المعقول واللامعقول عند جوليان فروند المعقول واللامعقول عند جوليان فروند
تقديم وترجمة زهير الخويلدي
"إن
الكثير من الازدراءات تصدر عن السفاهة المنتشرة جدا حتى داخل الأوساط
العلمية والتي تتمثل في النظر إلى الفكر على أنه مأوى المعقول والى الفعل
على أنه مأوى اللامعقول. بينما اللاعقلانية هي أيضا تجري في هذه الدائرة
وتلك..." جوليان فروند[1] تقديم:
أصبحت
صفة اللامعقول تهمة تستعمل في الصراع الإيديولوجي بين الأفراد وتلصق بها
جميع الصفات السلبية ولذلك وظفت كمطية للإقصاء والتهميش الذي يتعرض له
المناوئين والمنتقدين والمخالفين، أما كلمة المعقول فهي ترمز إلى الواقعي
والحقيقي والمنطقي والموضوعي وترتبط بالعلم والمعرفة المنظمة وتحوز على قدر
كبير من القيمة الإبستيمولوجية والصلاحية الأكسيولوجية. غير أن المعضلة لا
تكمن في الحدين كل على جهة بل في تحديد المعايير التي بواسطتها يتم
التمييز بين الطرفين ورسم الخطوط التي تفرق بين مجال الخيال والظن والعبث
والوهم والفانتازيا ومجال التطابق والوحدة والكلي والحق والنظام. فهل تكفي
لام النفي لنجزم بوجود تنافر بين المعقول واللامعقول؟ والى أي مدى يتقدم
الفكر العقلاني بتحطيم الفكر اللاعقلاني؟ أليست الفلسفة هي حركة استكشاف
متواصلة للمناطق التي لم تصلها تجربة العقلنة بعد والتي مازلنا نسميها
إلى حد الآن أرض اللامعقول مثل الأسطورة والدين والتصوف؟ ألا تحتوي هذه
الدوائر على قدر مخصوص من العقلانية مايزال مطمورا في رمزيتها ومنطقها
الفريد؟ فهل يمكن أن نعتبر اللامعقول هو الآخر الذي ينهل منه المعقول ويمثل
شرط امكانه؟
يحاول جوليان فروند في هذا النص المقتطف من كتابه الفلسفة الفلسفية أن يجيب عن هذه الاستفسارات.
النص المترجم:
"على
ضوء هذه الاعتبارات نكون قد تسلحنا نسبيا بغية تقييم طبيعة العقل ومناقشة
التعارض بين المعقول واللامعقول. إذ منذ اللحظة التي يكون فيها العقل ملكة
معرفية فإنه يقطن الإنسان من حيث هو موهوب بالقدرة على المعرفة ولا أن يعرف
حقيقة الموضوع ، والحق أن المشكل يتعقد عندما يكون موضوع المعرفة هو
الإنسان نفسه بوصفه ذات عارفة. بعبارة أخرى لا يكون العالم مفكر فيه إلا
إذا كنا نحن الذين فكرنا فيه. فهل سيصبح هو على هذا النحو؟ نحن لا نعرف عنه
شيئا. وكل ما نقدر على معرفته هو أنه من الممكن جعله شيئا معقولا. وهذا هو
أس العقل. فهو ليس البتة في متناول الوعي البسيط، من حيث أن هذا الأخير
يتمثل في الإحساس الغامض على الأرجح بأن يكون حاضرا إلينا قبالة ما يجري في
الواقع بالمعنى الذي يكون فيه إدراكنا مغمورا بالذكريات والانتظار.
إن العقل على العكس هو البعد النشيط الذي يحاول أن ينظم ويوجه الوعي الذي يخصنا وذلك بإنشاء الانسجام في أفكارنا والتساوق
في حركاتنا. هكذا يكون حركة عقلانية للفهم أو التفسير وتحكم معقول في
الوجهة. وماهو جوهري ليس أن يكون التموضع في العلاقة أمر صحيحا بل أن
الوجود يبذل الجهد من أجل بلورة علاقات مقصدها التوجيه نظريا وعمليا. إن
المعقول يتمثل إذن في تطبيق الفكر من أجل تحقيق الانسجام الداخلي بكل
المقاييس الممكنة بين الفكر والتنوع المجهول للواقع. ببدو أنه من غير
المتاح الحصول على توافق وتطابق فعليين بين الفكر والواقع لما نفترض مسافة
لامنقاسة بين مفاهيمنا المتناهية (آلات ذهنية للتوافق) والانبثاقprofusion المجهول للواقع.
على خلاف ذلك يتعلق الأمر بمجهود لا يكتمل أبدا ويظل محل إعادة دائما بسبب
الحركات والتدخلات ذاتها للناس في مجرى الأشياء والمفاجئات السعيدة أو
الكارثية التي تحدث باستمرار في الحياة التلقائية والظواهر الطبيعية.
يتمثل
المعقول في المساءلة المستمرة للتوجيه الذي يخصنا بغية مصالحة اهتمامنا
بالاكتشافات التي يتم إنتاجها. عندئذ ثمة أخطاء دائما ممكنة في القيادة.
إذا كان الانسجام في أحكامنا والتساوق في حركاتنا غير معطيين على الإطلاق
بل هما أثر الوعي المنظم بواسطة العقل – وهذا هو ما نسميه الروح- فإننا لا نقدر على فرضه بشكل عابر من الخارج، وعلى سبيل المثال رسم فصل جذري بين المعارف طالما أن الحدود تكون
داخلية بالنسبة إلى حركة المعرفة ذاتها. ويتمثل خطأ المذهب العقلاني من
حيث هو خليط بين المذهب العلمي والمذهب الأخلاقي في أنه يعتقد أن الحد ليس
داخليا بل خارجيا ، بحيث يكفي بلوغ العلم والأخلاق مختلف الأنشطة السياسية
والدينية والقضائية وغيرها حتى
نجعل منها أنشطة عقلانية وتبعا لذلك نجعل عقلانيا كل ماهو واقعي. بيد أن
العقلاني ليس محدودا في العلم وحده لأن التجربة والتراث والحكمة تتضمن
مجهودا في العقلنة بنفس عنوان التوقع واليوتوبيا أو الاستشراف.
إن
منظري الفهم في العلوم الإنسانية يعتبرون هذه الأخيرة منهجا عقلانيا في
التوضيح بنفس العنوان الذي للتفسير السببي. انه ليس البتة لاعقلانيا أو يجب
إذن أن نسحب من فيبر وسيمل صفة الباحيثين العلميين. إن الفهم هو حركة من
العقل في خدمة المعرفة العالية وأيضا مساير بأكبر قدر ممكن مع الواقع.
على
هذا النحو لقد كان فهم العقلانية على أنها منتوج العقل التنظيمي بغية جعل
الواقع معقولا شغل الأساطير والسحر والكونيات والأمثولات مثل أمثولة الكهف
لأفلاطون وفي الشعر وفي التصوف. إن العقل يبذل بتعتعة أو بأخرى مجهودا في
كل هذه الحالات بغية انجاز تماسك في الواقع المعطى.
من
هذا المنظور تظل الفيثاغورية نموذجية بالنسبة لكل التاريخ اللاحق للفكر
البشري بما أنها قد جمعت في أفكارها توضيح العالم بأكثر صرامة ممكنة بفضل
العدد والحساب والاعتراف بالسر الذي تم إعطاؤه من طرف التصوف الصوتي.
أيضا
ربما ارتكبت العقلانية الحديثة خطآ مزدوجا عندما شبهت اللااختزالية
المرتبطة بالمعرفة باللاعقلانية التي تعشش في الواقع، من جهة أخرى لقد
أرادت تطهير العقل من الإثم الذي تسببت فيه كل من الأساطير والأديان. إن
العقلانية ليست واحدية ولا متجانسة لأنها تتضمن درجات. لقد قلنا سلفا أن
العلم وبأكثر تحديد الرياضيات تشكل الصورة الأكثر جلاء للعقلانية، والعلوم
الإنسانية تضل في مرحلة متأخرة لكن دون أن تفقد الصواب بالرغم من ذلك،
وتحوز الأساطير والأديان والشعر على درجات أقل بالمقارنة مع كل عقلانية
علمية دون أن تكون أدنى مشروعية بالنظر إلى صنع العقل.
منذ
اللحظة التي تكون فيها العقلانية متداخلة مع المعرفة فإن اللامعقول يتكون
أيضا. انه يدل على التنافس بين مختلف أشكال المعرفة والمجالات التي تطبق
فيها، وكل واحدة تهتم باللامعقوليات التي تقاوم إرادتها المهيمنة. إن
الكثير من الازدراءات تصدر عن السفاهة المنتشرة جدا حتى داخل الأوساط
العلمية والتي تتمثل في النظر إلى الفكر على أنه مأوى المعقول والى الفعل
على أنه مأوى اللامعقول. بينما اللاعقلانية هي أيضا تجري في هذه الدائرة
وتلك، إذا ما اعتبرناها الفكر الإيديولوجي والتصديق الحزبي والتأملات
الاعتقادية.
ثمة
العديد من المفكرين الذين يشعرون بعمق بتخوفات لامعقولة أكثر من الحكمة
اليقظة عند العامة. من وجهة نظر سوسيولوجيا المفاهيم لا يمكننا أن نتحدث عن
الصدفة إذا كان اللفظ لامعقول قد أصبح دارجا في عصر انتشار العقلانية
الحديثة. لقد وجدت دلالة خلافية تقلل من الثقة تحت سياق الظلامية،وان أشكال
المعرفة هي التي قد تقاوم إرادتها التسلطية.
إن
ما تسعى العقلانية للدفاع عليه ليس العقل بل مفهوم خصوصي له طابع علمي
وأخلاقي ، كما لو أن الأخلاق ، إذا ما تمكنا من تأسيسها علميا،تم استدعاؤها
لكي توجه كل النشاطات البشرية الأخرى بالنظر إلى نوعية الهدف النبيل
والحصة من العقل اللتان تتضمنهما. لو ننظر من زاوية العقلانية الحديثة فإن
الجمل التي أنا بصدد كتابتها تشكل تقريظا للامعقول. لكن المذهب العقلاني
ليس البتة معفى من اللامعقول، بمعنى أنه هو نفسه التي جعله يندفع بقوة.
مرة أخرى يجب العودة إلى كانط بوصفه
قد مثل المثبت الأساسي للأسكاتولوجيا الحديثة تحت مصطلح مملكة الغايات
المستقلة عن التبعية التي قد تنتجها التجربة في الأخلاق وبحرمان العقل
العملي من امتيازه في السلطة التشريعية الكونية. بما أن الإنسانية لم تتمكن
من تحقيق أهدافها فإنها يمكن أن تسمى إنسانية متحضرة وفق التمييز الذي
تنجزه فكرة التاريخ الكوني الا أنها ليست إنسانية متخلقة. وتبعا لذلك لا
نستكمل الأخلاق الآن وهنا عن طريق استقامة سلوكنا الخاص باحترام القواعد
والعادات ، وإنما بالبحث عن تحقيق مملكة الغايات في المستقبل غير المحدد.
إن
المذهب العقلاني مابعد الكانطي قد حول أيضا الأخلاقية برمتها عبر هذا
الإسقاط لمملكة الغايات، ولما أصبحت التنظيمات السياسية والثقافية تطمح إلى
احتكار الكرامة الأخلاقية في السياق الذي يجعلها في خدمة التحرر الشامل
والمساواة التامة والعدل التكاملي والسلم الدائم والسعادة الفردية
والجماعية المحصلة. ماهو هام على الأقل هو أن تكون الأفعال التجريبية التي
ترنو إليها خائرة القوى ومغشوشة ومنافقة وغير نزيهة أو حتى ماكرة بشكل
صريح، ومنذ اللحظة التي تعلن فيها بصريحات الكلام عن غاياتها الحميمة فإنها
تكون أفعالا أخلاقية إلى أقصى نقطة. أفلا يتعلق الأمر بلاعقلانية معينة تسخر من التوافق العقلاني للمعنى المنتشر عبر الكلمات وتساوق الحركات؟
لنعود
إلى الوجه المزدوج للعقلانية: الأول نظري ويتمثل في انسجام الأفكار والآخر
عملي ويتمثل في تساوق الحركات. في الحالة الأولى نكون مهتمين بما نسميه
عموما المنطق، منطق الحساب ومنطق اللغة أو منطق الخطاب. في موضع يفيد اللفظ
الإغريقي لوغوس في الآن نفسه العقل والحساب والخطاب. كل منطق يفترض لغة
وهذا ما يدل على كلمات منظمة في خطاب أو أيضا على نداء تربوي قد لا يتقيد
بتفضيل صوت أو صرخات متقطعة وإنما يمفصل ما يريد لأن يعبر عنه وفق ترتيب.
إن
الوظيفة الأساسية للكلام هي تسمية الأشياء بواسطة الرموز (الأعداد
والكلمات أو الرسوم)، المعرفة من قيل الآخرين بوصفها تشير إلى سمات عديدة
من الواقع. هذا التعيين هو بلا ريب جائز في المنطلق ولكن الاعتراف من طرف
الآخرين للدلالة المقررة في الرموز يسهل ليس فقط التواصل بين الكائنات، بل
وأيضا يشيد الترتيب الذي يتعالى الجواز الأصلي. إن الاعتراف هو فلسفيا سلاح
ضد الجواز. إن أرسطو لم يقم سوى صورنة مبادئ انسجام الخطاب المتبلور سلفا
بشكل مستقل عن تنوع اللغات ، حيث هذبها المناطقة فيما بعد أو فرقوا بدقة
بينها. انه بهذا المعنى قد تحدث ديكارت عن المنطق بوصفه فن في حسن قيادة
العقل الخاص به". ولم يكف هوبس عن تكرار ذلك. وبالفعل فإن العقل واللغة
كذلك هما متشاركان من حيث الجوهر. إن الوعي ليس إذن عقلا في حد ذاته بل انه
يصبح كذلك من حيث هو وعي متكلم ومنظم في لسان.
من
هذا المنظور إن اللامعقول هو اللامنطقي الذي يهين عقلانية اللسان الدارج.
لكن إننا لا نستطيع أن نؤول هذه الملاحظات في معنى اسماني،نظر لأن الألفاظ
تعود في كل مرة إلى الوقائع الجزئية التي تعينها، وأيضا بإجراء تمييزات بين
الأشياء التي هي أيضا تمييزات في الأفكار والمفاهيم. إن فكرة ما أو مفهوم
غير مترجم إلى لفظ ينقطعان عن أن يصيرا وظيفيان بشكل عقلي. لقد أصبح المنطق
بواسطة قوة الأشياء سلطة في التواصل العقلاني وآلة موجهة نحو إفحام
الآخرين، ولكن ذلك متوقف على الصرامة التي يتضمنها في مبادئه التكوينية.
إذا
كان العقل غير مفصول عن اللسان فإنه ليس في خدمة المنطق بل إن هذا الأخير
ليس سوى الدرجة العليا للانسجام العقلاني ولكن مقطوع عن الفاعلية
والتأثرية. وعندما أصبح آلة لفن الإفحام فإن الانسجام الذي كونه قد صار في
خدمة العلاقات المختلفة بين الناس بغية إمدادهم بمسحة من العقلانية. انه من
البديهي أن علاقات أخرى قد وجدت قبل بلورة المنطق في صورة السفسطة والجدل
وأساليب أخرى من الإقناع. بعبارة أخرى لقد وقع استعادة العقلانية المنطقية
عن طريق أنشطة متنوعة من أجل استخدامها كضمان.
لقد
وقع تنويع المنطق العام إلى منطقيات جزئية بغية إعطاء انسجام ظاهري في
الغالب إلى الخطابات التي ينتجها الفاعلون في الأنشطة البشرية المتنوعة.
انه بهذا المعنى نتكلم عن المنطق في الخطاب السياسي والاقتصادي أو أيضا في
التاريخ أو أيضا عن منطق التبادل ومنطق الهيمنة ومنطق الهيئة.
بيد
أن كل إبداع هو تحطيمي لترتيب وفي نفس الوقت انه يشيد لترتيب آخر. إن
عبقرية ماكيافيلي تجعلنا نفهم أن الإبداع يمكن أن يكون بشكل مقصود بدعة. ان
المنافقين يعترفون بنجاعة النفاق. لذلك ادمج العقل المنطق في حيله بفضل
تقنيات سميت نفسية حيث زادت القدرة الهائلة للميديات في نجاعتها. إن المبدأ
هو بسيط. بالنظر الى أن التضايف بين اللسان والفكر والى أن الخلط في
اللسان هو متضايف مع تيهان الروح فإن ما نسميه منذ اليوم معالجة الأرواح هو
واحدة من الطرق التي تشوه الدلالة الشائعة للكلمات بغية المزيد من ادخل
الاضطراب على منطق التناقض وتبعا لذلك على المقاومة التي تمنحها المنابع
المتنوعة للعقلانية، سواء تعلق الأمر بالتجربة أو بالتراث والنقد، بفضل
تراكم في المعلومات مراقبة تقريبا أو مراقبة، والتي هي في حد ذاتها وسيلة
غير معلمة وفي النهاية تدفع إلى التخلي عن القدرة على التمييز.إن العقلانية
هي مختنقة من عقلنة أداتية بشكل محض."[2] فماهو المنهج الذي ستستعمله هذه العقلنة؟ وهل يمكن اعتباره منهجا عقلانيا؟
المرجع:
Julien Freund, Philosophie philosophique, Editions la découverte, Paris, 1990.