خطبتان عصماوان لسماحة المفتي والسيد الرئيس..
سهيل كيوان
2012-01-11
استمعت
في صدفة فضائية إلى كلمة سماحة مفتي الجمهورية العربية السورية أحمد بدر
الدين حسون خلال قداس أقيم لأرواح شهداء سورية في كنيسة القديس في دمشق
يوم الأحد الأخير، سمعتها بانتباه وحذر ثم بنوع من الشفقة والألم.
أولا
على الشهداء وذويهم، ثم على هذا الرمز الديني الذي وجد نفسه في مأزق لا
يحسد عليه، فهو يعرف أن مسؤوليته كرجل دين في مثل موقعه هي قول كلمة الحق
وإن كانت في وجه سلطان جائر، فما بالك بسلطان ممعن بالقتل، سماحته يعرف أنه
قد يغامر برأسه مثلا لو التفت إلى بشار الأسد وفاجأه وفاجأ العالم
قائلا...'سيادة الرئيس المناضل أنت مسؤول عن إراقة كل هذه الدماء
الزكية...' يعرف أنه لن يبقى مفتيا ولا مستفتيا لأنه سيفقد لسانه الذي
سيتشاهد به على روحه هذا إذا مُنح الفرصة ليتشاهد! ورغم هذه الحقيقة
المفزوع منها فهو يبدو متأكدا أن هناك من سيحاسبه إن لم يكن في الدنيا ففي
الآخرة وذلك على تهاونه بل ودفاعه عن نظام سفك الدماء بغير حق، فيحاول أن
يقول كلمة عمومية عن حرمة دم الإنسان قد تؤول في يوم ما بأنه قصدها رسالة
مشفرة للنظام فتحسب في ميزان حسناته، ولا شك أن سماحته يبتهل ليلا ونهارا
بأن تنزل الرحمة على قلب بشار الأسد وذويه وأنسبائهم فيستفيقون في صباح يوم
ماطر ويعلنون رفضهم للحلول الأمنية ويدعون الإخوة المواطنين إلى حوار
حضاري للوصول إلى حل للأزمة، ثم يعلنون أن الدستور ليس قرآنا ولا إنجيلا
وأن دماء الناس أغلى بكثير من كراسي وطاولات السلطة وما تحتها، ولا شك أن
كلامه عن أخوة السوريين ووحدة مصيرهم بكافة طوائفهم أثار المشاعر وحرّضها
على المحبة والتسامح وأذكى المشاعر القومية، ولا شك أن كلماته وهو يتحدث عن
الشهداء وخصوصا الأطفال قد خرجت من قلب مكلوم فهو ثاكل فقد نجله (سارية)،
ولا شك أن الأمثولات التي ذكرها عن مواقف مشرفة لشخصيات من شتى الطوائف في
تاريخ بلاد الشام الحديث والقديم رائعة وليست مفاجئة ولا غريبة عن أبناء
أمتنا، ولكن الغريب حقا هو هذا النظام الذي يجيّر كل هذه الدماء الطاهرة
حتى دماء من قتلهم هو برصاصه لصالح بقائه في سدة الحكم.
سماحته دعا الى
المحبة والتسامي فوق الجراح وهذا رائع، ولكن من الذي اختار الحل العسكري،
ومن الذي جر رد الفعل العسكري وحتى الإرهابي على العنف والقتل والإرهاب
المنظم!سماحته دعا من يحكم بأن يحكم بالعدل بين الناس وهذا أيضا كلام رائع،
ولكن هذا الكلام لا يمكن توجيهه لمعارضة لم تكن يوما في الحكم ولا يسمح
لها الدستور أصلا أن تصل الحكم ليعرف الناس خيرها من شرها، وعليه فهذه
الموعظة الحسنة مردودة على من يجلسون في سدة الحكم، فهم المطالبون بالتعامل
مع الناس بمساواة بغض النظر عن قدرتهم على دفع الرشوة وعلاقات النسب
والقربى مع المسؤولين، وبما أن الرئيس وسلفه وحزبه يحكمون البلد منذ نيف
وأربعين عاما فهم المطالبون بعدم التمييز بين الناس على الأسس المذكورة
أعلاه، والعارفون بالوضع السوري الداخلي يذكرون بالدلائل القاطعة والأسماء
أن النظام السوري ليس جمهوريا ولا ملكيا ولا ديمقراطيا ولا حتى حزبيا، بل
هو نظام هجين من الملكية والفاشية العسكرية والحزبية، وبلا شك أن هناك مئات
الآلاف من كوادر الحزب غير متساوين في الفرص مع رفاقهم من أقرباء وأنسباء
العائلة المالكة، وبالتأكيد هناك مئات الآلاف من الانتسابات الشكلية للحزب
بهدف التقرّب من صحن السلطة والحصول على امتيازات وتسهيلات في مواجهة
متطلبات الحياة غير الرفاقية...
أعجبني سماحته عندما قال ما معناه 'إذا
لم يكن هناك إكراه في الدين فكيف تكرهون الناس على الإيمان بمبدأ أرضي واحد
'وهذه يا سماحة المفتي كانت لمعة وإضاءة منك، فكأنك قصدت القول للنظام
ورجاله' كيف تفرضون على الشعب حزبا وعقيدة حزبية أرضية واحدة ومرشحا رئاسيا
واحدا وحلا أمنيا واحدا، وحتى الدين ليس فيه إكراه'! ولكن لم أفهم قصد
سماحته عندما قال مخاطبا المعارضين 'عليكم أن تقنعونا بطرحكم الفكري في
الحوار والنقاش فإذا أقنعتمونا بفكركم سنضعه على رقابنا'! كيف نترجم قوله
هذا..فهو يعرف أنه لا يوجد أي مجال لإقناع أحد في السلطة بأي وجهة نظر غير
تلك الوجهة التي يعرفها حضرته...ويعرف سماحته أنه لو أتى الفاروق عمر بن
الخطاب وجلد ابنه في سوق الحميدية أمام الجمهور وحاول إقناع الرفاق بأن
يجرّبوا حكمه لعله يكون أكثر عدلا من معبودهم بشار الأسد لاتهموه بفبركة
جلد ابنه وتلقي الأوامر من الفضائيات العميلة...
ثم تساءل سماحته
كيف سيواجه قاتلو الأطفال ربهم يوم القيامة..نعم يا سماحة المفتي كيف
سيواجه قتلة الآلاف من أبناء الشعب السوري بعربه وأكراده ربهم يوم القيامة،
يوم لا تنفع بطاقة حزب أو طلائع ولا نسب ولا وساطة مسؤول، كيف سيواجهون
ربهم المطلع حتى على ملفات الشبيحة والمخابرات، ماذا سيقول من جرّوا فئات
واسعة من الشعب إلى دبكات الموت لأنهم هتفوا 'ما منحبك...انقلع ما بدنا
نشوفك..' وهل من حق أي إنسان مهما كان متعصبا لشخص أو لحزب أو لعقيدة أن
يقتل إنسانا لأنه خرج هاتفا ضد الرئيس حتى لو كان الخليفة عمر بن عبد
العزيز...
أما عندما دعا سماحته 'الرئيس الشاب' لمحاربة الفساد
'ونحن من ورائك' فقد ذكّرني بأحد نصوص الماغوط 'خليفة العصر ورعيته'، فبعد
كل الجرائم والفواحش التي مارسها الزعيم بحق الرعية يسألهم عن رأيهم فيه
فيقولون 'والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا'! سامح الله مفتي
الجمهورية وخلصه من ورطته ورحم شهداء سورية الحبيبة، وكل دمائهم سواء كانوا
موالين أو معارضين يتحمل وزرها النظام، وهذا ليس حكما عشوائيا أو مزاجيا
فقد أكده السيد الرئيس في خطابه الأخير، الذي نستشف منه أن النظام لم يعد
قادرا على مراجعة حساباته وقرر المقامرة، وأنه سوف يمضي حتى النهاية إما أن
يقمع المنتفضين ويخرسهم أو أن يخسر كل شيء، رهان سيادته الآن هو على أن
الشعب السوري بحسّه القومي والوطني سوف يختار أهون الشرّين بين البقاء تحت
حكم نظام فاشي قمعي لا قيمة عنده لأرواح الناس أو الحرب الأهلية التي لن
تبقي ولن تذر، ولهذا هدّد وتوعد وكاد يعلنها صراحة بأنه يمسك بخناق البلد
كرهينة، فإما نحن وإلا فالحرب الأهلية، أما بالنسبة للجامعة العربية وقضية
القدس وفلسطين فما قاله سماحة المفتي وسيادة الرئيس صحيح ولاغبار عليه
فالجميع مفلسون ومتخاذلون، ولكن ألم يكن نظام الأسد وما زال جزءا من هذه
المنظومة المرذولة من أنظمة القمع والفساد العربية، أم أنه يريد مكافأة
لأنه يفطّن المجتمع الدولي بين حين وآخر بأن أرضه محتلة في الجولان ولهذا
يجب السكوت على جرائمه بحق شعبه.