هكذا قتلوا ذاكرة باميان في آذار (مارس) 2001 أمر الملا
عمر بصفته القائد الأعلى لحركة طالبان بتدمير تمثالين طول أحدهما 39 متراً
والآخر 55 متراً، لأنه رأى فيهما مخالفة لتعاليم الاسلام. بعد عشرة أعوام
على هذا التدمير، لم يتم ترميم هذين التمثالين اللذين يشكلان ثروة أثرية
عمرها اكثر من 1500 عام. إنه العالم يشهد على قتل ذاكرته ولا يتحرك.تدمير تمثالي بوذا في باميان قد لا يكون الحدث الأهم في تاريخ افغانستان
لكنه حدث يبقى عالقاً في الذاكرة، ونسف التمثالين الذي استغرق شهراً
كاملاً بالدبابات والمدافع والصواريخ يعتبر عملاً همجياً لأنه استهدف أحد
الموروثات الحضارية العالمية التي تجسد الحضارة الأفغانية وأصالتها
التاريخية.
ومعروف ان التمثالين يعودان الى عصور مغرقة في القدم، وأن
طالبان التي ترى ان نحت التماثيل على شكل الانسان حرام، لأنه يجعل الانسان
في مرتبة الخالق، أرادت محو آثار كل تراث ديني غير اسلامي، ولو كان يعود
الى ما قبل الاسلام. والى جانب التمثالين دمرت طالبان كل القطع الأثرية
التي تعود الى الحقبة البوذية المعروضة في المتحف القومي في كابول.
وباميان،
الواقعة في وسط أفغانستان، كانت سابقا من أهم مراكز البوذية الواقعة على
طريق الحرير، الذي كان في العصور القديمة همزة الوصل التجارية بين آسيا
وأوروبا. وقد أثّر التعايش بين التقاليد الهيلنية والبوذية بصورة كبيرة على
الطراز الفني في قندهار القديمة، التي تشكل اليوم المنطقة الحدودية بين
أفغانستان وباكستان. هذا الطراز انعكست أثاره بشكل واضح في نحت تماثيل بوذا
الكبيرة. ففي قندهار تعرف الفنانون والحِرفيون الإغريق على فن وثقافة
الأسلوب البوذي.ورغم أن الأبنية المعمارية والتصوير الجصي وفنون النحت
والصور المعمارية البارزة على الجدران تُظهر تأثير الاتجاهات الفنية
المختلفة، إلا أنها تحولت من خلال التعايش إلى أسلوب فني خاص وجديد على
الإطلاق. هكذا نشأت في الفترة بين القرن الأول والخامس الميلادي أهم
الثقافات العالمية المختلطة.
وتدمير التماثيل خسارة للبشرية جمعاء كونها
إرثا إنسانيا عالميا. في الأصل كان في وادي باميان ستة تماثيل لبوذا،
ثلاثة منها كبيرة والأخرى صغيرة، وكان بعضها داخل مغاور. كان تمثال بوذا
الأكبر الذي يبلغ ارتفاعه خمسة وخمسين مترا موجودا في الغرب، وفي وسط
المجموعة تمثال لبوذا وهو جالس يبلغ ارتفاعه ثمانية أمتار، وفي شرق الجدار
الصخري تمثال آخر يبلغ ارتفاعه ثمانية وثلاثين مترا. هذه التماثيل يرجع
تاريخها إلى الفترة الواقعة بين القرن الرابع والخامس الميلادي، وكانت في
الأصل مطلية باللون الأزرق، ووجوهها مرصعة بصفائح من الذهب.
كان كل من
التمثالين الكبيرين يلبس جلبابا، احدهما على تقليد الثوب الروماني-
الإغريقي المسمى "توجة". علاوة على ذلك تشير التماثيل في قياساتها إلى
رمزية رقمية باهرة تدل على ارتفاع مستوى التطور الحضاري آنذاك. ويرجع الفضل
في تشييد هذه التماثيل إلى رواج التجارة على طريق الحرير، حيث عم المنطقة
الرخاء واستطاعت توفير السبل التي لولاها لما كان في المستطاع تشييد هذا
البناء الضخم.
لم يرد ذكر تمثال بوذا المضطجع إلا في تقارير رحلات
الراهب الصيني هسوان تسانغ، التي لم يبق لها أثر، ويُقال إن هذا التمثال
كان لبوذا الماهاياني الذي سيدخل الـ"نيرفانا"، وكان طوله 300 متر. ومنذ
أعوام يبحث عالم الآثار الأفغاني ذو الشهرة العالمية زيمريالاي ترزي مع
فريقه الفرنسي عن هذا التمثال، وإذا تم العثور عليه فسوف يعتبر تمثال بوذا
المضطجع في باميان أكبر تماثيل بوذا على مر العصور وانجازاً لم يسبق لها
مثيل.
ولم تكن طالبان أول من اعتدى على أمكنة العبادة ونال منها، فقد
بدأت حملة تحطيم تماثيل بوذا في القرن السابع عشر الميلادي. آنذاك سُرقت
حُليّ التماثيل وأُخذت صفائح الذهب من على وجوهها. وأكبر الظن هنا أن
الدوافع الدينية عززتها المطامع الاقتصادية.
رغم ذلك ظلت تلك المعابد
قبلة للسياح حتى الاحتلال السوفياتي. أما أثناء الحرب فكانت تلك المغاور
تُستخدم كمخازن للذخيرة، وكان الوادي ذا أهمية استراتيجية كبيرة، حيث دارت
بين السوفيات وطالبان معارك حامية.
هل من أمل في ترميم التمثالين؟
عدد
من الدول المعنية، من بينها تايلاند، تضع خططاً لترميمهما، استناداً الى
صور ومجسمات قديمة. والمفارقة ان تماثيل بوذا لم تكن تستقطب اي اهتمام قبل
تدميرها، لكنها حركت الوعي العالمي بعد هذا التدمير. وقد وعدت سويسرا،
وبعدها اليابان، بتوفير الاموال اللازمة لإعادة التمثالين الى مكانهما، كما
أن فريقاً المانياً تابعاً للمجلس العالمي لحماية الآثار تعهد بجمع أجزاء
التمثالين وتوثيقها.
ومستقبل ثغرتي تمثالي بوذا والخيارات لعرض آثار
بوذا كانت من بين المواضيع التي بحثت اخيراً في الاجتماع التاسع لفريق
الخبراء الخاص بباميان في الاونسكو الذي انعقد يومي 3 و4 آذار (مارس)
الحالي. وقد ضم الاجتماع مسؤولين أفغانًا، وخبراء دوليين، وكذلك الجهات
المانحة وغيرهم من المعنيين.
ولا تؤيد الاونسكو فكرة إعادة بناء تمثالي
بوذا، لكن اجتماع الخبراء بحث في سبل أخرى لعرض بقاياها والتجاويف التي
تحتويها، مع الاستمرار في البحث والإبقاء على المشهد الثقافي في باميان.
ويشهد الموقع على غنى المنطقة بمدرسة قندارة للفن البوذي، والتي تكاملت
فيها بين القرنين الأول والثالث عشر، مختلف التأثيرات الثقافية من الشرق
والغرب. وتضم الممتلكات الكثير من المجموعات والأمكنة المقدسة الرهبانية
البوذية