل أوهام هذه الجغرافيا الفاحشة لم تجد لها من مأوى
وارف وأثير إلا في جمجمتي . هذه التي سيشرب الشيطان فيها كأسه الأخيرة قبل
أن تصعد كتابة جينيريك العالم . وإن كانت تصلح لتصفر فيها رياح الجنوب على
كثيب رمل - منتصب كردف إحدى نساء الفنان الكولمبي المولوع بالسمنة فرناندو
بوتيرو - رصدت الأمة منه هزائمها الشعثاء وعندها ستكون ملاذا لخنافس تتواشج
فيما بينها لشن غزوة صيف على واحة منذورة لمكر السراب ...
آلاف السجائر تحترق في فمي . الأفكار المنبوذة التي لا مكان لها في مدن
البشر لها حظ جسامة مع كأسي . حتى لاأقول رأسي . ها هي ذي تقهقه كسمك أزرق
وحشي في بركة من برك خيالي الفاسد . خيالي الأفّاق هذا الذي يمتهن حفر
القبور بفأس مثلومة . من زمن سحيق تصيدتني البشاعة في هذه المدينة التي
استمنى فوقها الشيطان وتبرأ منها الله فسقطت من حساباته العميقة . ليس في
وسع هذه الرئة إلا مصادقة هواء الخرائب . دعنا من حفر القبور والشيطان
والله وهواء الخرائب . ولنرجع الى ما يمكن أن نستسيغه عن صدق بمحض افتراء .
أو أن نستطعمه عن افتراء بمحض صدق أنه حدث البارحة فقط :
كنت قد عزمت على أن أصطاد السمك الأزرق من النهر الذي يشطر المدينة الى
نصفين ... هذا السمك الوحشي النادر الذي يقهقه كل ليلة في بركة خيالي
الفاسدة ... لما لاأنتهز حماقة اليوم ليكون أبيض بدون تدخين ولاشرب ولا
قراءة حتى ؟ هكذا تغاضيت عن وضع علبة السجائر في كيس أغراضي الجلدي – هل من
الضروري أن أعترف بأنني اشتريته من لص شارعنا الدموي أيضا وهو لسائح
ألماني مهووس بالفوتوغرافيا يعد معرضا لوجوه نساء من شتى البلدان؟ - وبعد
أن رتبت الصنارة والقصبة وما يلزم للمجازفة كيفما اتفق طبعا لأنني صياد
فاشل ، خرجت بسيارتي إلى ضاحية المدينة وركنتها تماما على ضفة النهر - الذي
لايشبه في شيء لا دجلة ولاالفرات ولا أم الربيع – مضى وقت عسير وأنا أرصص
وأصفف وأركب وأوالف وأنسق وأدير وأرغي وأزبد وأغني وأرقص وألعن وأبصق
وأتأفف وأضحك وأغضب وأغتم وأصرخ وأقفز إلى أن أفلحت وبصعوبة في نصب قصبة
الصنارة والإلقاء بالشص مع قطعة الفلين الى إهليلج المياه – هل من المفيد
أيضا أن أبوح بأنني اقتنيتها من لص شارعنا دائما ؟ هي لسائح هولندي مهووس
برسم بورتريهات النساء العاريات - ورميت بجثماني على الكرسي المخطوط
بالأحمر الدامغ - هذا اللون القاني الذي يذكرني بدم مجازر الأضحية الفواح
المشرشر في كل أزقة المدينة والبلد – و أنا أدلق أنفاسي وأتأمل كيف تتواشج
الغيوم فوقي في إيهامي برسم لوحات سريالية ودادائية وتكعيبية و أتساءل
لماذا تصر هذه الغيمات الداعرات على أن تكشف لي أردافها كلما نظرت إليها .
غمزت الصنارة ورقصت قطعة الفلين النزقة كما عين إباحية رماشة و ابتهج شيء
لعين كالضفادع بداخلي التي أخذت تنق بشبق ... قفزت كما يجدر بصياد محترف
صارم على أهبة تدشين اليوم بسمكة بكر وما ألهب هذا الجشع المسرف لي هو
الثقل الواضح الذي جعل متن القصبة ينحني الى أقصاه مثل رجل هرم مقوس الظهر
على مشارف أن يبوس الأرض وبحركة جزافية رفعت إلى أعلى وكانت خيبتي ضارية إذ
أن سلحفاة بليدة أخذت تتأرجح في الشص وهي تلوح بأطرافها كما زوجة بكماء من
وراء زجاج . بجسامة العناء خلصتها وكدت أقذفها كما كرة إلى غيهب النهر
لولا أن أشرق وجه أمي وانتزعت مني تعاطفا مهترئا ذكرني بشقاوة الطفولة
وخطابها الطاعن في شفق الرحمة . فجعلتها على رمل وحشائش تتدبر أمر عودتها
الملكية إلى قلعة السلاحف المجيدة . ألقيت بالشص من جديد وأنا أشتم ربها
وألعنني من معتوه صدق بلاهة ترك التدخين كيف لايدخن من يدشن نهاره بسلحفاة
... التفت إلى يميني مستشعرا وجود كائن يتقاسم معي كينونة اللحظة واسترعى
يقظة غرابتي التي اتسعت للأقصى مشهد صياد أشقر أشعث يدخن ويقرأ ... أدهشني
كيف حل بالمكان ومتى وكيف لم أنتبه إلى ذلك . كل تلك الإستفسارات الواطئة
تبخرت أمام رغبتي المتوقدة ، الشرهة ، في تدخين سيجارة ولتوه ودون وازع
تردد تقدمت نحوه من أجل الحصول على سيجارة . وقفت على تخوم ظله وبادرني
بالكلام قبل أن ألقي عليه التحية .
- مصادفة غريبة أن يكون بطل هذه القصة ، قد دشن يومه باصطياد سلحفاة أيضا!!
وكان يعني الكتاب الرمادي الذي بين يديه .. رسمت ابتسامة سمجة وأنا ألفظ
جملة لم أفكر فيها حتى ، لأن رغبتي محمومة في تدخين سيجارة لاغير :
- السلحفاة أرحم من أن تدق باب صباحك قحبة فظة ومملة ...
أردفت الجملة بكلام لبق يليق بطلب سيجارة مشتهاة جدا . مدني بها وابتسامته
العريضة تكاد تأكل كل وجهه . أضرمتها وسحبت نفسا عميقا أعاد إلى غابة
شراييني ابتهاج السديم . عندها انقشع الضباب عن عيني فاسترعى انتباهي أكثر
أن عنوان القصة هو ( مسودة مسودنين ) وهو يضع سطرا بقلم رصاص في الصفحة 19
تماما تحت كلمة حذاء رياضي . وكان يحدق في وجهي بعينين فوسفوريتين ، يتدلى
من أذنه اليسرى قرط على شكل أفعى رقطاء وقرط آخر يعزز وجهه مغروز في أنفه
الأفطس . انسحبت إلى مكاني وقد أمدني بكل العلبة لأنه يمتلك أخرى بينما
حيرة عاتية توخزني محاولا تذكر هذا الوجه الفواح برائحة مألوفة عندي ...
جيد أننا ندخن نفس نوعية السجائر ولا داعي أيضا لذكر إسمها نكاية بأرباب
شركتها الفاحشي الثراء . أشعلت ثانية وثالثة و .. سابعة وأنا أشيع فكرة
الإنقطاع عنها والى الأبد . غمزت الصنارة من جديد وكان هناك ثقل غريب يموج
ويتأرجح بالفلينة إلى أسفل . لم أقفز كما المرة الأولى ورفعتها ببرود
فأثارني جدا أن الغنيمة كانت حذاء رياضيا أخذ يترنح بدوره فيها ومطبوع على
دائرة صفراء في أعلاه رقم 19 . أيعقل أن يكون هذا السيناريو مجرد مصادفة ؟
التفت لأتبين ضحكته الشاسعة الشامتة بي . ولم أجد له أثر ظل في المكان .
اختفى بطريقة مشبوهة كما حل من قليل . دخنت الثامنة والتاسعة والعاشرة ..
كانت هناك جريدة تتقاذفها الريح العانس من مكانه باتجاهي . ستكون الرمية
الثالثة والأخيرة في حياتي كصياد أبله هتفت لنفسي الأمارة بالشك و أنا ألقي
بالشص هذه المرة كما جمرة . تفحصت الجريدة التي صارت لصيقة بقدمي وكانت كل
كتابتها متآكلة بسبب لطخات زيت أو بنزين . إلا صفحة سالمة في آخرها وكانت
ركنا خاصا بالقصة القصيرة . وكانت تقويضا لنص تحت عنوان خمس مذكرات زرقاء
تبحث عن روائي لكاتب مجهول. نطقت العنوان مرات ومرات محاولا تذكر تفاصيل
قراءتها الأولى من زمن و فشلت في ذلك . حاولت أن أقطع صفحتها وطويتها
بعناية ووضعتها في جيب سترتي . عندها غمزت الصنارة من جديد . سحقت عقب
السيجارة تحت قدمي ورفعت الصنارة الى أعلى ساحبا إلي الشص وكان كيسا أسود
هذه المرة ، فككت عقدته الشائكة وأصابني فزع حاد جعلني أصرخ وأرتمي إلى
الوراء . كانت يد امرأة مبتورة وفي أحد أصابعها الطويلة الرشيقة خاتم تلتمع
فيه لؤلؤة زرقاء ... يشبه إلى حد بعيد خاتم صديقتي عازفة البيانو . بحركات
راعشة ولاهثة خلصت الخاتم من الأصبع وأرجعت اليد إلى الكيس وألقيت به إلى
غيابة النهر ... ألقيت بصنارة الهولندي المهووس ببورتريهات النساء العاريات
أيضا وأنا على يقين مطلق من أنه اليوم الأخير في تجربة هذه الهواية
الموحشة . هرعت إلى السيارة وانطلقت بسرعة مجنونة مقفلا إلى شقتي هذه.
حين فتحت بابي شعرت بأني في زمكاني. الخاص بي ولايشاركني أحد فيه. وشأن
ضحية من ضحايا التنويم المغناطيسي توجهتُ من دون إرادة إلى الفراش وقبل ذلك
وضعت الخاتم في فنجان تجمدت فيه أكثر من قطرة دم صفدت من بكارات مخرومة
وآخرها كان من فتاة نزل العجزة ، فستقية العينين ، ادخرته لأيام وأسابيع في
ثلاجة كي أكتب به الكلمة الأولى لأجمل وأفظع القصائد على الإطلاق وصار على
تلك الحال باهمال مني . كل حياتي يزحف فيها برص الإهمال . شبح اليد
المبتورة ظل يطاردني ويستبد بصفو لحظتي زرعت يدي في بطن الساعة ونزعت
عقربها الواطئ . مثل إبرة كانت تحرث دماغي في معتقل سري .
/كم من بظر امرأة تحتاج هذه المقلاة لطبخ أومليت بخصيتي ؟!/
يد المرأة المبتورة تسدل الستائر الآن وتشحذ السكين على حجر تيمم مع مياه
المرحاض . تعريني في السرير الوضيع وتربط أطرافي إلى مسامير دقت كما يليق
بمحفل شهواني مميت . كممت فمي وبنصل السكين شرعت في جرح شفتي السفلى ورسمت
خريطة مدينتي الأولى على صدري . أجهزتْ على قضيبي وأيقظتْ أحواله . عندما
انتصب كما صارية سفينة لقراصنة أوغاد على أهبة غرق أكيد ، جاءت بالفنجان
وأخرجت الخاتم . سكبت دم البكارات المغدور ودهنت تحجره الفظ . وبدل أن تجزه
بالسكين أولجتْه في خرم الخاتم وكان ألم ألف قرن يعتصرني . كما دخول جمل
في ثقب باب وجدتني أصرخ بشكل حاد ، أركض في زقاق ضيق كما شرج . إنه نفس
الزقاق الذي يشبه نفق ارنستو ساباتو الذي حاولت أن أشرب فيه ذات ظهيرة
قائظة من خابية تحت دالية على سفح بيت الجميلات النائمات وأمسكت بالقدح
الفواح بالقطران ونزعت غطاءها كما ينزع حطاب حقير رأس بلوطة وصعقني ما رأيت
... كان رأس امرأة يخضب المياه الضئيلة في قاع الخابية . وفيما بعد كشفت
التحريات أنها فتاة كونطوار / حانة " باب البحر" وقاتلها كان كاتب قصة
قصيرة مغمور لم يعثروا له على أثر إلى الآن وكانت تتردد على غرفته في
الأسبوع الأخير من تداعيات حتفها الشنيع على سطح بناية من سبع طوابق . وقد
استند محضر الجريمة إلى معطيات ضبابية في مسودة قصة قصيرة وجدوها على مائدة
إفطاره موقعة بجماعة غريبة تسمى ضد المانيفست ،و معها سكين مضرج بدمها ...
استيقظت وأنا أغني بلغة غير مفهومة. اللحن أتذكره. حزين وطويل. كيف يغني من
استيقظ من سيناريو كابوس ؟ ربما كانت من لغات الأرض. ربما حصل اتصال مع
جهة ما من الكون ، ربما جرى تشغيل أحد أجزاء دماغي العاطلة. كانت غبطة من
النوع الغريب ، أبدا لم تكن هي غبطتنا البشرية المعهودة بل مليئة بحزن
مجهول الباعث. لا أعتقد بأن الحمى دفعتني إلى ذاك الغناء. كانت الحرارة
طبيعية. أعترف بأني أخذت أقيس حرارتي من حين إلى آخر وخاصة عندما تداهمني
الهلوسات والكوابيس. وإذا سمحتم لابد من تذكيركم بأولى الحقائق التي تشوهها
جهتان – الإيمان والعلم : الإنسان لايعرف من هو ، بل لايعرف كل شيء عن
كيانه المادي.
كسرت سيجارة ودخنت نصفها. بتبغ النصف الآخر حشوت سرتي وأوقدت النار فيه .
تلك كانت تسلية عازفة البيانو . التقينا أول مرة على هامش صدفة نادرة
الحدوث في مصعد مبنى وزاري أصابه عطب وكنا لوحدينا معلقين في فضاء أحد
الطوابق العلوية . لم نعلق بالكلام على الخلل كما يجدر بخطب اللحظة تلك .
وكانت الأنفاس مندلعة ووحشية بين رجل وامرأة يكتشفان بعضهما بعضا كما لو في
كهف من عصر الديناصورات . ضاجعتها في تنورتها الليلكية قبل أن أعرف من هي .
قبل أن تعرف من أنا . ودام عطب المصعد ساعات ثلاث ودقائق معدودة . وكان ما
اقترفناه أجمل ما يمكن أن نفعله نكاية بأحد رموز الدولة السيادية .
المجنونة ، كانت بدون تبان . امرأة ملوثة بغموض المنافي . كما شفرة تخفي
شمس المدن الصقيعية تحت لسانها . في عينيها تتربص النمور وتتوعد كل نظرة
ببرق مخلب سافر . أتلمس الآن لؤلؤة الخاتم الأزرق بعد أن فصلتها عن دم
الفنجان اليابس . أجس رائحة يدها . يدها التي كلما عزفت على البيانو إلا
وأجهشت الحيطان بأعشاب ونباتات زاحفة بكل الاتجاهات . ما من لوحة لاتسكب
ألوانها وتمتشق عري البياض . ما من ضوء مصباح لايتقيأ خفافيشه وطيورعتماته
الجارحة . ما من مقبرة لاترشق سطوح الأحياء بعظام موتاها ...
أيعقل أن تكون هذه اليد المسكونة بقلق الأبدية هي نفسها التي كشفت عنها مصادفة الصنارة المبتذلة في حادثة النهر السافل ؟
آخر ليلة معها كانت في شرفة شقتها المطلة على مسرح : المسرنمون . بدأنا
بشرب الفودكا على متن البيانو الذي بدا شاسعا كما ظهر بارجة حربية . وقررنا
أن نقتحم المسرح تحت سطوة وتموجات سكر ماجن مع الثالثة صباحا . الممسوسة
كانت تمتلك نسخة من المفاتيح . لم تدع لي برهة كي أسألها كيف حصلت عليها
هذه الجامحة كما قصيدة يلهث وراءها شعراء الكوكب على فراسخ مائة قرن ولا
يطالون زغب كلماتها ... أضاءت الركح وأسقطت الفستان الأحمر عن صرح جسدها
الممتنع عن الانكشاف الصارخ في صورة أحادية ، كما لو يسقط ثوري ستارة عن
نصب حرية جديد . وكانت بلاتبان كالعادة . ركضت على الخشبة حافية كما لو على
رمل شاطئ وارف تصهل فيه خيول التتار . طلبت مني الصعود إلى غرفة الإنارة
كي أدلق حزم الضوء على كتلة بياضها المشبوبة . انخرطت في هذيان محبوك
الإشارات ، دامغ الإثارة ، صاعق الدهشة ، شاسع الإغراء وهي تتمرغ بألوان
الخيوط التي أرسلها عبر مقصورة السينوغرافيا . أطارد بها انفلات لوحاتها
المأهولة بشبق الأقاصي . وكانت مثل زلزال يرقص على أطراف أنامله . الزلزال
الذي يتمشى على خيوط الكمنجات . ولفظنا بعدئد غسق الليلة إلى ضفة بحر غير
محروسة . مشتبكان على ضلالة ثمل نهتدي بنار صغيرة أضرمناها في حطب مركب
مهشم . أقفلنا إلى سرير شقتي هذه الذي يشبه تابوتا وغفونا مثل كائنين
طرواديين عادا لتوهما من أتون بطش رحلة هوميرية . ولما استفقت مع ساعة
متاخمة لحدود الظهيرة ، على غير عادتي ، لم أجدها في ريش تابوتي الحجلي .
غادرت الشقة وقد تركت لي رسالة على المرآة . ألصقتها بلهاث يخضب صفحتها
القرمزية وفيها كتبت لي :