حميد المختار
كيف يمكننا أن نوثق صفحات الجمر التي مر بها الشعب العراقي ونحن الشهود
والشهداء؟ وهل يكفي أن نطلق عنان الذاكرة في ساعة تأمل وملل؟ أم أن نستسلم
لرغبات الفضائيات وهي تجري المقابلات التلفازية معنا نحن الأدباء والسجناء
السياسيين لكي نستدر العطف من سرد صفحات الوجع والآلام؟ أم نطوي كل شيء في
زاويا النسيان ونهيئ الذاكرة لصفحة آلام جديدة؟.
أعتقد أننا ينبغي أن
نؤسس لأدب السجون كما هو معمول به وموجود في معظم بلدان العالم ضمن آدابها
سواء في صفحات الحروب المدمرة أم مذكرات معسكرات الاعتقال في روسيا
وألمانيا وأوروبا الشرقية وغيرها، ممن تأسس لديها أدب السجون الزاخر بألوان
الآهات والأوجاع المؤرشفة في وثائق عبر نصوص أبداعية، شعراً وقصة وروايات
ومقالات وبحوثاً ومذكرات.
لابد من دراسة وتأمل أحوال الناس وهم يتعرضون
لأبشع أنواع الامتهان والذل في سجون الأنظمة القمعية، لابد من وضع حيواتهم
على طاولة التشريح والدراسة والخروج بنتائج على ضوء علوم الاجتماع
والسياسة والمعرفة، لابد من كشف الوجه البشع للأنظمة الشمولية والاستبدادية
فضلاً عن تحرير المجتمع من عبوديته وخوفه حال تعرفه على نماذج من أدب حر
يحضُّ على الرفض والتحدي والإفلات من ربقة القيود وتحطيمها، وكذلك فأدب
السجون يقوم بتوثيق مراحل العذاب التي يمر بها الإنسان في السجن وجعلها
وثيقة مهمة تنقل خبرات ومعاناة المجتمعات التي مرت بتلك التجارب القاسية
وتعطي فرصة للباحثين والمؤرخين الذين شغلتهم القضايا التي تحت الضوء فقط من
غير الاهتمام بقضايا أناس القاع وتاريخ الظلمات.
هذا ابيضا يقود إلى
محاولة معرفة طبيعة الشر وعلاقته بالنفس الإنسانية دون الوقوع في مطب الحقد
والابتعاد عن لغة التشفي والشماتة، التي كثيراً ما يقع فيها السجانون
والجلادون وأرباب الظلام، وأدب السجون يؤكد وحدة الشر وشموليته في الزمان
والمكان ووحدة ضحاياه على خلاف انتماءاتهم وأعراقهم وعقائدهم، وهو ما كان
يحصل في سجن العراق الكبير في الحقبة المظلمة للنظام المقبور، ويجب أن يكون
هذا الأدب رافضاً لحالة الذل والهوان والاستسلام للانظمة القمعية في
تقديمه نماذج لحالات الإنسان وهو يدافع عن ذاته ومجتمعه من خلال وقوفه بوجه
الطواغيت والتضحية بالنفس إن تطلب الأمر ذلك.
ولابد من المحافظة على
فنية النص وعمقه وهو يقدم ثيمة العذاب تلك، ولا ينزلق في هاوية الاستسهال
والتعبئة، وهناك رأي مهم لأحد كتاب الحقبة السوفيتية الذي كان معتقلاً في
السجون يقول: يجب عدم تشويه البشاعة بجماليات الأسلوب، فجمال البشاعة في
بشاعتها... وهو إنما يؤكد استخدام الوثيقة في النص التسجيلي سواء في
الرواية أم غيرها، وهكذا تأتي أهمية أدب السجون ليس فقط بالرغبة للتضامن
الإنساني مع مصائر البشر المسحوقين خلف الأسلاك الشائكة، بل لأنها حاجة
معرفية لا يقدمها أي عالم آخر، إنها حاجة إلى معرفة دقائق أسلوب البشرية في
عالم أشد شذوذاً من كل العوالم التي تضحكنا وتبكينا، اختم مقالي هذا
بقولين الأول لهرمان هيسه يقول: لا يعد حكيماً من لا يعرف الظلام، ونيرودا
الذي يقول: عندما يفكر الانسان بالنور، فهو ذاته الذي يضيء...