لئن كانت العلمانيّة بالأساس رؤية وممارسة للسياسيّ قائمة على الفصل
الجذريّ والحاسم بين الدينيّ والدنيويّ-باعتبار الأوّل شأنا خاصا يهمّ ضمير
الفرد في علاقته بالغيب، والثاني شأنا عامّا مرتبطا بعلاقات الذوات داخل
كلّ سياسيّ واجتماعيّ- فإنّ لها أيضا بعدا إيطيقيا عميقا متأسّسا على مسألة
الفرْقِ باعتباره شرطا أنطولوجيا للإقامة المبدعة في العالم. وإذا كان
البعد الأوّل قد تحقّق مع الفلسفات التعاقدية (من هوبس إلى روسّو مرورا
بسبينوزا ولوك وغروتيوس) عبر تنزيل الدينيّ في المدنيّ واستبعاد المقدّس من
المجال العامّ، ثمّ مع فلسفات الأنوار (من مونتسكيو والموسوعيين إلى كانط
و"الأوفكليرونغ")، فإنّ البعد الإيطيقي كان منذ البدء متلازما مع بعد
إستيتيقيّ نجده حاضرا سواء في فنّ الرسم خلال عصر النهضة (خصوصا في كلّ من
إسبانيا وإيطاليا) وكذلك من خلال بدايات الفنّ الروائيّ كما جسّدها
سيرفنتيس ومن بعده فولتير وديدرو.
يقول الفيلسوف التعاقدي : لا إمكان لفهم السياسيّ إلا إذا نظرنا إليه من
جهة علاقته بالطبيعة الإنسانية في انفعالاتها كما في أفعالها. أي باعتبار
الإنسان في الآن ذاته رغبة وعقلا. تسعى الرغبة إلى توسيع حيوزات تحقّقها
إلى أقصى الحدود الممكنة. وتصطدم ضمن ذلك السعي ذاته برغبات أخرى لا تقلّ
عنها نزوعا إلى التوسّع وإلى التوسيع الأقصى لمجالات تحقيقها. وضمن هذا
السياق تحديدا يتدخّل العقل (باعتباره شكلا أعلى من الرغبة) من أجل ابتكار
التنظيمات والمؤسّسات التي تمنع توسّع مجالات تحقّق الرغبة من أن تنقلب إلى
كيفيات لتحطيم الكيانات الراغبة (الأفراد) عبر تصادم الرغبات (والإرادات)
الفردية. بمعنى آخر، إنّ العقل وإن كان في ظاهره إلجاما للرغبة عبر تنظيمها
وتقنينها فإنّه في الواقع الضمانة الوحيدة لتحقّقها (وإن كان هذا التحقّق
نسبيا) ولحمايتها من الأخطار التي تحملها في ذاتها. العقل، مثل المجتمع،
مثل التنظيم السياسي، هي اصطناعات. لكن هذه الاصطناعات هي الشرط الذي من
دونه ينقلب الطبيعي على ذاته ويدمّرها بفعل نزوعاته الأصلية. لأنّ قانون
الرغبة الوحيد هو كما يؤكد هوبس "التحقق الدائم للرغبة المقبلة" وهو
القانون الذي يؤدي ضرورة (إذا لم يتم إخضاعه إلى مقتضيات العقل) إلى "حرب
الكلّ ضدّ الكلّ" التي لا تبقي ولا تذر.
من ثمّة جاءت العلمانيّة حلا وحيدا وحاسما لكلّ أشكال الصراع التي يترتّب
عنها تدمير الفرد والمجموعة. لأنّ إضفاء القداسة على أفكار ما أو مبادئ ما
هو المنطلق الأوّل لفسح المجال واسعا أمام أشكال من التعصّب والتناحر
والحروب الداخلية والخارجية التي لا حدود لها. هذا التعصّب باسم الدين يمكن
أن يكون مصدره الدولة نفسها أو المناوئون لها. الدولة، حين تدّعي استمداد
سلطتها ونفوذها من "حقّ إلهيّ" مفترض. والمناوئون، حين يستندون في مقاومتهم
لطغيان الدولة إلى مرجعية دينية يجيّشون باسمها الناس ويبيحون لأنفسهم
أبشع الممارسات بالرجوع إلى قدسية ما يحيلون إليه أفعالهم. وفي كلتا
الحالتين تكون المرجعية الدينية غطاءً لكلّ صنوف العسف والقتل والتنكيل
(محاكم التفتيش في الداخل والحروب الصليبية – أو "الفتوحات" الإسلامية في
الخارج). لذلك فإنّ السبيل الأوحد لضمان ازدهار الأمم (في كافّة أصعدته
الاقتصادية والسياسية والثقافية) هو استبعاد الدين نهائيا من المجال العامّ
لجعله شأنا فرديا محضا يخصّ ضمير الفرد واعتقاده الحرّ والطوعيّ. لأنّ كلّ
إكراه (بما هو عنف سالب للإرادة) يتولّد عنه (عاجلا أو آجلا) عنف مضادّ من
أجل استعادة الإرادة السليبة. ومن ثمّة تدخل المجموعة في حلقة جهنّمية من
ردّ الفعل وردّ الفعل المضادّ يغذّي كلّ منهما الآخر ليفضيا إلى تدمير
الأفراد والجماعة معا.
لذلك يؤكّد جون لوك مثلا (خصوصا في رسالة في التسامح وفي مقالة في
التسامح) أنّ التسامح ليس مجرّد قيمة أخلاقية، بل إنّ له بعدا سياسيا (و،
لنضف من جهتنا، إيطيقيا) عميقا. إذ ليست للحاكم أية مصلحة في فرض معتقدات
(أو طقوس) على الأفراد، لأنه لا سلطة له على ضمائرهم وعلى الكيفية التي
يتصورون بها سبل خلاصهم ويمارسون على ضوئها تعبّداتهم. ما الذي يضير الحاكم
إذا كنت أعتقد بالتثليث أم بالوحدانية، أو أن أؤمن بيهوه أم بالربّ أم
بالله؟ أي تأثير لكوني أصلّي في جامع أم في كنيس أم في معبد بوذي أم في
كنيسة، أو ألا أصلّي أصلا على علاقاتي بالمحيطين بي وبالدولة التي أنتمي
إليها؟ لا علاقة على الإطلاق، يجيب لوك. ذلك أنه يميّز بين ثلاثة أنواع من
المبادئ ليقيسها بمقياس التسامح : 1- المبادئ النظرية المحضة (التي تدخل
ضمنها الاعتقادات المتعلقة بالألوهة)، 2- المبادئ العملية التي لا علاقة
لها بالشأن العامّ ولا تأثير لها على علاقات الأفراد فيما بينهم (وتدخل
ضمنها المسائل العملية اليومية وكذلك التعبّدات والطقوس)، 3- وأخيرا
الممارسات العملية ذات المساس المباشر بالشأن الجماعي والسياسي.
بالنسبة للنوعين الأوّلين من المبادئ فإنّ تسامح الحاكم ينبغي أن يكون
كليا وبلا حدود (اللهم إذا كان مبدأ ما يتضمن في ذاته مساسا بمبدأ التسامح
ذاته). أما فيما يخص البعد الثالث فإنّ الحاكم مدعوّ إلى التصرّف بحسب
المصالح (الخاصة منها والمشتركة) للأفراد بحيث لا تمسّ حرية أيّ منهم بحرية
الآخر في حياته أو في ممتلكاته أو في معتقداته. فالحاكم هو أصلا مفوّض
(بفعل العقد الفعلي أو الافتراضي) لحماية حقوق الأفراد ومصالحهم ودفع
اعتداءاتهم بعضهم على بعض. تلك الاعتداءات التي تمليها عليهم نزعاتهم
الطبيعية ذاتها. لكن على الحاكم أن يكون حازما في عدم السماح لأيّ فئة أو
ملّة أو نحلة أن تحوّل مبادئها ومعتقداتها الخاصة إلى مبادئ كلّية ترى وجوب
فرضها على الجميع باسم تصوّر كلّيّ شموليّ هو المقدّمة الضرورية لكلّ
طغيان ومن ثمّة لكلّ أشكال التعصّب والتناحر (تلك التي عانى منها لوك نفسه
وحرمته حتى من نشر بعض مؤلفاته).
هذا القول العمليّ في التعاقد والتسامح وفي تلازمهما متأسّس على قول
نظريّ مفاده أن "لا وجود مطلقا لأفكار أو مبادئ فطرية في الذهن البشري".
فالإنسان يولد "صفحة بيضاء" والتجربة (بمستوياتها الحسّية والتخيلية
والعقلية) هي التي تنقش عليها كلّ الأفكار والمبادئ، البسيط منها والمركّب،
النظريّ منها والعمليّ. هذه القاعدة النظرية التي هي منطلق الفلسفة
التجرُبية (أو الأمبيريقية التي سيمضي بها هيوم فيما بعد إلى أقصى ممكناتها
النقدية على الصعيدين النظري والعملي) في نقدها الحاسم للعقلانية
الديكارتية وللمثالية الأفلاطونية. ذلك أن دحض الفطرويّة هو الشرط النظريّ
لإنشاء فهم جديد (ذي طابع نقدي) في الذهن البشريّ، ومن ثمة لتأسيس فلسفة
عملية مسكونة بالنسبية وقائمة على التسامح.
قبل أن يصوغ فلاسفة التعاقد هذه الأطروحات، كان هناك رسّامون من عصر
النهضة قاموا بدنيوة المقدّس عبر إبداعات نزّلته في قلب النسبيّ، وجزمت
بالتالي (قبل فويرباخ بقرون) أنّ الإنسان هو الذي خلق الله وليس العكس.
فكانت الرسوم العملاقة التي تصوّر مشاهد من الفردوس أو من الجحيم أو من
البرزخ في حالات من الحركة الداخلية بين مكوّنات اللوحة ذاتها متحدّية بذلك
ثبوتية التصوّرات اللاهوتية للقيم الأخلاقية ولمستنداتها الميتافيزيقية
ذات الأصول الأفلاطونية أساسا، والتي كانت تبكّت الجسد والمادة باعتبارهما
قائمين في التغيّر والصيرورة، في حين أنّ الحقيقة قوامها الثبات والأبدية
(ومن ثمّة جاءت إدانة أفلاطون للفنّ باعتباره "محاكاة" أي حقيقة من درجة
دنيا). مع الفنّ التشكيليّ لعصر النهضة تحقّقت حدسيا الفكرة التي ستشكّل
أسّ الرؤية الإلحادية المبدعة للكيان : لا حقيقة إلا حقيقة الجسد في
التعدّد اللامتناهي لإمكاناته ومستطاعاته (تلك الفكرة التي ستشكل منطلق نقد
سبينوزا للميتافيزيقا وللتيولوجيا السالبتين في افتقارهما للإيطيقا وفي
وقوعهما ضمن الرؤية الأخلاقوية للعالم : عدم وضعهما للسؤال الإيطيقي الحاسم
المتعلّق بمستطاع الجسد والنظر إلى هذا الأخير باعتباره مجرّد "خادم"
تسيّر أمره النفس العاقلة تسيير الربّان للسفينة).
غير أنّ التعبيرة الكبرى عن العلمانيّة بما هي فنّ وجود وإيطيقا-إستيتيقا
إقامة في العالم ستتحقّق في جذريتها من خلال بدايات الفنّ الروائيّ كما
سينجزها سيرفنتيس من خلال شخصيته الفذّة : دون كيشوت. يخرج دون كيشوت على
العالم بإثبات وحيد مفاده أن لا شيء ثابت في العالم. إنّه الإنسان وقد أدرك
يقينيّا أنّ الله قد غادر العالم نهائيا (أو أنه لم يكن فيه أصلا) وأنّه
عليه هو ذاته أن يهب المعنى لهذا العالم. كان وجود الله في العالم مريحا
على نحو كبير، لأنه كان يعفينا من مشقّة البحث عن معنى وقيمة حياتنا
وفِعلنا فيها. كانت القيم مسطّرة جاهزة ولم يكن علينا سوى الانخراط فيها
وتعديل مجريات وجودنا حسب مقتضياتها ومؤدّياتها. ولكن ماذا عندما يخلو
العالم من إله؟ يتحوّل قطيع الخرفان إلى جيش يحاربنا وطواحين الهواء إلى
عمالقة علينا مقارعتها بمثل ما أن الفلاّحة القذرة والقبيحة تتحوّل إلى
أميرة يضوع المسك من أعطافها. لماذا؟ لأنّ خيالنا قد انفتح بشكل لا رجعة
فيه على المطلق القائم فيما وراء الثنائيات : الخير والشرّ، الجمال والقبح،
الإيمان والكفر، الحبّ والكراهية، الكينونة والعدم…على هذا الكائن المدرك
لإطلاقية نسبيته أن ينخرط فيها على نحو جذريّ ليقتطع من لانهائية العدم
قبسا ممكنا لكينونة مقبلة. لحظتها يكون الفعل في عسره وامتناعه إبداعا.
ولحظتها يتحوّل الله نفسه إلى شخصية طريفة يمكن لخالقه الإنساني معابثته
وإعادة توزيع كيفيات وجوده.
تلك إذن حكمة الرواية والإبداع الفنّيّ عموما التي على الفيلسوف كما على
السياسيّ العلمانيّ أن يدركها : اتساع مخيّلة الملحد لتقبل من داخل شروطها
الخاصة وجود المؤمن والتزاماته. والقدرة خصوصا على المضيّ بعيدا في مناطق
الحرج والخطر بما هي شرط للإقامة المبدعة في العالم بكلّ ما يتهدّدها من
أخطار الموت الذي لا حياة بعده والجنون الذي لا شفاء منه..