فسحات للغبطة والنضال والفوضى العارمة
في 1983 استهلّت احدى الصحافيات من فريق تحرير مجلة "باريس ريفيو"
الأميركية الفصليّة الأثيرة حوارها مع الكاتبة الجنوب الافريقية نادين
غورديمير بالسؤال الآتي: "هل ثمة مواسم في جنوب افريقيا او أن الحرّ يسود
على مرّ العام؟". اضطرّت الكاتبة التي ستحصد جائزة نوبل للآداب بعد زهاء
عقد من ذلك التاريخ، الى ان تستحيل عالمة ارصاد جويّة في هنيهة فتنصرف الى
مدّ محاورتها بدرس تلقيني يتمهل الأنماط المناخيّة في بلادها. اجابت: "اجل
ثمة مواسم. تصير الفروق بين المواسم طفيفة في البلدان الواقعة على خط
الاستواء". أحدثت المقابلة جلبة يومذاك، ويسهل تفهّم ان يحرج تذكّرها كاتبة
استخدمت التجريب السردي لإعلاء اليوتوبيا. لكن الحكاية تؤشّر الى غلبة
التعتيم على نثار بعض الجغرافيا وكيف يطيب لأبناء العالم المصنّف اول ان
يتجاهلوها في لذة ساديّة لافتة.
عاشت نادين غورديمير في افريقيا
متجاوزة عيش حياة اللغة الإفريقية. في زحمة الإنشغال السياسي والأدبي وفي
معقل الصداقة كذلك، حصرت لسانها التعبيري بالإنكليزية، لتبقى كاتبة العرق
الأبيض صمّاء تجاه مسألة عضوية في ثقافة جنوب افريقيا السوداء التزمتها
وانتمت اليها كتلة متراصّة ووحدة لا تتجزأ. بيد ان القصور الشكلي لم يمنع
تمديد الفتوحات الروائية في نصوص كاتبة انصرفت الى البحث عن هيئة ادبية
تلائم وضعها، فجعلت تعزيز النسبيّة السردية وتعدد الصوت اسلوباً لتظهير
تعقيد الحال التاريخية في مسقطها. مضت الى تفكيك المقاربة السلطوية
الأحادية المنوطة بالأدب الاستعماري.
تسخّر نادين غورديمير "ازمنة
القصّ: أن أكتب وأحيا، 1954-2008" الصادر حديثا بالانكليزية، لجمع أبحاثها
ونصوصها النقدية وافتتاحياتها، وتسجيل أرقها الوجودي، ناهيك بسخطها
الاخلاقي. تتحدّر المرأة من العرق الأبيض المقزّم بحكم الديموغرافيا
والمضخّم بحكم السطوة السياسية لسنوات طويلة. لكنها ابكرت في اعتراضها على
نظام التمييز العنصري لتصير بعدذاك اشدّ التصاقا بالتأمّل واكثر وعيا
لمطرحها الذاتي. في الابحاث والمحاضرات والمقالات التي يضمها الكتاب، نلتقي
غورديمير الشخصية العامة خصوصا، لأنها لا تكتب إلاّ لماما عن حياتها
اليومية وعن طفولتها ومراهقتها. خلا صفحة الإهداء، لا يبين اسم رينهولد
كاسايرير، زوجها لنحو خمسة عقود الى حين وفاته في 2001، سوى عند نهاية
الكتاب ليستحوذ على ندرة تجلب السرور. تفيد غورديمير انها لا تعدّ الفوز
بنوبل للآداب افضل لحظات حياتها، انما أفضلها كانت مناسبة اجتماعية في
الخمسينات من القرن المنصرم بعيد زواجها. تروي: "تقدّمت سيدة اجهل هويّتها
وكنّا نمسك بكؤوس الكحول. بان رينهولد عند عتبة الباب، فالتفتت المرأة
وسألتني بحماسة جلية من يكون الرجل الرائع؟ فأجبتُ انه زوجي"!
بيد انه
تُرك للسعادة وليس الواجب مسؤولية توفير الوحي لمعظم نصوص الكتاب. تذهب
غورديمير الى رصد صعوبة المصالحة بين الواجب والسعادة، او إذا اردنا وضع
الأمور في سياق مختلف، تسود في المواد المقترحة متطلّبات السياسات فيما
يتراءى الوحي مسألة مبهمة. تكتب غورديمير في 1983: "هناك مُطلقان في حياتي.
احدهما ان العنصرية توازي الشرّ وهو العقاب الذي أُنزل بالانسان في العهد
القديم، وليس هناك تاليا تسوية او تضحية اعظم من ان يستخدم المرء
لمواجهتها. اما المطلق الثاني فذوبان ازدواجية الباطن والعالم الخارجي عند
الكاتب ككائن. لا ينبغي لأحدهم ان يشقّ هذا الاتحاد".
يغطّي الكتاب
خمسة عقود ويشمل نحو خمسمئة صفحة بين البحث والملاحظات والخطب، فحواها ان
نظام التمييز العنصري السياسي او "النمو المنفصل" على ما راق لـ
"افريكانير" تسميته في مسقطها جنوب افريقيا، ترسّخ خطيئة فادحة. تثبّت
النصوص الحجة المناهضة للتمييز العرقي بنمط اعتذاري وتعمل على تدجين اقتضاب
اللغة. يصير أسلوب غورديمير الماهر والمتوتر والرشيق سميكا وحسيّا احيانا
وفق مستلزمات الموضوع. تروي على سبيل المثال مصوّرا وكاهنا وناشطا سياسيا
اقتيد تحت جناح الظلمة الى احد المعتقلات: "أظهر النور المنبعث من الفحم
المحترق المتوازي الضلع يدين ضامرتين مكبلتين على نحو وثيق فضلا عن أصابع
طويلة متشابكة بدت كقبضة متضخّمة. انها من صنف أيادي ابناء العرق الأبيض.
خيّمت العتمة فوقهما من جديد الى حين بلوغ ألسنة الضوء طوق ياقة الكاهن
الفاتحة البيضاء لتسترد من دنيا النسيان ثلاثة ارباع الوجه".
تمارس
غورديمير كتابة مسيطرة تدين الى حلقات عدة من الاهتمام. نقع في الكتاب على
قواعد لغوية باطنية تستعير أدواتها من حرفة سطت على القرن المنصرم وتلمّست
ايجاد قواميس لأعراف جديدة. نجد معانقة للغبطة اللامحدودة والتحاماً
بالمساواة والنشاط الذاتي والحرية. والحال ان صوت غورديمير لم يتخاذل يوما
في الإنتحاب بغضب وأسى على همجيّة الخواء الإنساني وعلى محدودية المبادرات.
أفردت في رواياتها الأربع عشرة ومجموعات قصصها القصيرة، مساحة لشخوص
حيويّة وجمل، مربطها الاستحواذ المسيطر. لا يصلح التوصيف لهذه الأعمال فحسب
وانما يرافق الكتاب الأخير المبعثر في واحد وتسعين نصّا توقظ الأساسي من
منجز غير تخييلي، لكأنه هبة سيدة الآداب الإفريقية المهيبة العجوز في عيدها
السادس والثمانين. غير ان ما تأتي به يماثل الفوضى العارمة، لتشظّيه بين
البحث والنقد الادبي والرثاء والرسائل الخاصة ونصف الذاتية، ناهيك
بالمقالات الصحافيّة والمحاضرات وادب السفر. اعتمدت الكاتبة ها هنا الهيكلة
الكرونولوجية على عكس مجموعتها غير التخييلية "الحركة الأساسية" (1988)
حيث لحقت بخيط الموضوع، بينما يتسلل اسلوبها ويهرب ويثب. تعرّج تاليا في
غضون صفحتين على ضمير الغائب يلي ضمير المتكلم، ثم تتعثر بنسق ضمير متكلّم
مفرد وجماعي في آن واحد. اما صوب الخاتمة فتقترف اثم مقابلة نفسها بعدما
ضاقت ذرعا من "الصحافيين الأغبياء الحكماء سالكي درب الحجّ الالزامية الى
منزلها في جوهانسبورغ".
أعدّ الناقد والكاتب الموهوب ستيفن كلينغمان
مقدمة "الحركة الأساسية" وكان "أزمنة القصّ: أن أكتب وأحيا، 1954-2008"
(دار نورتن) يحتاج لأن تمتد إليه يدّ مساندة مماثلة. ثمة نصوص لا نجد لها
جدوى او مبررا في السياق العام مثل ذاك الزغب الكتابي في نص يتناول انضواء
غورديمير ضمن لجنة تحكيم مهرجان كان السينمائي. لا يسعها تفادي التكرار
كذلك، فتقتبس مثلا ثلاث مرات قصيدة واحدة للشاعر الجنوب الإفريقي مونغاين
والي سيروت. يصعب ايضا إيضاح مناسبة بعض النصوص والجمهور الذي تستوقفه
لاغفال تذييلها بمكان النشر والإكتفاء بدلالة يتيمة على عام الكتابة.
نشعر
في لحظات ان الكتاب يخدم كمكبّ للمهملات حيث تقذف غورديمير كل مسوّدة
كتابيّة في حوزتها، وهناك تفصيل آخر يُظهر بما لا يحتمل اللبس تضعضع
الكاتبة. ذلك ان العنوان الفرعي يشير الى عامي "1954-2008" فيما ينتهي
الكتاب قبلذاك بعامين ويقفز على حادثة من شأنها تغذية نص روائي. كان في وسع
غورديمير ان توثّق كتابيا لحالها في اعقاب تعرضها لعملية سطو في نهاية
2006 حيث اقتحم اربعة رجال منزلها في باركتاون، وهو احد احياء جوهانسبورغ،
وسلبوا مجوهراتها وسيارتها واموالاً قبل ان يحتجزوا اشهر كتّاب الأمّة
ومدبرة منزلها العجوز في مستودع البيت. على ما يتراءى، لم يعِ السارقون
هوية غورديمير او ربما لم يأبهوا فحسب.
في بحث يعود الى 1973 بعنوان
"الشعراء السود الجدد" لا تسمح غورديمير لتعاطفها السياسي الملحّ ازاء هذه
الفئة بالتستر على واقع ان عددا كبيرا منهم "ليسوا شعراء اصلا، وانما ناس
تمتعوا بالكاد بشيء من الموهبة، غير انهم يحاولون استخدام بعض المواثيق
المنوطة بالشعر بغية الإفصاح عن مشاعرهم على نحو يأمل كثيرون بأن يسمعوه".
غير انها تشدد ايضا على ان مجموعة من الكتّاب السود انعطفت صوب الشعر لأن
"الموضوع المثير للجدال متى ارتدى وسيلة معبّرة نثرية عامة جعل صاحبه
مشتبها فيه في حال كان اسود" واخضعه للرقابة تاليا. والحال ان الرقابة من
ضمن ثلة موضوعات استهدفها غضب الكاتبة المتكرر.
منعت ثلاث روايات من
مكتبة غورديمير في جنوب افريقيا لأنها عكست روحها ناشطةً أخلاقية ومستشرفة
في مضمار السياسة وأيقونة أدبيّة في الحدّ الأدنى. نرقبها تشرّح قوانين
الرقابة في بلادها وتبين ان اهتمامها البادي بالحشمة العامة مجرد عذر لقمع
المعارضة. عندما ازيحت روايتها "ابنة برغر" من قائمة الحظر في 1980، اعترضت
على محاولة لرشوتها من خلال معاملتها بشكل تفاضلي ولم يفتها ان تشير الى
ان استثناءات ملكوت اهل الرقابة لم يفسح لأي عمل لكاتب اسود. شدّدت على
اعلان موقفها سيدةً آمنت بأنه ينبغي لبلادها التخلص من التمييز العرقي قبل
التخلص من مقصّ الرقابة.
تضمّن غورديمير كتابها الأخير نصف دزينة من
الأبحاث تتناول الرقابة فحسب، فيما كان يمكن واحدا او اثنين ان يكفيا، بيد
ان ذلك القصور لا يستولي على عمل يحمل الكثير من فسحات الغبطة. لا يستنفد
الكتاب معركتها لإحلال العدالة والمصالحة وانما يعرض لقصة وطن بدءا من
الايام الجنينية لحكم كولونيالي الى حين الانقلاب على نظام عنصري غير بشري.
يبلغ مسحها اعواما متقدمة لاحقة طبعت بمحاولاتها في الخط الامامي صدّ
أخطار الإيدز والعولمة والعنف الاثني.
يؤرقنا جميعا الاستفهام الغابر
والضروري الآتي: كيف يسعنا ان نعيش؟ فتشت غورديمير عن مواجهة استبداد نظام
موروث طمعاً في اجابة، في حين لم يستملها الدفع بآرائها الى حدود تحدّي
عادية اجتماعية تنبذ فرديتها لتحفّز تطويب موهبتها الفنية. يشارك القارئ في
"أزمنة القصّ: أن أكتب وأحيا، 1954-2008" في نشوة غورديمير عند اطلاق سراح
نيلسون مانديلا كعلامة ظفر قضيّة ناضلت من اجلها على مرّ حياتها. ترتفع
هذه الفترة الزمنية بالكتاب الى الذروة، في حين تبين الأبحاث اللاحقة ضمورا
في الطاقة الأدبية وفي الوضوح المفهومي احيانا. ذلك ان اقتناعات غورديمير
اليسارية ويا للأسف وبعدما اشعلت اعتراضها طوال عقود، غدت تظهر عقائدية
مرهقة.
في مجموعة من الحوارات اعربت الكاتبة عن ضيق صدرها ازاء التيار
النسوي، ورأت تحرر النساء مجرد دعابة في جنوب افريقيا، وهذا موقف ينمّ عن
مفارقة في ما يعني كاتبة معارضة لنزعات القمع في المطلق ولا سيما قمع
النساء. تجد غورديمير ان ثمة قواسم مشتركة بين الرجل الابيض والمرأة
البيضاء تزيد على تلك التي بين المرأة البيضاء والسوداء. تؤكّد ان قواعد
أخويّة لون البشرة تتجاوز قواعد أخويّة الجنس، ذلك أن ولاء الجنس هامشي في
المقارنة مع ولاء العرق.
تكاد غورديمير تجزم ان الكاتب التخييلي طراز
خاص من الكائنات الاندروجينية تطفو في نصه نتوءات تختصر جميع الأجناس
والأعمار والناس الذين عرفهم. والحال ان غورديمير المرأة تصير في دور
الكاتبة اختزالا لإدراك هجين ممتع، يجتذبها ويجتذبنا معا.