حين تجتمع أيقونتان في عمل فني واحد فلا بدّ من أن تكون النتيجة
أيقونية. للأسف، ليس هذه المرة. الانطباع الأول: أنك سمعت هذه الأغنيات من
قبل. السبب أنك بالفعل سمعت هذه الأغنيات من قبل، وهذا يقود إلى الانطباع
الثاني: السأم من سماع هذه الأغنيات. لا يقتصر الأمر على الرتابة والتكرار
ضمن الأعمال الأخيرة من التعاون المستمر بين زياد وفيروز منذ أكثر من ربع
قرن، بل نحن هذه المرة أمام رتابة وتكرار ضمن أغنيات الأسطوانة الواحدة.
إذا استثنينا الأغنيات الأخرى القليلة، والمقطوعتين الموسيقيتين، إعادة
توزيع "البنت الشلبية" من دون إضافات فعلية (كما رأينا في "إلى عاصي"
مثلاً) سوى ربما كحجّة في سجال حقوقي على الميراث ضمن الأسرة الرحبانية،
وأغنية "بكتب أساميهن" الركيكة وشبه الطفولية، و"الأرض لكم" التي ربما
يحاول من خلالها زياد إسقاطاً ما على الأوضاع الراهنة، وهذا سأعود إليه.
إذا استثنينا ذلك فإن ما يتبقى من أغاني "الحب" وهي أساس الأسطوانة وراسمة
مزاجها العام، كناية عن مرثية مستمرة طويلة للحب نفسه. أكثر من ذلك، بيان
خطابي في إدانة الرجل (لا الطرف الآخر في العلاقة، أي الذي يمكن أن يكون
الرجل أو المرأة، أي الشريك، في حالة فقدان الحب وخيبة الأمل منه، بل الرجل
تحديداً)، لأن هذا الرجل كذاب وفاشل وأناني وخائن ويفتقر إلى الإحساس.
"لشو تقنعني بغرامك فيي/ ما الكذب متل الشمس بتشوفو من الفي"، "مفوّتني
بطريق ما بتودّي" (ما شاورت حالي)، "أخبارك يعني كلا منيحة/ حمد الله يومية
في فضيحة" (قال قايل)، "يمكن أنا مش هيي البنت المفكر فيي/ بس شي إني راح
فلّ رح تتندّم عليي"، "يا سلام على حبّك يا سلام"، "قلك قلقانة وإنت تفوت
تنام" (قصة صغيرة كتير)، "من يومها شو عاد صار ع مدا كذا نهار/ ما صار شي
كتير كل اللي صار وبعدو بيصير" (الله كبير). طبعاً الأغنية الأبرز في
الأسطوانة "إيه في أمل": شو ما تحكي وتشرحلي وتقول/ حبيبي تا نرجع لا مش
معقول"، "بس حبيبي... إحساسي ما عاد يرجعلي من جديد"، "بيذكرني فيك لون
شبابيك بس ما بينسيني شو حصل"، "حبيبي، كرمالي تنيناتنا بنعرف شو صار".
ولإكمال المشهد وتأكيده أكثر وأكثر (وأيضاً للاستعاضة عن أغنية يبدو أنه
جرى التخلي عنها في اللحظة الأخيرة) كان لا بدّ أيضاً من استعادة أغنية
"كبيرة المزحة هاي": "بآخر الليل كونك انت بقيت بتحبني بتقول أو يمكن ما
بتحبني/ بآخر الليل شو هالمزحة هاي"، "ما بعرف كيف بتحس وما بتعرف شو عم
بتحس/ ما بعرف كيف بتحب وما بتعرف إذا بتحب"...
ما هذا؟ الإصرار على
إنتاج هذا النوع من الأغاني، يدفع إلى مثل هذا السؤال البسيط. يدفع إليه
أيضاً ادعاء زياد نفسه الذي بنى من خلاله صورة فيروز الجديدة أو المرحلة
الجديدة من مسيرتها الفنية الحافلة. هذا الادعاء قام على رفض لغة (شكلاً
ومضموناً) سابقة كان الأخوان رحباني قد كرساها، وهي لغة تتسم بالرومنطيقية
المفرطة أو المثالية في كثير من الأحيان، أو باختصار اللاحقيقية، خصوصاً
أمام تجليات الواقع الراهن في ذلك الحين وهو واقع دموي وعنيف وقاس،
والانتقال إلى لغة تتسم بالواقعية واليومية، وتعتمد السخرية والخفة. في ذلك
الحين كانت هذه لغة جديدة، على فيروز وعلى جمهورها، ونسبياً على الأغنية
العربية. لم نعد أمام الحب المطلق، الحب البريء والفتاة التي تجلس تحت ضوء
القمر منتظرة عودة الحبيب الغائب، بل بتنا أمام علاقة الحب، أو لنقل
العلاقة بين الرجل والمرأة، وهذا جرى تقديمه على أكمل وجه في "كيفك إنت"
الذي شكّل منعطفاً كبيراً في مسيرة فيروز. تمّ قبول هذه اللغة "الجديدة"،
الخفيفة الساخرة أو غير الشعرية بالمعنى التقليدي للكلمة، أولاً بوصفها
جديدة، وثانياً بوصفها نقداً للغة سابقة وبديلاً منها. الآن، بعد كل هذه
الأسطوانات والأغاني التي أنتجها زياد وفيروز على مدى العقدين الماضيين،
ألا يزال ممكناً قول الكلام نفسه؟ أم أن ما حصل مع مرور الزمن هو ببساطة،
الانتقال من نمط إلى نمط، وخلال هذا الانتقال لم تعد لغة زياد هي الهامش
المحتجّ على متن سابق، بل باتت في حد ذاتها متناً؟ حتى زياد نفسه، لم يعد
يطرح هذه اللغة كبديل من أيّ شيء، بل بوصفها اللغة التي يتحرك في حيّزها.
ولم تعد حتى السخرية عنصراً أساسياً، بقدر ما باتت واحداً من العناصر التي
تشكّل هذه اللغة. حين كان زياد يسخر من تراكيب مثل "دوالي وعبالي
وليالي..."، كان هذا مقبولاً وربما مطلوباً بسبب حال السأم من النمط
الغنائي القديم، لكن ها هو زياد يكرّر المعادلة نفسها من دون واجهة السخرية
حتى، وبأقل قدر من الجهد الخلاّق: "في ماضي منيح بس مضى/ صفّى بالريح
بالفضا" (مجدداً: ما هذا؟)، "شوف القمح اللي بيطلع بسهول/ شوف المي اللي
بتنزل ع طول"، وغيرها من أشكال الركاكة التي تحفل بها كلمات الأغاني.
لندع
هذا جانباً. المشكلة الأساس هي ما سأسميه بشيء من المبالغة - إنما غير
الخالية من عناصر حقيقية - بـ"النسوية" التي باتت تسم بصورة متصاعدة، تكاد
تصبح إيديولوجية، هذه التجربة بين زياد وفيروز في ما يخص أغاني الحب.
يحيّرني الأمر حقاً: هل يتبنى زياد هذه اللغة انطلاقاً من تعاطف بالغ مع
المرأة المخدوعة المخونة المحرومة من الحب، أم استجابة لتصورات أو حالات
تريد فيروز قولها؟ من الذي يتكلم في هذه الأغنيات؟ ليس هذا ولا ذاك. كل ما
في الأمر أن هناك محاولة "تقنية" طويلة ومستمرة، تنجح حيناً وتخفق حيناً،
لاستعادة لحظة "كيفك إنت" المجيدة بوصفها ذروة نجاح المعادلة بين المغنية
الأيقونية والمؤلف العبقري. خلال هذه المحاولة يبدو أن النمط الأسهل،
الأقرب ربما إلى الحساسية الأنثوية، هو الذي انتصر، لنجد أنفسنا أمام مرثية
تكاد لا تنتهي، تنعى الحبّ وانتهاء العلاقة وتشجب الرجل (نجد ذلك عينه في
مونودوز)، تقريباً بالكلمات والعبارات نفسها، أغنية بعد أغنية. الكثير من
النساء سيحببن الأغنيات الجديدة لما تتضمنه من انتصار لهنّ على الرجل
(للأسف هذه المساحة التي تتيحها هذه الأغنيات لا أكثر، ثنائية الرجل
والمرأة). سيحببنها، لكن ليس بوصفها أغاني، بل بيانات وتعاويذ.
نحن
إذاً أمام لون واحد من الحب، ومنطقة واحدة تقريباً متصلة بالعلاقة بين
اثنين. إذا كان ما نسمعه هو مجرد أداء من الفنانين معاً، بمعنى أن زياد
يصنع ما يناسب غناء امرأة مثل فيروز، وفيروز تؤدي هذه الأغنيات، فيمكن أن
يطالب المرء بأن تتسع مساحة هذا الأداء. هل الحياة كلها امرأة ترثي رجلاً
خانها أو لا يعرف كيف يحبها؟ هل هذا فقط ما يمكن انتظاره من أهم مغنية
عربية، يفترض أنها تتجاوز كونها مغنية إلى كونها "ضميراً"، "ملاكاً"، وسوى
ذلك من صفات الرفعة والسمو ومخاطبة الحسّ الجماعي العربي، لا اللبناني
فحسب، الذي اكتسبته عن حقّ على مرّ عقود من الغناء؟ ننسى أحياناً أن فيروز
اكتسبت هذه المكانة بسبب المساحة العريضة التي تحركت ضمنها، بما فيها
المساحة التي شكلها تعاونها مع زياد. غنّت فيروز شتى المراحل والحقب
والتحولات والحالات، غنّت بلاداً وأوطاناً وأفراداً وعشاقاً وطبقات
وتواريخ، وإن كثيراً بصورة غير مباشرة. حتى الحب غنّته في حالاته الكثيرة
والمتعددة، أما اليوم فهذه المساحة تكاد تكون مغلقة تماماً. لا استعارة عن
أيّ شيء آخر يمكن العثور عليها في أغنيات الأسطوانة الجديدة، أما "الأرض
لكم" فلا تتجاوز كونها بياناً إنشائياً ضعيفاً، ناهيك بأنه مكرّر، على
أوضاع أعقد بكثير من الدعوة إلى الأخوة. في زمن عاصف كزمننا، لا بأس
لأيقونة العرب بأن تخرج قليلاً من الغرفة. ليس المطلوب بياناً سياسياً ولا
تعليقات على أحداث مباشرة، بل تفاعل فني ووجداني وفكري، وحده صوت فيروز
يتسع لمثله اليوم. أم أن عقيدة الانفصال المسيطرة على معظم أغنيات الحب بين
زياد وفيروز، استعارة عن انفصالات أخرى أوسع وأكبر؟ بالطبع، وكالعادة، لا
فيروز ولا زياد يشعران بأنهما معنيان بالإجابة عن مثل هذه الأسئلة التي
ربما توضع في خانة "مؤامرة" ما، وهي من المساحات الأخرى الضيقة التي بات
صوت فيروز أسيرها