ما ستسعى إليه هذه المقالة، هو كشف العلاقة المكورة بين ظاهرتين
مترافقتين تعيشهما إحدى الجماعة القومية في منطقة الشرق الأوسط، وهما
الظاهرتان اللتان تبدوان على غير صلة في النظرة العامّة الأولى :
الظاهرة الأولى : يعيش الأكراد في الشرق الأوسط، وعددهم أربعين مليونا، في
أربع دول مركزية في المنطقة، ويعانون في أربعتها من ظرف سياسي خاصّ، بشكل
متفاوت ونسبيّ وتاريخيّ. فالسمة الغالبة لظرفهم السياسي، حرمانهم من
التعبير الحرّ عن تطلّعاتهم القومية، مترافقا بحرمانهم من التعبير الحرّ عن
إرثهم الروحي والثقافي واللغوي التاريخي، مقارنة بباقي القوميات من أبناء
الأثينيات العربية والتركية والفارسية والتي تستفيد من إمكانيات هذه الدول.
الظاهرة الثانية : حفاظ الأكراد على نمط وسلوك جنسي محافظ، مقارنة بغيرهم
من أبناء القوميات التي يعايشونها في تلك البلدان. سمة تلك المحافظة، تظهر
في أكثر من منحى، منها تمجيد بالغ لغشاء البكارة واعتبار العلاقة الجنسية
قبل الزواج وخارجه من المحرّمات التي تستحقّ الثأر، وغلبة الذكر في العلاقة
المحدّدة بينه وبين قريناته من الإناث، زوجة وأختا وأمّا وابنة، ومن سماته
أيضا تفضيل الزواج بذوي الصلة الدموية، ومن نفس أبناء القومية، للذكر
والأنثى، وارتفاع نسبة جرائم "الشرف"… الخ. وهنا يجب تحديد ملاحظتين لا بدّ
منهما : أوّلا : لا يعبّر نمط اللبس والتبرّج لدى النساء الكرديات، على
تحرّر جنسيّ مناسب لذلك النمط، فالتحرّر الجنسيّ مشكلة أخلاقية وعقلية
ونفسية، لا يمكن الاستدلال المباشر عليها من نمط اللبس، فكثيرات هنّ نساء
المدن المحجّبات، الأكثر تحرّرا بكثير من الريفيات المتبرّجات. ثانيا : أنّ
هذه المحافظة الجنسية هي نسبية في كلّ دولة من تلك الدول، فأكراد تركيا
أكثر محافظة من أتراكها، وأكراد إيران من فرسها، وأكراد العراق من عربها ..
الخ. ( يمكن استثناء بعض الجماعات البدوية العربية في سلوكياتها الجنسية
المحافظة، والتي تشابه السلوكيات الكردية ).
هل من علاقة بين الظاهرتين؟
نميل إلى الإجابة، وذلك لأسباب شتّى.
أوّلا : أنّ التهميش السياسي للأكراد في تلك الدول، وعبر مدة طويلة قاربت
القرن من الزمن، حوّلتهم إلى مجتمعات طرفية في جميعها. فكما أنّ السياسية
تمركزت منذ الخمسينات، في مدينة أو اثنتين محوريتين، يعيش بها أبناء
القوميات المركزية في تلك البلدان، فإنّ المدنيّة الثقافية والطبقية
الاقتصادية رافقتها مع هجرة النخب إليها وتمركز السياسية بها. ففي تركيا
تمركزت السياسية في اسطنبول وأزمير وأنقرة، وفي العراق في بغداد والبصرة،
وفي إيران في طهران وأصفهان، وفي سوريا في دمشق وحلب. هذا الظرف التاريخي
حرم الأكراد كجماعة أثنية من أية مدينة متروبولية كبرى، تعيش بها نخبها
السياسية والثقافية والاقتصادية وطبقتها الوسطى البيروقراطية، هذه الطبقة
الاجتماعية التي تحمل تاريخيا قيم التحرّر الجنسي، بعيدا عن ضغوط وخيارات
المجتمعات الريفية الطرفية في هذه البلدان، ففي المناطق الكردية في كلّ
البلدان، لا وجود لجامعات كبرى لا مسارح ولا دور سينما ولا مطارات كبرى ولا
مهرجانات ولا حتى دور نشر ناشطة… الخ. كما أنّ نخب الأكراد بذاتها، قد
هاجرت إلى تلك المدن المتروبولية، وتغيّبت عن قاعها الاجتماعي، وبذلك غاب
أثر حضورها في المجتمع الكردي. فالمناطق الكردية تحوّلت إلى ريف واسع لكلّ
هذه البلدان، وبذا ترجم أثر هذا التريّف السياسي، على شكل نكوص في الخيارات
الاجتماعية، حيث تكون المحافظة الجنسية أولى أشكال التعبير عن النكوص
الاجتماعي.
ثانيا : ردّة فعل الأكراد على ظاهرة التهميش السياسي، والذي ترجم على شكل
ثورات مسلحة متلاحقة، خلقت حالة من العسكرة الطويلة عايشتها كلّ المجتمعات
الكردية في تلك البلدان. هذه العسكرة عمّقت الذكورة كحالة رمزية تعبيرية عن
مناهضة التهميش تلك من طرف، وشرعنت سيطرة نمط العلاقات الاجتماعية
المنضبطة بين أفراد المجتمع. هاتان الظاهرتان أسّستا للمحافظة الجنسية
الكردية كتعبير مباشر على تراصّ المجتمع وجاهزيته الدائمة. فالثورات
الكردية المتلاحقة مركزت الحقل العسكري وخياراته في الوجدان والثقافة
العمومية الكردية، وهمّشت البدائل الثقافية والفكرية الأخرى. وهنا يمكن رصد
أكثر من نموذج دالّ على ذلك، فالأغنيات الكردية التي سجّلت في عشرينات
القرن المنصرم، كانت أكثر تحرّرا في مقاربتها لأعضاء الجسد والممارسة
الجنسية، فبكلّ وضوح كان يمكن لأغنية ما أن تحوي وصفا دقيقا للثدي والمهبل
والبدن والممارسة الجنسية بكل تفاصيلها، والملاحظ، أن تلك الفترة لم تكن قد
شهدت حدوث ثورات كردية مسلّحة في أية منطقة كردية.
ثالثا : التهميش السياسي الكردي في هذه البلدان، أثّر مباشرة على فعل
القراءة عند الأكراد، فإتقانهم للغات القوميات المركزية التي يعيشون بها
ضحل جدّا، كما أنّ لغتهم لم تتحوّل إلى لغة علم ومعرفة وأدب، الشيء الذي
أسّس بدوره لعوز في ممارسة فعل القراءة في المجتمعات الكردية، فالأمية
النسبية الناتجة عن هذا التهميش السياسي للأكراد، حدّدت نوعا من الخيارات
الاجتماعية التي تناسب الأغلبية المطلقة من غير المندمجين عبر فعل القراءة
والإنتاج الفكري العالمي من الأكراد، ومنها وفي مقدمتها أنتجت المحافظة
الجنسية.
يبدو أنّ السياسية كمحرّك للصراع على السلطة تدخل، بل تؤسّس كافة أنماط
الفعل البشري، وحينما تقمع سلطة ما الفعل السياسي بشكله المدني، كأنما تقمع
كلّ أنماط الفعل الإنساني الإيجابي، وتجبر البشر على إنتاج أنماط مشوّهة
لتلك الأفعال.