** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالرئيسية  الأحداثالأحداث  المنشوراتالمنشورات  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 الخاص والعام في الانتفاضة الشعبية السورية الراهنة*

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
سبينوزا
فريق العمـــــل *****
سبينوزا


عدد الرسائل : 1432

الموقع : العقل ولاشئ غير العقل
تعاليق : لاشئ يفوق ما يلوكه العقل ، اذ بالعقل نرقى عن غرائزنا ونؤسس لانسانيتنا ..

من اقوالي
تاريخ التسجيل : 18/10/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 5

الخاص والعام في الانتفاضة الشعبية السورية الراهنة* Empty
06062012
مُساهمةالخاص والعام في الانتفاضة الشعبية السورية الراهنة*














ينشد
الشعب العربي السوري الحرية والكرامة، ويتوق إلى المواطنة وحقوق المواطن،
حاله في ذلك حال الشعوب العربية كافة. ورغم وجود فوارق بين دولها على
مستوى بنية الأنظمة، فإنها ليست الفوارق الرئيسة، بل يكمن الفرق الرئيس في
تبلور هوية وطنية تسمح بفصل المجتمع عن الدولة أو عدم تبلورها، وغياب أو
وجود جماعات أهلية ما زالت تجمع بينهما وتخترقهما عموديا. إن ما يصعّب
الفصل بين الدولة والمجتمع هو الرابط نفسه الذي يصعّب فصل الدولة عن
النظام [**]،
وهو الفصل الذي مكّن من خروج المجتمعَيْن المصري والتونسي ـ باعتبارهما
مجتمعين موحّدين ـ للمطالبة بإسقاط النظام، وهو ما مكّن الجيش من الامتناع
عن الوقوف إلى جانب النظام في حرب ضدّ الشعب.


دخلت سوريا مرحلة الانتفاضة
الشعبية، وبات لها أيضا مسمى تاريخي، ثورة 15 آذار/ مارس، إسوة بتلك التي
سبقتها في تونس ومصر بداية العام، ومن بعدها في اليمن وليبيا. وعلى الرغم
من أنها أظهرت قدرة على الانتشار والتوسع كما حصل في يوم الجمعة 15 نيسان/
أبريل، ويوم الجمعة 22 نيسان/ أبريل، فإنها لا تزال في بدايتها، وما زالت
تثير أسئلة كثيرة حول المسارات التي ستتّخذها. وترتبط الإجابة عن هذه
الأسئلة بالخصوصية السورية، ومستوى وعي الحركة الاجتماعية، وطريقة فعل أو
رد فعل النظام السوري تجاهها، فضلا عن المواقف الدولية والإقليمية، وأمور
أخرى متعلقة.

فهل ستسير سوريا مثلا على
طريقة مصر في إصلاحات تقوم تحت ضغط الثورة الشعبية التي اتّخذت شكل
احتجاجات شعبية سلمية متواصلة؟ وهل يضاف إليها رهان على أنّ رأس السلطة في
سوريا قادر على القيام بها؟ أم أنها ستراوح مكانها مدةً أطول بين توازنات
مجتمعية مختلفة كحال اليمن؟ وهل ستقدّم سوريا نموذجا آخرَ يغلب فيه منطق
القوّة على منطق المساومة؟ أم أنّ الانتقال إلى الديمقراطية في سوريا لا
بدّ أن يتخطى النظام كما هو قائم؟ فأحداث يوميْ الجمعة 15 و22 نيسان/
أبريل أظهرت أنّ طريق المساومة هو مجرد احتمال يشجّعه المحيطان الإقليمي
والدولي، وأنّ النظام الحاكم ظلّ مُصرا على الخيار الأمني في قمع أعمال
احتجاج شعبية سلمية. ولا تزال التساؤلات مطروحة وتستدعي النظر إلى
الخصوصية السورية المحلية والإقليمية.

ويدور الحوار عمّا يجري في
سوريا حول سؤالين يطرحهما النظام وإعلامه بطريقته الخاصة؛ أولهما: حول
أهمية العامل الطائفي على ساحة الفعل السورية، وإمكانية استغلاله في
مواجهة مضامين الاحتجاجات الشعبية من أجل الحرية والكرامة، وذلك في وضع
قائم في المشرق العربي قد تفَعّل فيه الثورةُ الديموقراطية التي تجتاح
الوطن العربي تبايناتٍ مجتمعيةً كامنة، عشائرية أو طائفية، لعبت الأنظمة
العربية بعد الاستعمار دورا في تكريسها وفي استخدامها أحيانا. وثانيهما:
حول ما إذا كان لاستدعاء نظريات المؤامرة ما يبرّره في وضع تتمايز فيه
سوريا ضمن معادلات القوى الإقليمية، من خلال دعمها خيار المقاومة في لبنان
وفلسطين، ومناهضتها مشاريع إمبريالية وإسرائيلية، وبتحالفها مع إيران
أيضا. أمّا التساؤل الثالث الذي تطرحه هذه الورقة، فيخصّ مستقبل التغيير
في سوريا واحتمالاته، على ضوء طبيعة السياسات المنتظرة من أصحاب القرار،
وضمن حالة التحولات الإدراكية لدى الجمهور الفاعل بعد غياب مزمن للتفاعلات
السياسية البنّاءة في الحيز العام.


حركة احتجاجية سلمية


لم تشذّ سوريا عن قاعدة سلميةِ
الحركات الاحتجاجية، وهي سمة الانتفاضات العربية بشكل عام، على الرغم من
أنّ الوضع السوري تميّز بقسوة المواجهة القمعية التي جرى اتّباعها في
بداية الأحداث، وساهمت في تأجيجها وانتشارها، وما زالت تستخدم الرصاص
الحيّ في قمع المظاهرات وتفريق التجمّعات والحشود. لقد كان الطابع السلمي
الشعبي ماثلاً للعيان تماما مع بداية انتفاضة درعا شعبية الطابع، ثم عاد
هذا الطابع السلمي والناضج للمظاهرات، وتجلى ـ من دون التباس ـ حين خفّفت
السلطات من دموية قمعها للمحتجّين يوم "جمعة الإصرار" في 15 نيسان/ أبريل.

كان استنتاج النظام السوري
العلني من ثورتي مصر وتونس أن موقف النظام من المقاومة يميزه عن النظامين
في تونس ومصر ويجعله أقرب إلى الجماهير والرأي العام. ويبدو أنه بعد
اندلاع الانتفاضة في درعا تبين أن استنتاج النظام السوري الرئيس هو أن
النظامين الآفلين لم يستخدما ما يكفي من القوة في بداية الأحداث لوأدها.

بدأت حركة الاحتجاج بسوريا في
15 آذار/ مارس مع كسر نشطاء معارضين حاجز الخوف في أول بادرة لمظاهرات
سياسية مباشرة في العاصمة ومدن أخرى للمطالبة بإطلاق سراح السجناء
السياسيين، ولم يكن ما سبقها من مظاهر احتجاج ذا طابع سياسي مباشر رغم
أهميته؛ فتظاهرة 17 شباط/ فبراير جاءت رد فعل تضامنيا محليا على حادث
اعتداء شرطي على بائع عربة في منطقة الحريقة بدمشق، وردّد المتظاهرون لأول
مرة شعارا احتجاجيا تمثّل في "الشعب السوري ما بينذل"، أو الاعتصام
الشّبابي في 22 شباط/ فبراير أمام السفارة الليبية في دمشق تضامنا مع
الشعب الليبي، حيث عبّرت شعاراته المنادية بالحرية عن واقع غياب الحريات
والممارسات الديمقراطية في سوريا، وليس في ليبيا وحدها.

لكن الحركة الاحتجاجية تطوّرت
وبسرعة فائقة بعد الانتفاضة الشعبية في مدينة درعا بالطريقة العصبية
والقمعية التي جُوبهت بها التظاهرات من رجال الأمن. إذ انطلقت أحداث درعا
على خلفية اعتقال قوات الأمن السورية 15 صبيا بمدينة درعا في 6 آذار/ مارس
، ولم تكن أعمارهم تتجاوز 14 عاما؛ لأنهم كتبوا شعاراتٍ على الجدران كتلك
التي رفعتها الثورة المصرية بعد 25 كانون الثاني/ يناير الماضي، مثل:
"الشعب يريد إسقاط النظام". وجاءت الاحتجاجات ردّ فعل لتعامل رئيس فرع
الأمن السياسي في درعا عاطف نجيب والمحافظ فيصل كلثوم المهين مع وفد
العشائر والأعيان الذي حاول التوسّط لإطلاق سراح الصبية. أمام هذا الواقع
اكتسبت قضية اعتقال الصبية وطرد أعيان المدينة قيمة رمزية وعينية، كونها
شكّلت حالة من الظلم والإهانة. لقد اتبعت السلطات الأمنية والمحلية
الإذلال مع مجتمع لا تزال البنى التقليدية القديمة تلعب فيه دوراً مهما.

لم يقتصر رد الفعل الأمني على
ذلك، بل استخدمت قوّات الأمن الرّصاص الحيّ في تفريق المتظاهرين الذين
تجمّعوا أمام مقر المحافظة في 18 آذار/ مارس؛ ما أدّى إلى استشهاد عدد من
المواطنين، وولّد ذلك حالة من الاحتقان الشعبي، وشكل المدخل لإنتاج حركة
احتجاجية شعبية، وحافظ على هذه الحركة ذلك المركب من نشطاء سياسيين ونشطاء
حقوق الإنسان ممن لديهم ثقافة وتصورات سياسية وتاريخ نضالي وبنى تقليدية
أهلية تحمي أبناءها في الملمّات.

سلكت الحركة الاحتجاجية في
سوريا المسار نفسه الذي سلكته الثورة التونسية تقريبا، فقد بدأت رد فعل
جهويا شعبيا على حالة الظلم السياسي والاجتماعي، ونتيجة لتعاطي السلطات
السلبي في امتصاص الأزمة، وامتدّت إلى مناطقَ عديدة في ريف دمشق وحمص
واللاذقية وحماه؛ من ثم تبلورت بوصفها انتفاضة شعبية رفعت شعارات الحرية
والإصلاح، دون أن تستهدف النظام ككل. ولكن الانتفاضة الشعبية توقفت عند
أبواب دمشق وحلب، ولم تخترقها بقوة حتى الآن. فرغم أنّ الموقف السلبي من
نظام الحكم في سوريا منتشر في هذه المدن بقوّة لا تقلّ عن النواحي الأخرى،
يبدو أنّ بعض الفئات، ومنها الطبقة الوسطى، ما زالت مترددة لأنها غير
مطمئنة للمستقبل.

ويمكن للباحث أن يرصد تشابها
بين الحالة التونسية والسورية في بداية الاحتجاج، وتشابها في التفاوت
البنيوي التنموي بين المحافظات والولايات بالدولتين، وكذلك ضيق نفوس
المواطنين بالفساد، وبوليسية الدولة، وانسداد الأفق أمام الجيل الشاب في
الحالتين ، ويتجلى التشابه ـ بشكل واضح ـ في الأشكال التي تمّ اتخاذها في
بداية الاحتجاج. لكن التشابه سيتوقّف عند فروق كبيرة بين طبيعة النظامين
والمجتمعين، وسنرى أن لهذه الفروق تأثيرا يفوق تأثير التشابه في تحديد
مجريات الأحداث.

تطور المشهد السياسي مع
المظاهرات الحاشدة التي عرفتها "جمعة الإصرار" في 15 نيسان/ أبريل على
مستويين؛ أولهما: الاتساع الواضح للاحتجاجات، وشمولها النسبي في درعا
واللاذقية وبانياس وحماه وغيرها، ووصولها إلى مدن لم تصلها سابقا في
المناطق الكردية والجزيرة، كرّس الطابع الجماهيري للمظاهرات. وثانيهما:
كان لنأْي السلطات عن استخدام العنف المباشر لمواجهتها في أكثر من مكان
تأثير أحدث تغييرا في المشهد السياسي السوري، مبيّنا وجود احتمال لطريق
آخر يمكن أن تسلكه السلطات "ثوبٌ مختلف ارتدته سوريا "،
حسب جريدة الأخبار، وهو "ثوب تظاهرات ارتدته استجابة لدعوات «جمعة
الإصرار» التي خلت من أعمال العنف، باستثناء مدينتيْ حمص وشمال دمشق، حيث
غابت صور القتلى والجرحى وسيّارات الإسعاف، وغلب على التظاهرات ذاك البعد
الحضاري".[1] وقد
تبيّن لاحقا أنّ هذا التقييم كان متسرّعا، ويغلب عليه خطاب الأماني عند من
يريد مصلحة سوريا، إذ يُسقط على النظام في سوريا ما يرغب في أن يكون عليه.

لكن مظاهرات يوم 15 نيسان/
أبريل السّلمية الواسعة قدّمت دلائل على عدم صحّة الروايات التي أطلقتها
الدوائر الرسمية سابقا حول إطلاق نار متعمّد من المتظاهرين (في مقابل حديث
المحتجّين عن تورّط ميليشيات سلطوية في أعمال القتل)، وذلك بعد سقوط عدد
كبير من القتلى، حسب بعض التقديرات غير الرسمية أكثر من 200 قتيل نتيجة
المواجهة الأمنية الدموية للاحتجاجات حتى أوائل نيسان/ أبريل[2]، وقد ازداد عدد الضحايا بشكل ملحوظ في أحداث يوم الجمعة التي تلت.

في حالة سوريا، كما هي الحال
في انتفاضات أخرى في مصر واليمن، كان المسجد المكان الرئيس (ولكنه ليس
الوحيد) للتجمع وانطلاق المظاهرات. وعلى اعتبار أن سوريا دولة متعددة
الطوائف والمذاهب، فقد تحوّلت هذه الحقيقة إلى موضوع للنقاش لدى النخب
السياسية والثقافية في سوريا، وحول محركات التظاهر ودوافعه والجمهور الذي
تستهدفه. وظهر للوهلة الأولى أنّ الحركة الاحتجاجية في سوريا هي حراك شارع
معيّن وطائفة معينة ضدّ النظام. ومع تصاعد التطوّرات، وامتداد المظاهرات
إلى مناطقَ جديدة، ووصولها إلى مناطق تقطنها تركيبات طائفية متعدّدة،
ازدادت المخاوف من وقوع عنف طائفي. وقد لمّح النظام إلى ذلك عبر استخدام
تعابير مثل "الفتنة الطائفية". وقوبل استخدام النظام هذه التعابير
وتحذيراته من الفوضى، بادّعاء أنّ النظام معنيّ بالتخويف من فتنة طائفية
إلى درجة الاستفزاز في بعض الحالات لكي يثبت أنّ الدولة السلطوية وحدها
تحافظ على وحدة المجتمع والدولة في سوريا، وأنّ الديمقراطية سوف تؤدّي إلى
الفتنة. فما محاذير الوضع الطائفي وتأثيره في سياق الحركة الجماهيرية
الصاعدة؟


الطائفية في سوريا.. أسباب بعيدة وقريبة


ليس هذا السّياق مناسبا
لمراجعة ظاهرة الطائفية في بلاد الشام، لكن المجتمع السوري ورث ظاهرة
الطائفية من التاريخ غير البعيد ومن أزمنة احتكار الشرعية الدينية، واتهام
الأقليات المذهبية في دينها، واضطرارها إلى إخفاء شعائرها الدّينية، أي
إخفاء هويّتها المذهبية؛ وما أورثه ذلك من روح المظلومية لدى بعض الطوائف،
يضاف إلى ذلك الفعل الاستعماري داخل الدولة العثمانية بحجّة حماية
الأقليات.

ومع تخطّي هذا الموروث، في
إطار بناء الدولة الحديثة، كانت الثورة العربية الكبرى على الحكم العثماني
في بلاد الشام المقدّمة لتبلور سوريا الطبيعية ككيان سياسي، حامله
الأيديولوجي هو القومية العربية، التي شارك في حملها وبلورتها مثقّفون
ومفكّرون من أبناء الطوائف والمذاهب كافة، واستمدت أفكارها من حراك
الجمعيات العربية التي نشطت لإنتاج واقع مخالف وقطيعة تاريخية مع الدولة
العثمانية، وبناء الدولة العربية المستقلة. وانتصر المجتمع السوري لنفسه
مرة أخرى في مواجهة الانتداب الاستعماري الفرنسي، الذي سعى إلى إنتاج
كانتونات جغرافية سياسية ببعد طائفي لتقسيم سوريا إلى دويلات، وجاءت
الثورة السورية الكبرى رد فعل شعبيا منظّما ضدّ محاولة التقسيم هذه.
وتبنّى المجتمع السوري بعدها مبادرات لإنتاج هوية جامعة في ظلّ سياسات
التقسيم الفرنسية، التي حاولت عزل المنطقة الساحلية عن سوريا السياسية؛
بذريعة أنها مأهولة من أقلية علوية متمايزة دينياً. وتمت مواجهة هذا
الواقع في المؤتمر الذي عقد بقرية القرداحة عام 1936 ضمّ علماء الدين
السوريين من مختلف الطوائف، وأصدروا وثيقة اعترفت بالطائفة العلوية،
باعتبارها أحد المذاهب الرئيسة للدين الإسلامي في سوريا وليست دينا
متمايزا.

واحتفى الشعب السوري، وما زال
يحتفي برموز وطنية سورية قومية عربية من كافة الطوائف برزت في تلك المرحلة
بوصفها قيادة وطنية وقومية للشعب في سوريا حتى قبل ظهور القومية العربية
حزباً وأيديولوجية. فسلطان باشا الأطرش وفارس الخوري وإبراهيم هنانو
والشيخ صالح العلي ويوسف العظمة هم رموز وطنية عند الشعب السوري بطوائفه
كافة.

كان العداء للاستعمار عاملا
موحّدا وجامعا لمختلف فئات الشّعب السوري، ومارس دورا في تكوين الهويّة
الوطنية، لكنه لم ينتج تكاملا وطنيا جامعا نتيجة الاحتلال، والظروف
المعيشة الصّعبة، وضعف الواقع التنموي، وانعزال المدينة في سوريا عن
الريف. وبعد الاستقلال ظهرت من جديد قضية بناء الدولة على أسس مدنية،
باعتبارها قضية تشكّل تكاملا وطنيا، انعكست آثاره على مجالات عديدة؛ منها
التنموية، كتقليص الفروقات المجتمعية والتعليمية، والسياسية، كظهور
تنظيمات وطنية جامعة سمحت بتمثيل جميع فئات الشعب وتمثيل المواطنين
المنتمين لأقليات دينية ضمن لوائح الأحزاب القومية كحزب البعث العربي
الاشتراكي، والحزب القومي السوري، والحزب الشيوعي، إضافة إلى كتلة
المستقلّين والعشائر. ولم تظهر إرهاصات فتنة طائفيّة إلاّ في زمن العقيد
الشيشكلي[3].

غير أنّ التفرّد في الحكم،
وغياب الحرّيات والممارسة الديمقراطية في العقود الأخيرة، ساهم في تكريس
الهويات الفرعية وإضعاف مفهوم المواطنة. فقد بدا النّظام كأنه الضّامن
الأساسي للأقليات والوحدة الوطنية، وتأزّم الوضع بشكل رئيس بعد مواجهة
النظام للتمرّد المسلّح الذي بادرت إليه حركة الإخوان المسلمين في سوريا
بداية الثّمانينات، وكانت هذه المرحلة هي الأخطر في تاريخ سوريا الحديث
فيما يتعلّق بالتعايش والاندماج الوطني.

وعلى الرغم من استحضار الخطاب
الطائفي وتبلوره من قبل الإخوان الذين مرّوا بتحوّل قطبي (نسبة إلى سيد
قطب) في تلك المرحلة لم تنشأ حالة اشتباك شعبي على أساس طائفي. ورغم
محاولة العديد من التحليلات صبغ النظام القائم في سوريا على أنه نظام
أقلية معيّنة، فإنّ بنية النظام المؤسساتية والدستورية في سوريا ليست
كذلك، بل هي تعبّر عن واقع سلطوي يقمع أيّ حراك ضدّه من أيّ طرف كان. ولا
شكّ أنّ الولاءات العشائرية و المناطقية في قرى منطقة الساحل تلعب دورا في
تشكيل قاعدة ولاء للنظام، خاصة في الجيش والأجهزة الأمنية، لكن هذا لا
يعني أنه نظام طائفي أو مذهبي؛ فالطوائف كافة تعاني من الاستبداد، كما
تعاني المناطق النائية من التفاوت التنموي والتهميش بغضّ النظر عن تركيبها
الإثني أو الطائفي. وظلّ النظام يعيش على تحالف مع البرجوازية الخدماتية
والعقارية وطبقة التجار في المدن الكبرى، وما زال هذا التحالف
"البونابرتي" بين الاستبداد الأمني والسياسي ورأس المال التجاري هو
التحالف الذي يحكم سوريا بناءً على صفقات داخلية، وقد همّشت هذه الصفقات ـ
التي يعاد تشكيلها بعد كلّ أزمة ـ الجزء المتحرّر سياسيا من الطبقة الوسطى
ومثقّفيها، كما أنها تمثلت مؤخّرا في ازدياد نفوذ رجال الأعمال الجدد في
المدن الكبرى، والذين يرفعون راية "النيوليبرالية" الاقتصادية والاستبداد
السياسي على النموذج التونسي، ويدفعون باتجاه "سوريا أوّلا" وإحياء عملية
السلام مع إسرائيل.

و أضيفت، في الفترة الأخيرة،
عوامل جديدة خارجية عزّزت المخاوف الطائفية؛ كالتطور السياسي في العراق
بعد الاحتلال الأمريكي، والتمحور المذهبي الذي نتج عنه، إضافة إلى ما
تمخّضت عنه النقاشات على الساحة اللبنانية، خاصّة في فترة التوظيف
الإقليمي للخطاب الطائفي من قبل ما سمّي بـ"محور الاعتدال" لاستهداف
المقاومة في لبنان.

وتشير التقديرات الحالية
لتوزّع الانتماءات الدينية في سوريا، رغم أنها غير رسمية، إلى نسبة
للأغلبية السنّية تتراوح بين 60 و70% من عدد السّكان، منهم ما نسبته 10
إلى 15% من الأكراد، وتتوزّع النسب الأخرى كالتالي: 10 إلى 15% علويون
وأقليات من الشيعة، 8 إلى 10% مسيحيون، إضافة إلى الدروز والإسماعيليّين
الذين يشكّلون ما يقارب 5% من عدد السكان.[4] لكن
هذا التقسيم ليست له أهمية قانونية؛ فالانتماء المذهبي أو الطائفي في
سوريا لا يشكّل منزلة قانونية أو سياسية حاليا، وإن أيّ تحول ديمقراطي في
هذا البلد يفترض أن يفصل المذهب والطائفة عن السّياسة، وبهذا المعنى لا
بدّ أن يفصل الدين عن الدولة في دولة حديثة متعدّدة المذاهب والطوائف، ومن
ثمّ فإنّ التعامل جدّيا مع هذا الإشكال يمثّل التحدي الرئيس الذي يواجه
أية حركة ديمقراطية ثورية في سوريا.


الحركة الاحتجاجية ومقولة "الفتنة"


يأخذ البعض على الحركة
الاحتجاجية في سوريا أنّ هويتها السياسية غير واضحة، وأنّ "المسجد" يشكّل
بؤرة التجمّع ونقطة انطلاق المظاهرات عادة، وأنّ الشارع السوري السني هو
من يقوم بها، وأن المشاركة فيها لا تشمل مختلف شرائح المجتمع.

وبغضّ النظر عن دقّة هذه
المقولات ـ وبالنظر إلى خصوصية سوريا التي افتقرت إلى أيّ تراث احتجاجي
سلمي علني على مدى العقود الثلاثة الماضية، نتيجة التغوّل الأمني وحظر
النشاط السياسي ـ فمن الطبيعي النظر إلى المسجد بوصفه مكان تجمّع شرعي في
ظلّ النّظم التي تمنع التجمعات. والحقيقة أن التظاهرات انطلقت أيضا من
الميادين، رغم الثمن الباهظ الذي دُفع بالدم عند مجرد محاولة التجمع فيها.
وفيما يتعلّق بمشاركة المواطنين السّوريين المنتمين لأقليات دينية، فإنّ
ندرة المشاركة في البداية طبيعية لأن البداية لا تشمل دائما مؤشرات عن
المستقبل؛ فهل تخبئ الثورة ضمانات لبقائهم عنصرا فاعلا في مجتمعهم؟ لكن
هذا لا يعني أن هؤلاء المواطنين راضون عن النظام، بل إنهم يريدون وضوحا
أكثر بشأن طابع التغيير الذي تحمله الثورة، خاصة أنه لا توجد قيادات واضحة
لها، وقد تكون القيادات القادمة التي سوف تبرزها هذه الانتفاضة أكثر
ديمقراطية ومدنية من الإخوان المسلمين أو من ظواهر تشدد ديني يروّج لها
حاليا مثل السلفيين. أمّا الأسماء المنتشرة ـ والتي تُربط بالمعارضة ـ فهي
منفرة لعموم السوريين، سواء كانت أسماء خدّام أو رفعت الأسد أو حتى بعض
رموز الإخوان الذين راهنوا على الطائفية والتحالف مع خدام في مرحلة سابقة.
ويتبنى هذا الموقف المتردّد الطبقات الوسطى القلقة من المستقبل.

ويظلّ التردد في هذه الحالة
أقلّ منه في مصر؛ فخلال الثورة المصرية وجدنا المؤسّسة الكنسية رفضت
المشاركة في مظاهرات يوم الغضب، إلاّ أنّ ذلك لم يمنع الشباب المصري
القبطي من المشاركة، ثم لعب دورا متقدما خلال الثورة في التصدّي لمحاولة
بثّ الفتنة الطائفية التي روّج لها النظام خاصة بعد ظهور معطيات تفجير
كنيسة القدّيسين.

أمّا فيما يتعلّق بطرح شعارات
طائفية في بعض المظاهرات الأولى، كالتي تناولت حزب الله وإيران، فهي وإن
أوضحت جزءًا من الاختلال في تعريف الهوية الوطنية والموقف من النظام كأنه
علوي والنظر إلى تحالفاته كأنها طائفية، فإنّ استخدام هذه الشعارات
الطائفية ،المسيئة لرافعيها وللشعب السوري، كان طارئا وفي مناطقَ معيّنة
بذاتها. لقد تأثّر الشارع آنذاك بمعطيات إعلامية تم إرساؤها لتبرير التدخل
الخليجي لقمع المتظاهرين السلميّين في البحرين، وبتركيز الجهات الإعلامية
لحزب الله على تناول موضوع البحرين وتجاهل التعاطي مع الاحتجاجات في
سوريا. إضافةً إلى مجموعة من الشائعات الكاذبة المغرضة التي ظهرت في
الشارع المحتجّ مفادها أنّ عناصر من حزب الله تشارك في قمع التظاهرات التي
جرت في درعا، في حين كان بعض المتشددين يحاولون الركوب على موجة
الاحتجاجات في مناطقَ معيّنة بريف دمشق.

ويمكن تفسير هذه الحالة أيضا
في ضوء تشتّت الشارع ومرحلة إنضاج الشعارات الاحتجاجية، ومن ثم فإنّ
الشارع الاحتجاجي ـ الذي بدأ كانتفاضة شعبية في درعا، ولم يطوّر قيادة
سياسية قُطرية بعدُ لا يمكن أن يكون منضبطا في مثل هذا النوع من
الاحتجاجات؛، لذلك فإنه قد يُنتج أحيانا شعارات طارئة سرعان ما تتلاشى.
وهذا هو شأن الشّارع السوري.

كما أنّ التحريض الطائفي وصل
إلى مرحلة متقدّمة جدا في مناطقَ تقطنها شرائح متعدّدة، لكنه رغم ذلك لم
ينتج بوادر فتنة طائفية مصدرها الأهالي، وما زال النقاش دائرا حول ما جرى
في اللاذقية وبانياس في أيام الاحتجاج الأولى. ولكن لا خلافَ حول هوية ما
يسمّى بـ"الشبيحة" باعتبارهم فرقا نصف جنائية من الزّعران المقرّبين من
رجالات النظام، والذين يعيثون فسادا في المناطق العلوية عادةً حتى امتد
نشاطهم إلى بعض المدن الساحلية.

هنالك ذاكرة تاريخية وطنية
سورية وقومية عربية ومدنية يمكن استدعاؤها دائما ضدّ الفتنة الطائفية
تماما مثلما يمكن استدعاء فكرة الفتنة نفسها. ويبقى التساؤل: ما الهدف
السياسي للنظام؟ وما الهدف السياسي لمنظّمي الاحتجاج؟ فمن له مصلحة في
الطائفية يؤكّد على بعدٍ قائم في الذاكرة السورية، أمّا مَن يتوق إلى نظام
مدني ديمقراطي فمن مصلحته أن يحيي التقاليد العربية السورية المناهضة لأية
طائفية.


المواقف الإقليمية والدولية وموقع سوريا الاستراتيجي


تقع سوريا
على الجبهة الأمامية للصراع العربي الإسرائيلي، وعلى تقاطع محاور إقليمية/
عالمية، وهي جارة لخمس دول؛ ما يجعلها محطّ اهتمام عالمي.

عموما، ظهر المشهد الرسمي
العربي مؤيّداً للحكومة السورية حيال الاحتجاجات التي عرفتها سوريا منذ
منتصف آذار/ مارس، إلاّ أنّ درجة الاهتمام اختلفت باختلاف البعد الجغرافي.
حيث تلقّى الرئيس السوري بشار الأسد في وقت مبكر اتصالات من قادة الدول
الخليجية والعراق (27آذار/ مارس)[5]،
وأبدوا فيها دعمهم للحكومة السورية ضدّ ما سمّي بالمؤامرات التي تستهدف
ضرب أمن سوريا واستقرارها، وأكّد الملك السعودي عبدالله بن عبد العزيز، في
اتصاله بالرئيس السوري بشار الأسد (28آذار/ مارس)، وقوف السعودية إلى جانب
سوريا في "وجه ما يستهدفها"[6] ،
على الرغم ممّا عرفته العلاقات السعودية السورية من تشنج وتقلبات في
الفترة السابقة، على خلفية حدث اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق
الحريري في العام 2005.[7] وتجاوز
الدعم السعودي لسوريا مجرد إعلان الموقف إلى تقديم دعم مادي مباشر في خضمّ
الأحداث الدائرة، حيث أعلن محافظ مؤسسة النقد السعودي محمد الجاسر في
منتصف شهر آذار/ مارس تقديم السعودية قروضا لسوريا بقيمة 140 مليون دولار،
بالإضافة إلى درس أمر تقديم قروض أخرى.[8]. هذا
في وقت ينشر فيه الإعلام الرسمي السوري مقولة: "مؤامرة يقودها بندر بن
سلطان"، ويتجنب في الوقت ذاته مهاجمة السعودية. ومن الواضح أن السعودية لم
تدعم أية ثورة. فهي تخشى موجة الثورات والتغيير في العالم العربي إلى درجة
تفضيل طاعة وليّ الأمر على أية خلافات سياسية وأيديولوجية.

كما أعرب رئيس جمهورية العراق
جلال طالباني في اتصال مع الرئيس السوري عن تضامنه مع سوريا في "وجه
المؤامرة التي تتعرض لها"، كما تسلم الرئيس السوري رسالة من رئيس الوزراء
العراقي نوري المالكي تحوي المضمون نفسه (3نيسان/ أبريل). ومن المعلوم أن
النظام السوري دعم مؤخراً نوري المالكي في اختياره لتأليف الحكومة بعد
الانتخابات البرلمانية في العام الماضي، وهو ما يفسر عودة العلاقات بين
البلدين إلى مستوى هادئ نوعا ما بعد سنوات من التشنّج.

في المقابل، لم تصدر أية
تصريحات من مصر ودول المغرب العربي حيال الأحداث الجارية في سوريا؛ فالوضع
الانتقالي في مصر بقيادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة لا يسهّل على مصر
اتخاذ مواقف قد تكون متضاربة مع توقعات الجماهير المصرية وثورتها منذ 25
يناير.

وأظهرت الدول الإقليمية غير
العربية ـ كإيران وتركيا ـ اهتماما غير عادي بتطورات الأوضاع السورية.
فإيران، القلقة والحريصة على استمرار تحالفها القديم مع النظام السوري،
عبّرت عن مواقفَ متضامنة مع النظام السوري وتحذيرية تجاه الاحتجاجات، التي
شبهها سفيرها في سوريا (في بداية شهر نيسان/ أبريل الجاري) بـ"أحداث
الفتنة" التي حصلت في إيران في حزيران/ يونيو 2009.[9] ووصف
القيادة السورية بأنها قيادة حكيمة درست المطالب الشعبية واستجابت لها.
واعتبر المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية (12نيسان/ أبريل 2011) أن
موجة الاحتجاجات التي تحدث في سوريا مؤامرة خارجية، تهدف إلى زعزعة
الحكومة السورية التي تدعم المقاومة.[10]

أما الحكومة التركيةفقد
تعاملت مع الأحداث باعتبارها مؤثرات مباشرة على الوضع التركي. وتخطت في
ردود فعلها إعلان الموقف إلى إسداء النصائح. ففي البداية صرّح رئيس
الوزراء التركي رجب أردوغان (23آذار/ مارس 2011) بأنه نصح الرئيس السوري
بشار الأسد بالاستجابة للإصلاحات،[11] وأضاف:
إن تركيا لن تقف متفرّجة على ما يجري في سوريا. وبعد ذلك، أصدرت وزارة
الخارجية التركية (3نيسان/ أبريل 2011) بياناً أشارت فيه إلى اهتمام تركيا
"بأمن واستقرار ورفاهية الشعب السوري بالقدر نفسه الذي توليه لشعبها، وعدم
قبولها أيّ سلوك أو تصرف يؤدّي إلى زعزعة الاستقرار في سوريا، أو يلحق
الأذى بإرادة الإصلاح فيها".[12] وكان
تصريح أردوغان من التصريحات القليلة الإيجابية التي صدرت بعد الخطاب الأول
للرئيس السوري، الذي ألقاه أمام مجلس الشعب؛ فلم تخرج تصريحات تركية بهذه
السرعة والقوة تجاه أيّ من الأحداث العربية الأخرى.

ويمكن ملاحظة أن التعددية التي
يعرفها المجتمع السوري لها امتداد تركي أيضا، والعارفون بالسياسة التركية
يرون أن تركيا تنظر إلى أحداث سوريا كأنها شأن تركي، وأن المسؤولين
السياسيين والأمنيين متحمسون لتقديم النصائح والتوصيات وحتى المقترحات
البديلة في السياق الإصلاحي.[13]

ويبدو حاليا أنّ موقفا نقديا
تركيا تجاه سوريا هو قيد التبلور، وأنّ التلفزيون الرسمي التركي باللغة
العربية أصبح يقابل شخصيات سورية معارضة، ويسمح للمعارضين السوريين
بالتظاهر في إسطنبول، وفي حال تطور الانتفاضة إلى ثورة عارمة في سوريا لا
نستبعد أن يكون لتركيا دور مهم في محاولة كسب الشارع السني العربي
والحركات الإسلامية إلى جانبها بموقف داعم للمعارضة رغم علاقات الصداقة
التي تجمع النظامين ومن يقف على رأسيهما؛ فقد ظهر مؤخرا أنه لا حدود
للبراغماتية التركية في السياسة الخارجية.

على مستوى الاهتمام الدولي، خرجت الدول الأوروبيةبموقف
مشترك يطالب النظام السوري بالعدول عن سياسة القمع واتباع نهج الإصلاح،
متجنبا أن يؤخذ عليه التدخل الواضح، وبقي إعلان الموقف على مستوى سفراء
أهم ستّ دول أوروبية، الذين عبّروا لوزير الخارجية السوري، في يوم سابق
لاحتجاجات الجمعة (14نيسان/ أبريل 2011)، عن قلق بلادهم من تزايد أعمال
العنف في سوريا. ونقلت وزارة الخارجية الألمانية هذا البيان، الذي أدان
استخدام قوات الأمن للقوة ضدّ المتظاهرين المسالمين، داعين إلى الاستجابة
لمطالب الشعب السوري المشروعة، وبدْء إصلاحات سياسية ذات صدقية.[14]
وفي اليوم التالي كان تصريح وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون من
برلين، في ختام اجتماع وزراء خارجية دول حلف شمال الأطلسي، التي دعت
"السلطات السورية مجددا إلى الامتناع عن أيّ استخدام للعنف ضدّ شعبها"،
ومطالبتها ببدء تحقيق تطلّعات الشعب السوري.[15]

واستمرّت المواقف الأوروبية
والتركية تشجّع عدول النظام السوري عن سياسة القمع والمباشرة بالإصلاح،
ولاقت الاستجابة التي أظهرها الرئيس السوري في خطابه في 16 نيسان/ أبريل
ترحيبا من هذه الأوساط. واعتبر الرئيس التركي عبدالله غول "أنّ القيادة
السورية رأت أنه لا مناصَ من الإصلاح"،[16] وحثّت المواقف البريطانية والفرنسية النظام على تطبيق الإصلاحات.

مع ذلك، فالرّهان الدولي على
سلوك الرئيس الأسد يكتنفه الكثير من التباين، حيث تظهر مراكز تحليل
السياسات الأمريكية think tanks ذلك بشكل رئيس. فإلى جانب الحرص الواضح في
كثير من المقالات والتصريحات الغربية والأمريكية على استقرار سوريا،
وتحديدا الخوف من الفوضى التي قد يخلقها الصراع فيها، نجد تشكيكا في
قابلية النظام السوري للإصلاح؛ فهناك من يشكّك في وجاهة الرهان على
استجابته للإصلاح حتى في ظروف قد تؤدّي إلى تهديده مباشرة. ويسود تقدير
أنه يمكن أن يلجأ إلى القمع المفرط مستخدما فزاعة الفوضى الطائفية مصحوبة
بتقديم حزمة من الإصلاحات الرمزية والشكلية. وإلى جانب التشكيك تظهر مواقف
أخرى داعية إلى إسقاط النظام السوري الحليف لإيران وصديق المقاومة في
لبنان.


السياسة وموضوع التغيير


قبل بدْء الاحتجاجات السورية،
وخلال الأشهر الأولى من اندلاع الانتفاضات الشعبية العربية، تصرّف النظام
السوري كأنه بمنأى عن التغييرات التي تهبّ على العالم العربي؛ فلقد بقي
صامتا أثناء الثورتين المصرية والتونسية، لكن الرئيس السوري بارك عملية
التغيير بعد نجاحهما. جاء ذلك في حديث أدلى به إلى صحيفة وول ستريت جورنال
الأميركية في 31 كانون الثاني/ يناير 2011، ودعا خلاله الحكام العرب، إلى
الاستفادة من درسيْ بن علي ومبارك، بتلبية طموحات شعوبهم الاقتصادية
والسياسية، معتبرا أنّ قرب النظام المصري السابق من إسرائيل سبب مباشر
لاندلاع الثورة في القاهرة. وفي المقابلة نفسها اعتبر الوضع في سوريا
مستقرا، لأن "الرئيس قريب من معتقدات شعبه الذي يحبه"، ولأن سوريا بدأت
ولا تزال في مسيرة الإصلاحات السياسية عبْر العمل على إجراء انتخابات
بلدية قريباً، ومنح المنظمات غير الحكومية المزيد من الحريات، وسنّ قانون
جديد للإعلام. ورفض الأسد في تلك المقابلة تبنّي إصلاحات سريعة وجذرية؛
لأن سوريا ـ في نظره ـ في حاجة إلى بناء المؤسّسات وتحسين التعليم قبل
انفتاح النظام السياسي، وأنّ "المطالب بالإصلاحات السياسية السريعة قد
يكون لها ردّة فعل سلبية في حال لم تكن المجتمعات العربية جاهزة لها". [17]

نجد في هذه المقابلة المركبات
الاستشراقية كافة اللازمة لإثارة إعجاب الغرب، وهي تندرج ضمن مجموعة جهود
يتشابه فيها القادة العرب في محاولة إثارة إعجاب الغرب، والتملّص من تطبيق
الديمقراطية بهجاء شعوبهم "غير الناضجة" لممارستها، وهي جهود تندرج تحت
"غربنة" صورة الزعيم وزوجته من دون أدنى تغيير سياسي في طبيعة نظام
الاستبداد، ويجري ذلك عادة بعرضهم كأناس "حضاريين" بالمفهوم الغربي
الاستهلاكي وعبر مقابلات في مجلاّت النجوم، حيث يظهرون فيها وهم يعيشون
نمط حياة غربيا بلباس "الجينز" البيتي ومع العائلة.

ظلّ الرئيس الأسد يحمل تصوّره
هذا عن التغيير في سوريا من خطاب سياسي إلى آخر، حتى بعد وصول الاحتجاجات
الجماهيرية إلى سوريا نفسها. فقد أكّد في الخطاب الأول في 30 آذار/ مارس
من قاعة مجلس الشعب السوري أن سوريا تستهدفها مؤامرة لإحداث "فتنة
طائفية"، واعترف بأن تطبيق الإصلاح قد تأخر، إلاّ أنه لم يقدّم أيّ خطوات
واعدة؛ فلم يقم إلا بإقالة حكومة ناجي عطري في 29 آذار / مارس، ومن ثم
تكليف وزير الزراعة عادل سفر بتشكيل الحكومة الجديدة. وكان الخطاب صادما
بالنسبة إلى كثير من السوريين، إلا أنه بثّ صورة أنّ النظام ظلّ متماسكا
في مواقفه الصلبة، ولا يقدّم أيّ تنازلات قد تفسر على أنها نقاط ضعف تشجّع
المحتجّين على المطالبة بالمزيد، ولم يقدّم الأسد إلاّ تشكيل لجان للتحقيق
في حوادث القتل ومنح الجنسية للأكراد ودراسة إلغاء قانون الطوارئ
واستبداله بقانون مكافحة الإرهاب. [18]

ولم يتراجع الرئيس السوري في
خطابه خلال جلسة القسم الوزارية في 16 نيسان/ أبريل عن فهمه للتغيير، لكنه
قدّم بشأنه نظرة أكثر شمولية، وأبدى نوايا حول استعداده للتنفيذ، بمعنى
آخر .. كان الخطاب منفتحا أكثر من السابق على مراهنة "الإصلاح"، بغضّ
النظر عمّا سيكون عليه هذا الإصلاح. وتقدّم ببوادر حسن نوايا تمثّلت في
إعلانه الاستعداد للإسراع في تطبيق رفع حالة الطوارئ في مدة لا تتعدّى
أسبوعا، وإبداء الألم حيال الدماء التي هدرت في سوريا، معتبرا أن جميع من
سقطوا من مدنيّين وعسكريين شهداء، وأخيرا تحييد آلات القمع الدموية وعدم
إطلاق الرصاص على المتظاهرين.

تهدف سياسة النظام المرحلية
إلى وضع سوريا في حالة انتظار، كخيار في إطار العمل على إعادة إنتاج
السلطة على أسس حديثة، والمماطلة في إعادة إنتاج النظام على أسس تعددية
وتداولية تمثيلية، في ظل حديث مستمر عن المؤامرة يستحضر أدوات القمع ولا
يحيّدها. وقد تبين أن هذا الخيار غير مجدٍ، فالمظاهرات تشتدّ ويشتدّ معها
القمع في توسعها لتشمل كافة أنحاء البلاد على مدار أيام الأسبوع. والتفسير
المتفائل هو أن هنالك صراعاً بين جناح أمني وآخر إصلاحي في النظام، وأنه
في حال الفشل الأمني فلابد أن يأخذ الرئيس بالإصلاحي، وفي هذا المنظور
يترك للناس مهمة إفشال الخيار الأمني. والسؤال سيكون بعدها: هل سيرضى
الناس بالإصلاح الذي يقدمه النظام بعد أن أفشلوا الخيار الأمني بدمائهم؟
ليس هنالك متسع لسيناريوهات مختلفة، والإصلاح لا ينجح كخيار أخير، بل
يفترض أن يكون هو الخيار الأول.


حديث في الإصلاح


عرفت سوريا وجهين للإصلاح في
العقد الماضي، أي منذ أن ورث الرئيس السوري الشاب موقعه عن أبيه عام 2000،
أحدهما سياسي جرى التراجع عنه بسرعة والآخر اقتصادي انفتاحي ما زال في
بدايته. ولكن ما يظهر على أرض الميدان من الإصلاح بوجهيه هو تضاعف هامش
حرية رأس المال التجاري والعقاري والخدماتي والطفيلي المعتمد على الولاء
المباشر والعلاقة الشخصية مع رجالات النظام.

بدأت التجربة الإصلاحية الأولى
مع تولي بشار الأسد رئاسة الجمهورية في سنة 2000. فقد حملت الشهور الأولى
لحكمه وعوداً بالإصلاح والانفراج السياسي. وبدأت في 17 تموز/ يوليو 2000
مع خطاب القسم الرئاسي ووعود بديمقراطية خاصة تنبثق من الشخصية السورية.[19]
لقد ساهم ذلك في بروز حراك نخبوي على الساحة السورية قادته المنتديات وبعض
الشخصيات السياسية المعارضة، بمشاركة من مختلف الأطياف بما فيها شخصيات من
حزب البعث، واصطلح على تسمية هذا الحراك "ربيع دمشق". بيد أن عملية
الإصلاح توقفت بعد فترة وجيزة على انطلاقتها.[20]وبدأ ربيع دمشق ينحسر تدريجيا، وعاد الاستقواء الأمني باعتباره آلية رئيسة لعمل النظام.

وساهمت المعطيات الخارجية في
الاستمرار في وأد هذه العملية الإصلاحية. وهي معطيات تجلّت في الاحتلال
الأميركي للعراق سنة 2003 وفرض الولايات المتحدة العزلة على سوريا التي
رفضت شروطها، وحملة الضغوطات التي تعرضت لها سوريا مع اغتيال رئيس وزراء
لبنان الأسبق رفيق الحريري في 14 شباط/فبراير 2005. وتلت ذلك موجة جديدة
من التضييق السياسي في ظروف واجهت خلالها دمشق اتهاما في قضية اغتيال
الحريري من قبل لجنة التحقيق الدولية.[21]
واستطاع الرئيس الأسد أن يحوّلها إلى رصيد كبير لصالحه بأن جعل من قضية
محكمة الحريري من أسباب الالتفاف الجماهيري حول النظام، وبالذات حول شخصه.

استمر "ربيع دمشق" فترةً
قصيرة، امتدت من أداء القسم الرئاسي في 17/7/2000 إلى تجميد قوات الأمن
السورية نشاط المنتديات الفكرية والثقافية والسياسية في 17/2/2001. وبدا
كأنه "خدعة" من النظام السوري لتمرير التوريث على النخب السياسية
والثقافية في سوريا. وهو بالمناسبة أول وآخر توريث عرفته الجمهوريات
العربية لحد الآن. لقد كان الإصلاح ومكافحة الفساد هما أساس شرعية انتقال
السلطة إلى بشار الأسد، فالجمهوريات لا تعترف بالتوريث. لكن ربيع دمشق شكل
بالمقابل فرصة رأى فيها الكثيرون مدخلا باتجاه التغيير الديمقراطي في
سوريا. وقد أثيرت من خلاله نقاشات غير مسبوقة تناولت موضوعات في صلب إصلاح
النظام، كحالة الطوارئ والمادة 8 من الدستور التي تكرس حزب البعث حزباً
قائدا للأمة، وغياب قانون أحزاب وغياب انتخابات رئاسية وغيره. وقد استمرت
في التفاعل على الساحة الشعبية السورية. ولكن حكم بشار الأسد ظل يبتعد عن
أسس شرعيته حتى فاق الفساد في عهده المستوى الذي بلغه في عصر حافظ الأسد،
وأصبح الاعتقال على خلفية إبداء الرأي أمرا مألوفا.

إن الإنجاز الذي يحسب
للانتفاضة الشعبية السورية (انتفاضة 15 آذار/مارس)، هو أنها نقلت قضايا
ربيع دمشق من المكرمات الرئاسية -التي تسحب بسهولة- إلى احتجاج شعبي سوف
يثبتها باعتبارها مكتسبات له. ولن يكون من السهل العودة إلى حوار مع وقف
التنفيذ، أو إلى انتقائية في التنفيذ تخدم العودة إلى لجم للحركة
الجماهيرية.

لقد جاءت التجربة الإصلاحية
الثانية في أعقاب التخلي عن التجربة الأولى التي كان يفترض أن تتناول
الحقوق المدنية للجمهور الواسع. وهدفت هذه التجربة الثانية إلى توسيع مجال
الحرية الاقتصادية في خدمة فئة محدودة. وسمح النظام الاقتصادي الجديد الذي
نشأ في العشرية الماضية، بالتحول نحو اقتصاد السوق، إذ رفعت الدولة يدها
بشكل كبير عن إدارة العملية الإنتاجية، كما بدأت في رفع الدعم تدريجيا عن
السلع الأساسية، وسمحت بتأسيس بنوك تجارية وشركات اتصالات خلوية خاصة،
وإنشاء سوق مالي وصناديق استثمار وإحداث تغييرات في القوانين لجذب الأموال
والاستثمارات من الخارج، و من دول الخليج العربية أساسا.

تكوّن التحول الاقتصادي
الجديد، والذي اصطلح على تسميته "اللبرلة" من داخل النظام الحاكم في
سوريا. وتشكل وفق تكتل لمصالح معقدة ومتشابكة ومتجاوزة للطوائف بين
الرأسمالية الجديدة والسلطة السياسية والعسكرية، وتبلور تيارا سياسيا داخل
النظام، يسميه الدكتور عزمي بشارة "التيار التونسي" داخل النظام السوري.
وهو الذي عمل على توجيه الاقتصاد باتجاه ليبرالي غير مخطط وعلى إنتاج
أدبيات سياسية أبرزها "سوريا أولا"، وإطلاق هامش حرية طفيف في الصحافة
والإعلام، وابتعد عن فكرة دعم المقاومة ونَزَع إلى قبول شروط وزير
الخارجية الأميركي كولن باول قبل ان يحسم الرئيس الموقف ضد قبول هذه
الشروط بعد حرب 2003. ويقصد بـ"التيار التونسي" ذلك الذي يجمع بين
الاستبداد السياسي والليبرالية الاقتصادية ويتحول إلى "الاعتدال السياسي"
أو استخدام شعار المقاومة تكتيكيا حين يلزم، ويستفيد من رجال أعمال جدد
وعلى هامش النظام بمن فيهم أقارب المسؤولين.

وقد ساهم التحول الاقتصادي
المذكور أعلاه في عملية إفقار واسعة إضافة إلى تضرر الطبقة المتوسطة
وتراجع حجم الدعم والخدمات التي تقدمها الدولة. وخلال عملية التحوّل من
الدولة شبه الراعية إلى دولة السوق الحر وانحسار دور القطاع العام، تمت
عمليات سيطرة على الأراضي والمال العام، وإحدى أشهر قضاياها صفقة عقود
الخلوي التي أضاعت على الدولة 7 مليارات دولار تقريباً. وقد ارتبط الفساد
بشخوص من النظام وشركائهم من أصحاب رؤوس الأموال أمثال رامي مخلوف و محمد
حمشو وما يقارب المائة رجل أعمال غيرهما. وهذا يفسر هجوم أدواتهم
الإعلامية ، على أي دعوة للإصلاح. فمن غرائب الإصلاح الثاني أن رأس المال
الفاسد والطفيلي الشريك لمراكز قوى سياسية وأمنية في النظام هو الذي مُنح
حق تأسيس وسائل إعلام خاصة، ترفيهية واستهلاكية الطابع. وقد تحولت هذه
الوسائل حاليا إلى أبواق تحريض حقيقية تكاد تفوق الإعلام السوري الرسمي،
الذي يبدو وكأنه قادم من عصر آخر تماما، شكلا ومضمونا.

هذه الصورة للتحولات
الاقتصادية تضع انتفاضة التغيير في سوريا في إطارها الأشمل كنزوع نحو
التغيير، ضد القهر السياسي، ولكن أيضا ضد الإفساد في صلب التكوين
الاقتصادي بحيث تتشابه التجربة السورية مع سابقتيها التونسية والمصرية.


المعارضة السورية


تصنف المعارضة السورية إلى
معارضة ف
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

الخاص والعام في الانتفاضة الشعبية السورية الراهنة* :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

الخاص والعام في الانتفاضة الشعبية السورية الراهنة*

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: استـــراجيــات متحـــــــــــــــولة يشاهده 478زائر-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: