أحمد محمّد أمين
ويسألون عن الحداثة وما بعدها، وأبعادها، كلها مصطلحٌ يشوبه التباسٌ
عويص. فهل الحداثةُ فيما ننتجُ وما نقولُ، أو هي في الفعل والتصرف والفكر
والسلوك؟ أظنّ أنّ كلا الطرفين مشدود ٌ ببعضهما،لا انفصام بينهما. تُري كيف
يكون الُمبدعُ حداثيّاً في نصوصه الإبداعية ويتقدمُ علي زمانه وهو ظلاميّ
فكراً وتصرفاً ؟ ولعلّ مصطلحَ الحداثة مقترنٌ بالتجديد. فقد عرف الإبداعَ
العربي مذ عُرف موجاتُ التجديد، بدءاً من طرفة بن العبد مروراً بأبي نواس
وأبي تمّام وبشار بن برد وابن الرومي، وربّما المتنبي الذي ضيّعت عليه
نرجسيتُه ومدائحه وهجاءاته التي تتفاوتُ صعوداً ونزولاً وفق مزاج غير
منضبط، حداثيتَه. وتلك الحداثةُ التي غشيت القصيدة العربية، علي سبيل
المثال، لم تكن في الشكل وحسبُ، بل في المضمون أيضاً. قصائدُ أبي نواس
اخترقت الحاجز الشكلاني، وجايله آخرون. وكان بشّارُ حداثيّاً حين قال / يا
قومُ اُذني لبعض الحيّ عاشقة ٌ ــ والاُذنُ تعشقُ قبلَ العين أحيانا.. وكذا
حين يقولُ : كأنّ مُثارَ النقع فوق رؤوسنا ــ واسيافنا ليلٌ تهاوي كواكبُه
بينما كان أبو تمام حداثيّاً في المضمون وكذا أبو العلاء المعري. ومن
الصعب أن نستقدم جميع الأسماء الشاعرة التي أضرمت حرائق الحداثة الشعرية في
حينها. بينما الأندلسيون كانوا حداثيين شكلانيين لاغير.
وتغذّ
الحداثةُ مسيرتها التصاعدية والصدامية حين اقترن المُنجزُ الإبداعي بالفكر
والسلوك. وبمرّ الزمن تتالت الأسماء مّحدثة ً ضجيج ايقاعها الحداثي اللاصق
به، وتصاعدها الدرامي والهارموني. وفي مبتدأ القرن الماضي كان لأسماء: لطفي
السيد ومحمد عبدة وقاسم أمين والطهطاوي وطه حسين والزهاوي رنين ٌ خاص. هم
حداثيون طليعيون فجرّوا ثورة في الفكر. بينما كان العقادُ، وكذا
الرافعي،حداثيّينِ في منجزهما الإبداعي وسلفيّينِ في الفكر والحياة،
منحازين الي الماضي. أمّا ما يُقالُ عن الحداثة في الوقت الحاضر فملتبسٌ،
فكأنّ كلّ مَنْ خرج علي قوانين القصيدة التقليدية هو حداثيّ. وما أنْ تهبّ
َريحٌ تحمل نكهة ً غربية حتي يُطلقُ عليها صفة َ الحداثة.الحداثةُ بمعناها
الأشمل والأجدي تعني التجاوز والتخطي عبرَ الإبتكار والإختراع واختراق
المُعتاد الي ما وراءه. بمعني المغامرة في المجهول واستكناه حقيقته. فكيف
يكون حداثيّاً مَنْ يرتدي جلبابَ ماضيه باسم التراث والمعتقد. فالحداثيون
هم الشرارة ورأس الرمح في ساحة الإبداع، يستشرفون تخوم الغد ونجومه وآفاقه.
ومثل ما قيل في العقاد قيل في اليوت الحداثي المنجز، السلفي الفكر.
الحداثة ُ وحدة متكاملة لا تنضوي تحت طائلة الشكل وحسبُ، بل رسوخٌ في العقل
المُبتكر الخلّاق وتجاوز الماضي والحاضر الي ضفاف المستقبل. كان المرحوم
علي الوردي يقول عن المثقف إنه بدويّ في جلباب عصري. يُعاني انفصاماً في
شخصيته، يقولُ شيئاً ويفعلُ ما يُناقضه. لذلك لا تؤدي الحداثةُ مغزاها
العلمي والعملي الا اذا كان ملموسُها في المُنجز الإبداعي والسلوكي،
متفاعلاً مع نسغها وجوهرها. كونها انطلاقة ً تجاه المستقبل، خروجاً علي
المستهلك اليومي السائد. وحين نعود الي حداثيّ عصرنا العربي / السيّاب،
سعدي،أدونيس، درويش، الماغوط، جبرا، انسي الحاج، سركون بولص، الجنابي، عبد
الصبور، دنقل، أمجد ناصر وآخرين لا يتسع المجالُ لذكرهم/ فهؤلاء ليسوا
شكلانيين، بل تبلورت فيهم كونية الحداثة.سلوكاً وتصرّفاً وفكراً. لقد
تحرروا من قمقم التقاليد. لأنّ الحداثي لا تعنيه السياسةُ والطائفة
والألقابُ والرجوع الي التراث الا لصقل ايجابياته وبقايا ديناميته. فكيف
يكونُ حداثيّاً مَنْ يتعاملُ مع المرأة بلغة الدونية والقصور.قال أحدُهم،
مرّة ً، الحداثةُ ضربٌ من الطوباوية والعشوائية حين يصوغُ مبدعٌ نصّاً
ملتبساً خالياً من أيّ وميض منطقي أو أخلاقي، وأري أن الحداثة في أيّ نصّ
لا بذّ أنْ تتوفر لها شروطٌ :
1 ــ تغامرُ في المجهول، تلتقطُ أشياءه غير المرئية للعيان.وتستقدمُ الغائب البعيد. والغريب غير المعتاد.وتضعه في متناول القاريْ.
2 ــ تشكلّ صدمة ً غير متوقعة، وضجّة ً أشبهَ بالانفجار.
3 ــ يُسهمُ في رفد الحياة بكلّ جديد يُرسّخُ ثوابت وقناعات عصرية.
4 ــ الجديدُ الذي تبتكره لا يطمسُ ما أنجزه السابقون، بل يُطوّرُ أساليبهم، ويُمدها برؤية جديدة.
5 ــ ترقي بالمنجز الإبداعي وتُصفي الرواسب المتشبثة به أيّاً كان نوعُها.
6 ــ تتمرّغُ في الحلم، تتصيّدُ ممالكه، تجيء به من سديم العدم الي سخونة الواقع.
7 ــ تجترحُ تجربةَ الذات اللامرئية، تتمرأي فيها عوالمُ المبدع العدمية والسرّية.
8 ــ عليها أن تبحث عن شكل يلتحمُ مع المستقبل ولا يكون غريباً بلا انتماء أو جذور.
9 ــ الحداثة ُ، في أيّما حقل كانت،تنطوي أدواتها وإيقاعاتها علي سمات التجاوز لا تُشبه ما سبقها.
10
ــ حتي اللغة، عليها أن تستلهم ما لا قبل لنا بها. سواء في صياغة
العبارات، أو في اختراع الصور، أوفي خطابها الذي يُفاجئنا ويدحضُ الموروث
التقليدي الذي فقد صلاحيته، ويُرينا ما لم نره.
..........................
وفي
تراثنا العربي موجاتٌ أحدثت ثورة في سياقات النصّ، بيدَ أنها قُمعتْ
وبُطشَ بها بفعل قُوي الردّة ومن كان يُصرّ علي تطوير وبلورة أنجازات
المتصوفة كان السلفُ الُمتطرّفُ يقطعُ أواصر منجزه. والآن، تقوم جهاتٌ
مرئية ولا مرئية بقمع الحداثة والمحدثين بشتي الأساليب والذرائع. بدعوي
أنها تقليدٌ للإبداع الغربي وانتحال أشكاله ورؤاه.
الحداثةُ العربية لم
تكن تابعة لأيّة جهة أو فكر طاريء. بل عيوناً تفجّرت هنا وهناك. ولمّا تزل
تبحثُ عن حقول بكر لم تسبقها محاولات سابقة. ويُمكنُ القولُ أنّها مُغامرة
ُ بحث وكشف لا تقفُ عند حدّ، وهي حاجة ٌ نتلقاها من المستقبل نُجددُ بها
دماءنا وعقولنا وضمائرنا. فمثلما تتجدد مكوناتنا التكنولوجية كلّ يوم،
ينبغي أن يتجددَ الإبداع بكل أشكاله.تمشيّاً مع متطلبات الحياة. واذا كانت
الحياةُ لا تتوقفُ عند رصيف، ولا تسكنُ في الظلّ لترتاح، فأن الأدب حاجة ٌ
حياتية يجبُ أن يتغيّر ويستشرف ويكتشف ولا يرسو في مرسيً ليأسنَ ويتعفن.
الحداثةُ
مطلبُ حياة في كلّ شيء، بدءاً بالإبداع الأدبي حتي لقمة العيش والتسلية
والفكر والمعرفة. من دونها نظلّ في عتمات القرون الغاربة، وكلّ منجز حياتي
علي صعيد العلم والعقل هو وليدُ الحداثة التي تعني في أبسط معانيها تجاوزَ
الحاضر، والغوصَ في المستقبل، والتقاط كنوزه المخبوءة والجديدة...