د. جاسم محمد جاسم
منذ اوائل القرن العشرين المنصرم ، بدأ العالم العربي بانتاج كميات
كبيرة من الدراسات الادبية ، بعضها متميز وشديد القدرة على توضيح النصوص
والكشف عن مزاياها وسماتها الفنية العامة ، ولكن ماهو لافت للانتباه ان
معظم هذه الدراسات نقود من النمط التطبيقي ، وان الكتابات المتخصصة بالتعرف
الى ماهية هذا الجنس الادبي او ذاك ، قليلة الكمية فلا يكاد المرء ان
يصادف دراسات من شأنها ان تجيب عن اسئلة محورية قد تمليها بعض الظواهر
الادبية على الذهن المتفطن ومن هذه الاسئلة التي تحتاج الى اجوبة ،هي:لماذا
كان الشعر ظاهرة رافقت الانسان منذ ماقبل التاريخ حتى اليوم؟
ولماذا
كان المسرود جذاباً لجميع اصناف البشر وفي جميع الاماكن والازمان ؟ ماهي
المعايير التي يمكن للمرء ان يستند اليها في تحديد قيمة النصوص الادبية أو
في فك الاشتباك بين جيدها ورديئها؟
ومن الواضح في هذه الايام ، ان هنالك
غزارة في انتاج النصوص الادبية لم يألفها العالم العربي من قبل ، وان معظم
هذه الغزارة الدافقة ، وربما غير الواعية بحقيقة امرها ، لايسعها ان تكون
كلها ادباً ذا قيمة باي حال من الاحوال.والحق ان كل نص أدبي هو استحضار لما
يستتب في ذلك العصر من ماهية ، وهذا يتضمن مافحواه ان النص البكر لا ينتجه
الا عصر بكر او طورتأريخي لم يرضخ بعد لشيخوخة الروح .
ولكن ماهو شديد
الاهمية ان المسائل الادبية الشديدة الحاجة الى تنظير او المثيرة للخلافات
الحادة لاحصر لها ، فمثلاً يقال : ان وظيفة الناقد الادبي هي الكشف عن تفرد
النص ، فأن الضد سرعان ما ينهض في وجه هذا الرأي ليعلن ان الناقد الادبي
لن يكتشف الا فرديته الخاصة به هو نفسه ، وليس فرديه النص المدروس ،
ولاخصوصية الكاتب الذي انتج ذلك النص ، وهناك من يزعم بان كيفية الجرعة
الوجدانية هي العنصر الاول الذي يمكن ان يحدد الجودة في اي نص أدبي ، وبان
الشعر قادر على ان يصنع من الألم البشري متعة للنفس او مادة صالحة للتذوق ،
ولكن قد لانعد من يزعم ان المعيار الاكبر للقصيدة ليس العاطفة او الشحنة
الوجدانية ، بل هو الخيال وقدرته الاختراقية على التشكيل وانشاء الصور
الفنية .
فالفن كما يعتقد اصحاب هذا الرأي هو ( التفكير بالصور) قبل كل
شيء والفن كله يبدأ من توفير الصورة التي هي وحدها القادرة على اختزان
اللامفهوم.اذن ، قد لا يبالغ البعض اذا ما ذهب الى نظرية الشعر بخاصته
ونظرية الادب والفن بعامة تشكل تحدياً كبيراً للفكر العربي الحديث ويبدو ان
ممارسة هذه النظرية هو الاشق والاعسر والا لما كان للتطبيق ان يحتل معظم
مساحات الدراسات النقدية . كما ان ثمة بعض المناهج النقدية ممن لايأبه
بالقيمة ، ومما هو واضح ان هذه المناهج لاتقيم اي تميز بين اعظم النصوص
وبين اقلها شأناً والابرز من هذا كله ان النقد الادبي في هذه الايام قلما
يشعر بأيه حاجة الى المعايير النقدية ، ومثل هذا النقد كثيراً ما يكتفي
بعرض محتوى النص المدروس.اما الا نكى من ذلك فهو ان النقد الادبي قد ابتذل
في هذه الايام التي ابتذل فيها كل شيء بلا استثناء ، فربما نجد الكثير ممن
يمارسون النقد لا يتمتعون بأية كفاءة جديرة بالاحترام ، ولكن ذلك لايمنع من
وجود نقاد ادب افذاذ يسيرون وفق طريق مدروس وصحيح.
وبما ان الحاجة ماسة
الى شيء من جهد يبذل في مضمار التنظير للادب ولاسيما الشعر ، الذي مازال
حتى اليوم الايقاع الثقافي الاول في مضمار اللغة العربية ، وبما ان الحركة
النقدية بحاجة الى منظومة من المعايير التي تصلح اساساً لاصدار حكم القيمة
على النصوص الادبية التي راحت تتكاثر ،فاننا بحاجة حقيقية لفرز النص
الادبي وتصنيفه ، واعطاء كل ذي حق حقه ، ليكون للنقد رأيه الموضوعي في
نهاية المطاف ويكون النص هو الحكم الاول والاخير استجابة لكل الاسئلة التي
يطرحها النقد والتي اصبحت اليوم ضرورة ملحة لابد منها.