قبة البيت الأبيض فوق قلعة البنتاغون…
مطاع صفديأمريكا أصبحت مجبرة على الاختيار فيما
يخص (عالم) الشرق الأوسط – حسب المصطلح الضيِّق المحبب لأمبريالية الغرب –
الاختيار بين سكان الشرق الأوسط الأصليين، والدخلاء عليه وعليهم. فالتغيير
الذي على أمريكا وأوروبا الإقرار على الأقل ببعض عناوينه الأولية
المتحصلة، هو أن هؤلاء السكان الأصليين لم يعد يمكن لأحد أن يحرمهم من
قراراتهم السياسية.
هل يمكن للأوبامايا أن تسترد بعض
مبادئها المتروكة وراءها في عتبة البيت الأبيض قبل دخول زعيمها إلى الأسر
الجديد. فتنظر بعين صحيحة، غير حولاء، إلى أن أممية جديدة صاعدة في أهم
تقاطع قاري أوراسي أفريقي معا، حول محور شرق العرب والاسلام. لقد تفاءل
ناخبو الأوبامايا خارج أمريكا، وقبل ناخبيها، أن الرئيس القادم من العالم
الثالث، يريد أن يحقق ديمقراطية التفاهم مع الآخرين. وقد حدث أن البعض
المهم من هؤلاء الآخرين، العرب والاسلام، لم ينتظروا طويلاً ترددات
الأوبامايا رئاسياً؛ بل إنهم كسروا سريعاً محرمات الخوف التي كانت تشل
إرادات قياداتهم. وها هم منتصبو القامات في عقر دارهم وما بين حدود
أوطانهم. لعلهم بلغوا سن الرشد. وعلى إمبراطورية الغرب أن تعترف بجبل
الأحرار الصاعدين، ومعهم ووراءهم مئات الملايين الذين كانوا أشباه أصفار في
أوطانهم، أو صحارى منافيهم بالأحرى.
المقاومون العرب والاسلاميون أصبحت
لهم كيانات دولانية كبيرة، ناهضة معهم وبهم. لن تستطيع أمريكا أن تستأنف
(حروبها الوقائية) المعهودة ضد العرب والفرس والترك دفعة واحدة، ولن تترك
أجيرتها إسرائيل ترتكب بالنيابة عنها قذارات إسرائيلية جديدة. فالسبيل
الوحيد هو الاعتراف باستقلال هذه الأمم مجدداً، والتعامل معها بما يليق
بسيادتها وكرامة شعوبها. ذلك موقف عقلاني قد يخامر مخيال الإمبراطورية، وهي
تعاني شيخوخة العجز عن ابتداع الحلول الممكنة إزاء تراكم مستحيلات
المشكلات النهائية التي تواجه الإمبراطوريات الآفلة في التاريخ.
ذلك أن سياسة البطش المطلقة، وزميلتها
الأكثر مدنية، سياسة العصا والجزرة، كلاهما عفت عليهما هزائم التجارب
الإمبراطورية الفاشلة، في أهم مجالات الصراعات الجيوسياسية التي خاضتها،
عندما كانت لها قيادة البوشية العمياء، وتحديداً في خطوط النار المشتعلة ما
بين أنحاء القارة العربية الاسلامية. لكن المستنقع الأفغاني شكل أخطر
وأصعب موروث، سوف تكابده الأوبامايا، ضداً على جوهر فلسفتها المتصوَّرة
المعتمدة على إلغاء قوة المدفع لصالح قوة المنطق أو الدبلوماسية. لكن تجربة
الحكم من قمة البيت الأبيض، أضعفت حتى الآن رهانات هذا الإلغاء. إذ يبدو
أن فرض خاتمة ما قبل أوانها على حرب بربرية، قد يؤجل هذه الخاتمة فعلياً
إلى أبعد مدى، كأنه يشعل حرباً أخرى، وذلك حسب رأي العسكرتاريا دائماً.
تتُهم الأوبامايا أنها أمست تقف شبه عاجزة
أمام (حروب) فلسطين والعراق وأفغانستان وتداعياتها القادمة، إذ ما دامت
أنها تفترض خاتمة لكل منها غير قابلة للتحقيق بالسهولة التي سجل الرئيس
عناوينها المتفائلة في بيانه الانتخابي. كانت الصدمة الأولى قد فاجأته إزاء
صهيونية نتانياهو الرافضة لأية تدابير دبلوماسية توحي بانتهاء الأزمة مع
ممثلي أو محتلّيْ سلطة رام الله. ثم تتابعت خيبات حلف الأطلسي في أية
مواجهة مع طالبان أفغانستان. فليس في أفق أمريكا ما يوهم على الأقل بانغلاق
حروب الإمبراطورية. هذه النتيجة الرمادية لحصيلة النهج الأوباماوي ينبغي
ألا تُفهم فقط على صعيد التجربة الخاصة بالعهد الرئاسي الأسمر الراهن؛ إنها
علامات المرض العضال الآخذ بتلابيب أمريكا نفسها، الناجم عن تراكم أعطال
نموذجها الأمبراطوري، المستنفذ لطاقات اندفاعه الأول، والمستعصي على أي
تغيير بنيوي في أساليبه التقليدية، المسؤولة عن مقدمات انهياره المحتوم.
هذا التحليل تؤكد مفاصلَه السلبية عقولٌ استراتيجية متزايدة يومياً في أهم
مراكز التفكير الأمريكية عينها.
سخرية القائد العسكري السابق للغزو
الأفغاني المتواصل(ما كريستال)، من رجال إدارة أوباما، ينبغي تفسيرها على
ضوء ذلك التحليل – الماكرو استراتيجي – إن صح التعبير. إنه يهزأ من تحديد
موعد انسحاب الجيش الأمريكي من أفغانستان خلال أعوامٍ قليلة. ليس ذلك لأن
المهلة المتبقية لإنجاز المهمة غير كافية، بل لأن فرض أو افتراض خاتمة لنوع
الحرب الجارية، هو جهل بطبيعة هذه الحرب، التي لن تعرف لها نهاية، ما دامت
غير محددة الأهداف، بحيث أن تحقيق كل غاية منها سوف يولِّد غايات أخرى لما
بعدها. تلك هي طبيعة الغزوات الإستعمارية منذ أن كانت.
هذه الحالة الشبيهة بالحلقة المفرغة،
ينطبق عليها المبدأ القائل أن آخر ضحايا الإمبراطورية هي ذاتها. ستكون ضحية
تجاربها الصاعدة الهابطة إلى مصيرها المشؤوم. فالتغيير الذي حلمت به
الأوبامايا في طور الترشح للرئاسة، إنما يأتي الإمبراطورية، وهي في سياق
استنفاذها لإرادة التغيير، وللحد الأدنى من القوى التي يحتاجها (رئيس ثوري)
من أجل الانخلاع عن طبيعة مبنية على صلف العدوان وحده، والإنطلاق نحو
طبيعة أخرى مضادة، ليس مؤهلاً لها من أصله، تلك المتمثلة في النقلة النوعية
– المستحيلة – من تقنية البربرية المطلقة إلى ثقافة المدنية الإنسية. ولعل
هذه الكلمات الكبيرة لم تعد قادرة على صناعة الأحداث الصغيرة البسيطة في
علم نشوء الإمبراطورية العظمى وانحلالها.
التحدي المحوري الذي تواجهه أمريكا في
العهد الأوباماوي يمكن تعيينه بتحدي خواتم الحروب، كيف يمكنها أن تجنّب
نفسَها هزائمَ جديدة عسكرية فاقتصادية، فحضارية شاملة، على ما هي حالها
راهنياً. في هذا الوضع الوسطي بين عصر بوشي مختص باختراع كوارث عبثية
لأهداف وهمية، وعصر أوباماوي بعده، مجبر على ابتداع خواتم حروب بوسائل حروب
أخرى لا فكاك منها، بحسب ما تمليه مسيرة الإمبراطورية ما بين عهودها
المختلفة، ودونما خروج حقيقي أو استثنائي من منطقها، في أيّ منها. فحين
يقرر سيد البيت الأبيض إبعاد أحد أهم وأذكى جنرالات البنتاغون عن قيادة
الغزو الأفغاني، فإنه يضطر إلى الاعتذار بتضحية القائد المميز بدلاً من
تغيير الاستراتيجية. ذلك أنه لا بد للقيادة السياسية أن تثبت سيادتها على
القيادة العسكرية في الدولة الديمقراطية. لكنه تسويغٌ دبلوماسي وليس
مبدئياً. في حين أن واقع الحال هو أنه على الإمبراطورية أن تضبط سلوك
عملائها الرئيسيين، حتى وإن كان لا خاتمة (نظرية) للحرب إلا بخاتمة
وقائعها.مع ادعائها اقتران الخاتمة بالنصر.ولو على ركام الهزائم المتتابعة.
فليست الاستحالة محصورة في تحصيل الحسم الانتصاري لأية غزوة إمبراطورية ضد
الشعوب الحرة، مهما كان مستوى ضعفها وتخلفها. إنها استحالة أن تتحرر
الإمبراطورية نفسها من الحرب، من توأمها العضوي، الذي يولد ويموت معها. فقد
يحدِّثُ التاريخُ عن انهيار أكبر إمبراطورية في عهده القديم، وهي روما
القيصرية، فلقد قضت عليها أخيراً فصول حربها المستديمة ضد برابرة الشمال،
أي القبائل الجرمانية آنذاك، المتواجدة على الحدود الشمالية لإيطاليا
القديمة. كان القيصر الفيلسوف (مارك أوريل)، وهو من أواخر قادة روما
المحاربين، يردد في مجالسه الفكرية الخاصة، أن مشكلة روما ليست في تحقيق
الانتصارات على أعدائها، بل في الانتصار على إرادة، بل طبيعة الحرب المؤسسة
لكينونة الإمبراطورية.
هل يكون أوباما القيصر قبل الأخير، أو
الأخيرين، القادر على إنقاذ أمريكا من مصير الإمبراطورية، بتحريرها من
حتمية حروبها. ولعله يعلم أن تغيير قادة الغزو، لن يبدّل من مسيرة الغزو
نحو الخاتمة المختلفة عن النتيجة البائسة المنتظرة. لكن المسألة الحقيقية
التي يشير إلى بعض ملامحها مثقفون متعاطفون مع الرئيس الأسمر، من حول البيت
الأبيض، هي في تصاعد الأزمة العامة، ذات العنوان الاقتصادي والمالي، إلى
مستوى الاستعصاء الأصعب، بحيث يمكن للرئاسة أن تطرح الاستراتيجية المحجوبة
والممنوعة حتى الآن، والتي قد تصدم الوسط السياسي التقليدي، لدى الحزبين
معاً الديمقراطي والجمهوري. ذلك أنها سوف تحمل مفاجأة القرار بفرض أية
خاتمة على دوغما الحرب، بصرف النظر عن أحادية المعيارية العسكرية في النصر
أو الهزيمة معاً. ذلك هو الطريق الأوحد لبطولة قيادية نادرة، كانت مأمولة
من الأوبامايا، وربما أمست شبه ميؤوسة، حتى لدى أقرب المريدين، والمتمسكين
بالخصوصية السلمية للعهد الأوباماوي.فالمطلوب هو إلغاء أولوية النهج
العسكري القابض على مفتاح أقفال الأزمة الكيانية، المختزلة بالصفة
الاقتصادية وحدها لحالة أمريكا عامة. ما يعنيه هنا إلغاء هذه الأولوية، هو
الحيلولة دون أن يأتي اليوم الذي ستطيح فيه الإمبراطوريةُ العسكرية بأمريكا
المجتمع ومدنيتها العالمية معها.
في هذه الفترة الذروية من اشتداد
الأزمة الاقتصادية الآتية معها بأعلى الأسئلة المتعلقة بمستقبل الغرب
وبقائه ليس كقوة أحادية قائدة للعالم فحسب، بل لمجرد الوجود الإنساني
العادي لشعوبه وثقافته، لا يزال يراهن مفكرو (الماكرواستراتيجية) على بقية
رصيد للعهد الأوباماوي، من حيث أنه يتطلع الى تحرير أمريكا من أوهام
الإمبراطورية في احتفاظها بامتياز القوة الأحادية المطلقة. وقد يرى هؤلاء
أن العقبات الكأداء المقاومة لهذا الرهان إنما تقوم أساساً على نوع
(العقلية الوطنية) السائدة لدى الطبقة الحاكمة، قبل أن تتأتَّى من (أعداء)
أمريكا المتوهَّمين أو المصطفين بإرادة وأفعال هذه الطبقة عينها. فمن قال
مثلاً أن خط الدفاع الأول عن أمريكا يمتد من إسرائيل حتى الجدار الصيني،
مروراً بكل ساحات الحروب المستعرة أو المتأرجحة، من فلسطين والعراق
والصومال والسودان واليمن إلى المستنقع الأفغاني الأكبر.
هل حقاً سوف تصر (فلسفة) الأوبامايا
على التمسك بسياسة فرض الخواتم السلمية على هذه الحروب كمدخل حقيقي لأمريكا
مختلفة، ولعالم متغير، معترف بسلطة إنسانيته ما فوق حيوانية همجيته
البدائية المستمرة… هكذا يردد ويتمنى أنصار التغيير، أصدقاء الأوبامايا.
وهم يرون في قرار رئيسهم بتنحية القائد المتشبث بمبدأ الحرب المستمرة مهما
كان الثمن، حتى ولو أجهزت على وطن الغزاة، قبل أرض الغزو نفسها، يرون فيه
مبادرة رمزية لعودة سيادة قبة البيت الأبيض ما فوق قلعة البنتاغون..
أما العرب فيقولون لأرباب هذه
الماكرواستراتيجية المستجدة، أو المنبعثة من ركام الترددات الرئاسية
السابقة التي كادت أن تمحو كل تميز نوعي لساكن البيت الأبيض الجديد، عن
ساكنيه القدامى، يقول العرب أن قرار الانقاذ لأمريكا الإنسانية من أمريكا
الإمبراطورية، إنما يبدأ من إغلاق مفهوم أن تكون أمم آسيا العرب والإسلام
هي خط الدفاع العسكري الأول عن عصابات النفط والمال والسلاح في أمريكا.
بداية البدايات كلها يبقى هو قرار
الاختيار الأمريكي الغربي، في (الشرق الأوسط)، ما بين سكانه الأصليين أو
الدخلاء عليه. بعدَه سيولد غربٌ بل عالمٌ جديد ونظيف