أضمكَ
مرتجفة…تحتضنني بقوّة مندفع بلهفةِ خمسة عشر عاما من الغياب..تقبّلني..
فأبكِي..لم أعد يتيمة بعد اليوم، بعد أشهر تشرينية سأكمل عامي الخامس عشر،
هذه أوّل مرة احتفل فيها معك، بك…أوّل مرة أراكَ خارجَ مساحةِ العدم،
أيدينا لأوّلِ مرةٍ تتشابك، خمسة أصابع تعانق نظيرتها في اليد اليمنى وخمسة
مع خمسة في اليد اليسرى، الآن فقط أتقن العدّ…إنها عشرة، وأنت أمامي، كامل
العينين والأنف والملامح والفم الذي يحاولُ احتواء كلّ ما مضى، وإلقاؤه
بصوتٍ يخترق أذنّي وإذا به يبعثر داخلي ويلحُمني مع سنين مضت..تحدثني
مسرعا..خائفا أن يمرّ الوقت ولا يكفي لتقول لي كلّ ما ينبغي على أبٍ أن يقوله لابنته في خمسة عشر عاما، تمسّ شعري وجديلتي وتتفقّدني خلية خلية، كيف كبرتُ في غيابك؟
كان
من الصعب عليّ وأنا ابنة غيابك أن أتعرّف عليك، أتيتني كلغةٍ غريبة لم
أسمعها في طفولتي لأردّدها بالمثل، أنا الآن خارجُ حدودِ الفهم بالفطرة،
كان يستعصِي على فهمي،
ويكبر منطقي أن أفسّر دخول رجل إلى حياتي الآن، أنا من عشتُ حياتي ناقصة ً
من الرجال، دون أب ودون أخ، ماذا عليّ أن أسألك؟ كيف أتعرّفُ عليك؟
أنا
وأنت لا نعرف شيئا سوى أنّك أبي وأنّني ابنتك التي ولدت لك وأنتَ مقيّدٌ
بين أربعة جدرانٍ من الاسمنت الرديء، لا تتجاوز مساحتها الواحد متر مربع،
كالغرباء، أمشي نحوك مدفوعة بصراخِ الآخرين وبكائهم فرحا بعودتك، هل عدت
حقا؟ هل أُلغي انتمائي إلى الفراغ وأنتمي لك؟
تتمنّى
لو أنّ ذراعيك أوسع أو أنّ صدرك يحضن كامل جسدي الذي نما في غيابك. تدهشك
خطوط الضوء هنا، الشوارع، الوقت، البنايات، نعم إنه ليس المكان الذي تركته،
ليس جسدي وحده من تغير، حتى انكساراتنا أكثر حدةً ونحن أكثر هشاشة، وحدك
أنت كنت صلبا وتسلّقت أيامنا من قاع البئر، خانتك المعالم التي ظننت أنها
ستبقى قيدَ انتظارك، ولكنك أيضا لم تكن بكامل الانتظار، شعركَ الذي استل
لونه الأبيض من عتمة أيامك، تجاعيد حول عينيك تطوي بين ثنايا انحناءاتها كل
عذابات غيابك. قطبية التعابير هنا، فوجهي الذي يبدو كصفحة بيضاء خالية من
الانحناءات تخفي أيضا، قصص غيابي، وربما لعمق شدتها لم تكتب شيئا على وجهي. هل كنتُ على قدرِ
الجمال الذي توقّعتني به، هل أنا كما تخيّلتني؟ أحدّق في ملامحك، هل أشبهك
حقا؟ أم أنّ ما قاله الناس عن شبهنا كان محض اختلاق وحسب. من يرى ما أحدثه
غيابك في زواياي الداخلية، ليس غريبا أن يكون لك ولي نفس شكل الأصابع، ذات
الانحناءة التي تجعل ملاصقة أي إصبعين مفتوحة بشقٍ يشيرُ إلى أقصى اليمين
واليسار.
كل ليلة كنت أخطً لك رسائل لا تقوى على التحليق
خارج غرفتي، وحدها ربما مذكراتي ومذكراتك تصلح لتكون رسائل متبادلة، هل لو
لم تكن مأسورا لكان اهتمامي متوجها نحو شيء آخر غير أدبِ السجون؟ ذات يوم
تخيلتك رجلا من رجال عبد الرحمن منيف في شرق المتوسط، وبدأت أحبّك وأتعاطف
معك عن ظهر رواية. هل علم سجّانوك الفراغ الذي زرعوه داخلي وأخذ ينتشر على جلدي بخبثٍ مع فوضى الوقت والمساحة، وعبث سنوات كنت أعيشها يتيمة. كنت أكذب على نفسي، أقنعها أني سأتعرف عليك ذات يوم، عندما كنا أطفالا علمونا قصة الراعي والذئب، الراعي الذي كان يكذب على أصدقائه
ويصرخ "الذئبُ أكل خرافي" وحين يهلعون لينقذوه، يكتشفون خداعه، وفي المرة
الثالثة حين أتى الذئب حقا، لم يستجب أحد من أصدقائه لصراخه، لأنه كاذب.
علّمونا أنّ الكاذب لا يقف إلى جانبه احد… لم يعلمونا أن الكذب ينقلبُ
حقيقة أيضا.
تنظر إلى الكنبة جانبي ربما
تسعى للبحث عن إخوتي الذين يفترض لو أنّك عشتَ حرّا لأنجبتهم. إلى بيتنا،
أهلا بك أنت الغريب ونحن الغرباء عنك. في ذروة الحزن كنت دوما أجهز نفسي
كيف سأستقبل لقبي الجديد بان أصبح ابنة شهيد، كيف سُأيتّم مرتين، وكيف
ستنسحب من حياتي مرتين دون أن تكون قد دخلتها حقا.
كنت
دوما متفوقة في المدرسة ربما لسببٍ واحد فقط ليجعل المعلمة تستخدمني
كمثالٍ للطلاب وهي تقول " شوفوا إنها تعيش دون أبيها وتفوّقت عليكم
جميعا…ما الذي ينقصكم لتصبحوا مثلها؟؟"، ومائة علامة استفهام تطبع فوق
كينونتي، هكذا من حقيقة سجنك أصبحت أنا مميزة عنهم بغيابك، من قال لها إني
كنت أعيشُ دونك، كل الرسائل تحت سريري طيلة سبعة أعوام منذ أن تلاءمت
أصابعي مع الكتابة، كانت لمن؟ ومن قبلها من يُحصي رسائل الصمت؟ الخريف
ودوما اكتب لك، وأمضي زاحفة نحو العمر، وأنا وأنت لم نمارس الأبوة ولا
البنوة، اجمع الأوراق الصفراء من على رصيف
الغائبين، لأعُد خريف.. خريفان، شجرة..شجرتان، عُمر..عمران، وحدها الأشجار
بصلاتها الواقفة تتعرّى كل خريف لتعلن حاجتها للدفء، اليوم أشفق عليّ
الخريف ودفّأني بك.
لأوّل مرّة يخونني ظنّي وتأتي الوقائع على كتفي أقلّ ألما، وأستطيع حملك، ربما نحن لا نحمل إلا الأشياء الكبيرة، لذلك تستعصِي علينا الأشياء الصغيرة أغلب الأحيان.
هل نستطيع الآن أن نمضِي قدما نحو زمن ما، مسقطين منه ما مضى من عمرك وعمري كلّ على حدة،
لم تشاركني يوما قهوتي الصباحية، ولا سيجارة المساء، غيابك جعلني أكبر
بسرعة وأتجاوز أعمار طفولة لا حاجة لي بها دونك، غيابك أوغلني في صمتي،
مقننة كل الكلمات التي يسعني قولها، مخبئة كل شيء إلى وصولك، الآن أنت
أمامي جسدا وصوتا كاملا، نتعرف كما يتعرف أي عاشقين إلى بعضهما، التقيا في
مدينة ما خطأ، بعودتك لم أعد أذهب إلى مقرات الصليب الأحمر لأتوسّل أبا.
وأنت
تجلس إلى جانبي وتحدثني عن سنواتك الماضية، مذكراتك التي كتبتها مع الفأر
والنملة…الفأر كان رفيق وجباتك غير الشهية. والنملة لتطرق ذاكرتك بحكمة
سليمان وتُحملك على الصبر.
وأنت مسلوب الإرادة هناك وصل سقفُ الأشياء البسيطة التي تتمنى فعلها هي أن
تفتح وتغلق الباب وحدك. تنتظر أن تسمع بالمقابل عن حياتي، أخجل بم أجيبك،
وأنا لا أملكُ من عدّة نضالك شيئا. عمّ أحدثك؟ عن الأبواب التي مازالت تفتح
وتغلق على مصراعيها في وجه هويتي، أو عن حياتي البسيطة على هامشِ الوقت، لذلك وقفت أتفرج على الحياة
وهي تسير… ولم يحدث ما يثير الدهشة أبدا، أتجنب أن أنطق بين كلمة وأخرى
ليتك كنت معي، كنتُ أنتظر خروجك، أتجنب أن أتقاذف كرة تشي بالخراب داخلي،
كل ما انعكس عن جسدي تحت الشمس ظلٌ مقطعا إلى ثلاثة أجزاء، ظل لا يتقن
الاتجاهات الأربعة كان يبحث عن اتجاه واحد يفضي للوصول إليك.
الأحد يونيو 17, 2012 4:56 pm من طرف تابط شرا