عندما
اندلعت الثورات في بعض البلدان العربية, ثار سؤال عريض عن مستقبل الثقافة
العربية في ظل الثورات التي اندلعت في تونس ومصر وليبيا واليمن, وتخوف
البعض من انحسار النشاط الثقافي نظراً إلى أن المزاج العام بعيد عن موضوع
الثقافة, بل إن هناك مقولات ترددت عن انحسار دور المثقفين الذين ركنوا إلى
الظل أو انكشف دورهم, وأخرى دافعت عن المثقف بأن الثقافة نخبوية والثورات
جماهيرية, ولذلك فإن دوره فقط قبلي بالتنظير والتأسيس أو بعدي بالرصد
والتعليل. وهناك من كان متفائلاً بأن الثورات ستكون وقوداً للإبداع ومحرضاً
للمبدع, وأن المثقفين سيجدون في هذه المناخات الرحبة مادة ثقافية لا
نهائية, إذا أخذنا الثقافة بالمفهوم الشامل, حيث يعد المنجز الإبداعي أحد
تشكلاته, وأن الشعر والقصة والرواية من الثقافة وليست كل الثقافة.
إن
للثقافة أياً كان تعريفها قوانينها الخاصة بها التي لا ترتبط بالحدث
السياسي ارتباطاً وثيقاً, وإن كانت التحولات السياسية تؤثر في مسار الثقافة
صعوداً وهبوطاً مداً وجزراً, بل إن المنجز الإبداعي الذي يرتبط بالحدث
السياسي سيكون بطبيعة الحال أقل جمالية وأكثر مباشرة تبعاً للظرف الواقع
فيه والوظيفة التي يقوم بها والجمهور الذي يستهدفه. وإذا وضعنا الإبداع
جانباً فإن الحراك السياسي تبعه بالضرورة حراك فكري وثقافي وجعل الحوار
مفتوحاً على مصراعيه بين مختلف الأطياف وعلى جميع الأصعدة, فلم يعد حواراً
للنخب الفكرية وإنما شارك فيه السياسيون والمثقفون والاقتصاديون
والإعلاميون وشباب لم يسبق لهم أن خطوا بقلم في مجال سابق أو شاركوا في
موضوعات لم تكن متاحة للنقاش أو على الأقل لم تكن متاحة على النحو الذي
ظهرت فيه على مدى أكثر من عام في مختلف الوسائل الجماهيرية المتاحة من صحف
ومجلات وقنوات فضائية ووسائل إلكترونية وشبكات اجتماعية, كما أن أول ظاهرة
ثقافية برزت في هذه الفترة كانت في تغيير اتجاه الخطاب الثقافي من الرأسي
إلى الأفقي, فلم يعد الخطاب متجهاً من النخب إلى مستهلكي الثقافة وإنما
تحول إلى خطاب أفقي بين مختلف الشرائح, وأنزلت النخبة من عليائها لتشارك في
المجال الثقافي, ثم قامت بدور آخر في إلغاء مفهوم النخبة المنتجة والجمهور
المستهلك في أن المثقف أصبح منتجاً ومستهلكاً في الوقت نفسه والجمهور أصبح
بدوره مستهلكاً ومنتجاً وغابت بذلك الهالات التي كانت تحيط بالأبراج
العاجية. غير أن الأمور لم تستقر بعد والصورة لم تتضح بعد, وستسفر عما قريب
عن تشكلات جديدة للنخب التي لا تستغني عنها الثقافة لأنها لن تأخذ دور من
يحمل المشاعل وينير الدروب والدليل الذي يدل الحيارى على المسار الصحيح,
وإنما هي النخبة التي تثير الأسئلة وتتلمس الأجوبة وتضع يدها على مكامن
الداء والنذير الذي يحذر من مكامن الخطر.