القضيّة الكردية كانت وما تزال مشكلة متاخمة للقضايا العربيّة ومتداخلة
معها على نحوٍ عميق. مع ذلك ، تعجزُ النّخب الثقافيّة والسياسيّة العربيّة
الفاعِلة عن تطوير مقاربات إنسانيّة وأخلاقيّة وديمقراطيّة متماسكة
للمسألة الكرديّة التي تمسّ المسائل القوميّة العربيّة ذاتها من جهات
عدّة؛ إنْ لم تكن"القضيّة الكرديّة قضيّة عربيّة" من أحد وجوهها حسب تعبير
واحد من السياسيّين العرب؛ فهي أضحت كذلك بحكم كُلفة التأخّر الكبير في
إيجاد حلٍّ عربيٍّ- كرديٍّ مناسب وممكن، ربّما أمسى عسيراً اختراعه بعد
خراب البصرة و بغداد وحصول ما حصل، ما يملي أعباءً مضاعفة على النخب
العربيّة المستنيرة والحريصة على بثّ خطابات إنسانيّة سامية وسط الخراب
والاحتراب في المنطقة واندلاع المنازعات الأهليّة المتمادية التي تكاد
تكون أفق العلاقات المجتمعيّة في بلداننا المنكوبة بويلاتٍ شتّى.
ومَأتَى هذا القصور المزمن يكمن في النكران المديد لوجود مسألةٍ كرديّة من
الأساس، أو النّظر إليها على أساس أولوية المشروع القوميّ العربيّ (الذي
لم يكن منصفاً يوماً ما إزاءها) مهما نجم عن تجلّياته الشوفينيّة في
"الفكر"، وفي الممارسة، من كوارث تحلّ على القوميات غير العربيّة، أو على
العرب أنفسهم. وقد كانت الصياغات الرائجة للمشروع القوميّ العربيّ، والحقّ
يُقال، سنداً "نظريّاً" و"تاريخيّاً" لأيِّ طاغية عربيّ مستبدّ، كما تصلح
إلى اليوم كذلك. وفي الآن ذاته جاء الخطاب الثقافيّ القوميّ المتعالي
مفارِقاً للعناصر الواقعيّة التي زوّدت الدعوة القوميّة العربيّة بجرعةٍ
كبيرة من العدالة؛ نعني مسائل التحرّر الوطنيّ من الهيمنة الاستعماريّة
والقضية الفلسطينيّة، "قضية العرب المركزيّة".
وفي الواقع تنهض إستراتيجيّة الخطاب القوميّ الإنكاريّ هذا على منطق
–وإرادة- القوّة، فيسعى إلى التمثيل بالخصم الضعيف، الناهض للتوّ من ظلم
تاريخيّ مديد، ومحاصرته من كافة الجهات، مادامت الوقائعُ السياسيّة (سياسة
القوّة) تسنح لذلك، ومادام الخطابُ الآخر، أو خطاب الآخر( وكفانا القول
أنّ الكرديّ ليس آخراً بالنسبة للعربيّ؛ فهو أكثر آخريّة ممّا يظنّ بعض
الطيّبين منّا، نحنُ العرب و الكورد) محجوباً ومحروماً من فرصة المنافسة
والمقارعة.
فمقابل الدعوة التي يطلقها مثقّفون من داخل التيار القوميّ العربيّ
بتلاوينه المختلفة (فضلاً عن غير القومييّن، بالطبع)، ما عدا حفنة من
الأصوليّين منهم، في سبيل ما يسمّى بـ"تجديد الفكر القوميّ العربيّ"،
ومنهم من دعا إلى "عروبةٍ حضاريّة"( في لبنان مثلاً) استشعاراً من
القوميّين العرب أنفسهم بإلحاح الواقع المتغيّر على صورة العروبة القوميّة
التي نُسِب لها ما نُسِب من كوارث وويلات حلّت بالعرب نفسهم، ترى بعض دعاة
القوميّة العربيّة "المتجدّدة" يقدّمون صورة بالغة العنصريّة والتطرّف من
طريق اختلاق عدوٍّ وهميّ للعرب وخطرٍ مُحدق بالعروبة و"الأمّة العربيّة".
ومن المريب حقّاً، والمفارقة كذلك، أنْ يكون الأكراد الخارجين للتوّ من
براثن نظام فاشيّ ودمويّ مارس بحقّهم إبادة عرقيّة منظّمة وأفظع صور
الظّلم والطّغيان، تحت راية "العروبة"، هم الخطر المُحْتَمل الأوّل (أو
الثاني، لا كبير فرق(1)) على عروبتهم، العفيفة المهدّدة. ويعتقد بعضٌ من
أعلام هذه المدرسة أنّ الإتيان بحوادث متفرقة، منتقاة بعناية، يكفي لدحض
عدالة القضيّة الكرديّة بما هي مسألة سياسيّة - تاريخيّة تعني في المقام
الأول حرمان شعبٍ من حقوقه المشروعة ومنع قوميّة مخصوصة من تجسيدها في شكل
سياسيّ مماثل للشعوب الأخرى في المنطقة، وفي العالم. وفي هذا يسخر بعض
"المفكّرين" و"المنظّرين" الأكابر العرب (والترك) من حقّ الكورد في
المطالبة بدولة مستقلّة بأنّه "لا وجود لمقوّمات الدولة" عند الأكراد. هذه
النظرية كثيرة التواتر لكن يعوزها الكثير من البرهان في ضوء التاريخ
المتحقّق : ما هي مقوّمات نشوء الدول يا ترى؟ وهل هناك وصفة ثابتة لنشوء
الدول في أيّ زمان ومكان؟ وبالطبع ينسى هؤلاء أنْ يحصوا لنا "مقوّمات
الدولة" العديدة والرّاسخة في عدد غير قليل من دويلات العالم العربيّ، سوى
مقوّمات المشيئة والسياسات البريطانيّة (والأميركيّة لاحقاً)؛ تأسيساً
ورعايةً وديمومةً. كانت بريطانيا، التي تلاعبت بالجميع وأعطت وعوداً
معسولة للأكراد بداية، تقصف بالدبّابات والطائرات الأكراد الثائرين في
سبيل استقلالهم عن "الرّجل المريض" وعقاباً على رفضهم لحكم عربيّ فرض
عليهم بالقسوة؛ في الأوان الذي كانت ترعى "ثورة العرب الكبرى" وتنصّب
الملوك العرب وتبني دولاً عربيّة، وفي الأثناء تُلحق- قسراً- بإحداها
إقليماً كرديّاً بحاله…. وعلى الضفّة الأخرى تكالبت دول "العالم الحرّ"
والإقليمية بأكملها على ثورة كرديّة عارمة (ثورة آغري 1927-1930) أقضّت
مضجع الفاشيّة التركيّة لبضع سنين، كانت مشروع دولة كردية وشيكة لولا
السياسات الاستعماريّة والإمبرياليّة التي كانت السبب الأهمّ في الإبقاء
على كردستان "مستعمرة دولية"(2) بل ما دون المستعمرة ، حسب توصيف الكاتب
التركيّ الحرّ إسماعيل بيشكجي ….
….عدا كلمةٍ أو كلمتين ( حقّ، عدالة…) مُقْحَمتين، على نحوٍ غير مناسب، في
سياق المقالات التحريضيّة التي يكتبها الكاتب والصحافيّ الفلسطينيّ-
اللبنانيّ، صقر أبو فخر(أعداد متفرّقة من جريدة السفير حيث يعمل
محرّراً(3)) في المسألة الكرديّة والعلاقات الكرديّة العربيّة، يمكن
اعتبار لوائح الاتهام التي يدوّنها السيّد أبو فخر، تباعاً في مقالاته
الغاضبة، عَلَمَاً على نكوصٍ ثقافيّ مريب وتدهورٍ خطيرٍ في وعي المثقّفين
العرب القوميّين من خلال مثالٍ يستطيع التّمثيل على زعمنا، بصورة لا
ارتياب حولها. فمقالات الكاتب الأخيرة، كما سنبيّن، تظهر تثبّتاً نفسيّاً
حول عقدةٍ كرديّة عصيبة تنال من توازنه المفترض والمأمول، وحاوية على نفسٍ
متعالٍ وعنصريّ لا حيال القضيّة القوميّة الكرديّة، بل في النفور من
الوجود الكرديّ في أيِّ مكان، ما يعني نزوعاً خطيراً في منحى ضخّ الدماء
في نهجٍ ثقافيّ وسياسيّ ينمو هنا وهناك في الأوساط العربيّة حيال الكورد،
في مقابل ندرة الفرص المُتاحة في الإعلام العربيّ تقف بالمرصاد لهذه الآفة
الخطيرة. إنّها مؤامرةٌ حقيقيّة تُحاكُ بالتّكافل والتعاضد بين دوائر
عديدة، من المؤسف أنْ يكون من بين صنّاعها منتمون إلى اتجاهات وتيارات
"يساريّة" و"علمانيّة". لكنْ، لحسن الحظّ، يصطدم هذا التيار بتفهّم وتضامن
عربيّين ملحوظَيْن مع الحقوق الكرديّة من لدن النّخب الثقافيّة والسياسيّة
العربيّتين في العراق ولبنان وسوريا… بعد انكشاف جملةِ حقائق ووقائع
محجوبة، ما كانت متاحة قبل سقوط نظام البعث والإرهاب في بغداد. لكنّ
الدوائر إيّاها تسابق لحجبها مرّة ثانية وبهمّة عالية، مُستعملة تارة
ضرورة "المقاومة" ، كفرض عين، على كلّ عراقيّ "غيور وشريف" وفق معايير
الميليشيات الطائفيّة المتناحرة (ما يعني حضّ الأكراد على الانخراط في
الحرب الأهليّة الطّاحنة في العراق المسمّاة "مقاومة" عند بعضٍ(4)) وطوراً
النيل، بشماتة وضغينة، من التجربة الكرديّة الوليدة في الإدارة الذاتيّة،
بعجرها وبجرها ونكساتها، من خلال التركيز على انتهاكات حقوق الإنسان
وجرائم الشرف هناك ومضاعفتها عند اللزوم للتدليل على عدم أهليّة الكرد في
إدارة مناطقهم دون "الحاجة إلى دكتاتور"، وحيناً اختراع ما يسمّى بـ"محنة"
المسيحييّن على يد الأكراد قديماً وراهناً( وهذا فصلٌ جديد في محاكمة
الأكراد عربياً كما سنرى)، وهلمّ جرا..
مُجمّع الكراهية أو مِنْ كلِّ حقلٍ…… شوكةٌ: هكذا يمكن الولوج إلى مثال عيانيّ للعصبيّة القوميّة في أسوأ تمثّلاتها،
على يد مثقّف وناشطٍ يقارع نظاماً سياسيّاً وثقافيّاً عنصريّاً، دون أن
يترتّب على ذلك أيّ موقف ديمقراطيّ متماسك ونبيل من المسألة الكرديّة؛
فصاحبنا لا يجد حرجاً، من أيّ نوع، في التنكيل، وجوديّاً وعلى نحوٍ مرعب
بالـ"الأكراد" (هكذا بالجملة وبالتعميم)، بوصفهم "أحفادَ القَتَلَة"
تعبيراً عن المكنون النفسيّ للعصبيّة القوميّة وقد أصيبت بجرحٍ نرجسيّ
غائر، تنضاف مساهمة جليلة إلى "أدب" العنصريّة والكراهيّة من حول العالم…
في مقالة غاضبة (أكراد العراق هل يتحوّل"المظلومون" إلى "ظالمين"؟)(5)،
قام الكاتب صقر أبو فخر بتلخيص "رؤيته الكرديّة"، فجاءت صِداميّة مستفزّة
تستعملُ كلّ ما خطر في باله من مثالب، مكتوبة ومسموعة ومرئية، كي تفحم
"الظالمين" الجُدد (أكراد العراق) مرّة واحدة، وإلى الأبد. فاختار للقارئ
من كلّ حقلٍ شوكةً؛ جامِعاً ما يروق له وبالطريقة التي يراها مجدية في
التنكيل بالكورد وجوديّاً، ما استطاع إليه سبيلاً. -6)
فهو في محاولة إيجاد علّة لما يقدم عليه بعض "المثقّفين" (كذا يكتب
الناقد، لكنْ لماذا السخرية منهم؟) الأكراد من مؤاخذة المثقّفين العرب
(وهنا المثقّفون الحقيقيّون، أيْ بلا مزدوجات، ولا سخرية. فضلاً عن
"المثقفين"…) على "عدم الوقوف إلى جانبهم في مواجهة الظلم المتمادي الذي
تعرّضوا له في حقبة صدام حسين"، أخبرنا أنّه مأخذٌ غير دقيق وغير صحيح
"على الإطلاق". والدليل….. أنّ الثورة الفلسطينيّة استقبلت الشباب الكرد!
عجباً لهذا الكَرَم العربيّ الحاتميّ. فحتّى انخراط الشباب الكورد في
المقاومة الفلسطينيّة واللبنانيّة تحوّل، على يد السيد أبو فخر، إلى منّة
عليهم ودليلاً على عدم صحة لوم المثقفين الكورد زملاءهم (و"أشقاءهم")
العرب؟!
وكاد الكاتب أنْ يختصر الخطاب السياسيّ الكرديّ والمطالب الكرديّة في
سوريا بما يحبّ أنْ يطعن في المصداقية، لغاياتٍ ليست غامضة كثيراً، فيكتب
على لسان أكراد مُفترَضين عباراتٍ "غير لائقة" مثل "الاحتلال السوريّ
للقامشلي"(أين مصدرها، وكم عدد القائلين بها؟). ولشدّة تحامله على الكورد
كان الصقر أبو فخر قد أقحم الكلام ذاته، قبل مقالته هذه بشهور، في معرض
تعليقه، غير النقديّ، على كتاب عزمي بشارة "معنى أن تكون عربياً"، دون أن
يكون للإقحام هذا من داعٍ، بأيّ حالٍ من الأحوال، سوى رُهابٍ كرديّ مقيم
يعاني منه الرجل في الصميم: (…فبعض العنصريين الجدد لا يتورع عن استعمـال
عبارة «البــلدان الناطقة بالعربية»، او «الاستعمار السوري للقامشلي»، بل
غيّروا اسم القامشلي السريانية التاريخية إلى «قامشلو».)(7)
يبدو أنّ صاحبنا، الذي يكنّ تضامناً عميقاً مع القضية الكرديّة، كما يدّعي
أحياناً؟!، يؤرّقه أنْ يسمع أكراد الجزيرة يتفوّهون بـ"قامشلو" بدل
"القامشلي" ومن ثم يفسّر الأمر الخطير ذاك كنتيجة لـ"الدونيّة القوميّة
تجاه العرب"!. وهذه، أي لفظة قامشلو، في الواقع هي طريقة لفظ نصف السكّان
من أكراد الجزيرة، في شرق القامشلي، مُذْ أطلق الاسم ذاك على المدينة
الحديثة مشتقّاً من كلمة "قاميش" (التركيّة، ويقال قد تكون كرديّة أيضاً
غير أنها ليست بالعربيّة ولا هي بالسريانيّة في أيِّ شكل كما يقول السيد
أبو فخر أو كما تقول بعض مراجعه، إلاّ إذا كان هناك مُستجدّات لغويّة غير
مُعلنة بعد) المتداولة حتى اليوم والاشتقاق اللغوي الدقيق هو قاميش لي،
أما "لي" فهي حرف جرّ بالكردية، وتأتي هنا بمثابة لاحقة تفيد معنى "فيها".
وبذلك نحصل على قامشلي، أي المدينة التي ينمو فيها نبات القصب، وال
المضافة هي للتعريف). وهو تصريفٌ كرديّ، للكلمة التركية، بلسانٍ كرديّ
مُبين، دون عُقدٍ دونيّة تجاه العرب… البدو في الجزيرة، حيث علّم الفقهاء
والملالي الأكراد البسطاء بعضَ هؤلاء، وأترابهم الكورد، قواعد النحو
والصرف العربيّين وأصولَ الوضوء والصّلاة وتلاوة القرآن في أرياف الجزيرة
دونما… استعلاء، ولا عُقدٍ دونيّة بالطبع.
تلك اللفظة التي يُطلقها سكّان المنطقة على نبات القاميش الذي ينمو على
ضفاف الخابور، عكس ما يحاول الكاتب الإيحاء أنها اسم سريانيّ؛ كون الجزيرة
كلّها منطقة سريانيّة التاريخ واللغة والثقافة قبل أن يزحف عليها الكورد
في زعمه، مع أنّ الوجود السريانيّ (والآشوري) القليل في الجزيرة السوريّة
متأخّرٌ كثيراً عن نظيره الكرديّ فيما لو ضربنا صفحاً عن بعض النظريّات
"التاريخيّة" المستحدثة. وفي الجملة هم من مسيحييّ كردستان تركيا
ويتكلّمون الكردية بطلاقة، والآشوريون قدموا كلّهم من ولاية الموصل
بالعراق بعد مجزرة سيميل عام 1933 التي نفذّها الضابط بكر صدقي، كرديّ
الأصل لكن المنخرط في الحركة القوميّة العربيّة والمرتبط بالدوائر
البريطانيّة والهاشميّين، بحقّهم كما ارتكب مجازر ضدّ الأكراد أيضاً الذين
كانوا متحالفين مع الآشوريين حينها؛ بيد أنّ الشروخ العميقة التي أحدثتها
المجازر الرّهيبة التي تعرّض لها المسيحيّيون في أواخر عهود السلطنة
العثمانيّة، وعلى يد الأكراد كما ينبغي الإقرار، دفعتهم إلى مزيدٍ من
تمايز الهويّة (المسيحيّة) وإبراز الانتماء الدينيّ في مواجهة محيطهم
الكرديّ (المسلم)، وفي مجابهة القوميّة الكرديّة الصاعدة التي اقترنت
بطبقة رجال الدين الكورد، المسلمين، وببقايا طبقة الأعيان والأمراء
الأكراد الذين كانوا، حتّى وقت قريب، يحوزون امتيازاتٍ كبيرة، لكن غير
مستقرّة تماماً، في نظام الملل العثمانيّ على العموم. مع عدم إغفال
التأثير المدمّر لأجندة الدول الكبرى وسياساتهم التي كانت تتلاعب في رعايا
السلطنة العثمانية من طريق البعثات التبشيريّة والوعود السياسية. وعلى حدّ
قول مؤرّخ دارس لتاريخ المسيحيّة الشرقيّة: قبل وصول هذه البعثات الغربية
كان النساطرة يعيشون في هدوء ووئام مع جيرانهم الأكراد البسطاء، وعلى
الصعيد السياسي كان المسلمون والمسيحيون خاضعين للأمير الكردي المسؤول عن
الإقليم… لقد كانت هناك لحظات توتر بين الجماعتين وإن كان ذلك على نطاق
ضيّق. فعندما قام الأمير الكردي نور الله بزيارة إستانبول سنة 1840، فوّض
البطريرك مار شمعون السابع عشر بالصلاحيات المدنية أثناء غيابه وأيضا
برعاية أهل بيته. وينبغي التأكيد، بحسب قول المؤلف، على أن العلاقات بين
الأكراد والنساطرة قد تعرّضت للتعقيد بسبب وصول البعثات التبشيرية إلى
المنطقة وتحيّزها الواضح للنساطرة مع وعود تجاوزت حدود التعليم والخدمات
الاجتماعية لتطال القضايا السياسية على حساب الأكراد في المنطقة، يضاف إلى
ذلك أن النساطرة كانوا ينظرون إلى جيرانهم من الأكراد والترك نظرة استعلاء
بل وازدراء أحياناً وراحوا يفكّرون في الاستقلال عنهم تماماً وكان طبيعياً
أن يستثار الأكراد إزاء هذه النوايا ولذا فإنهم اتخذوا موقف المعاداة تجاه
هؤلاء النساطرة" (8).
في الابتزاز بالتاريخ المُلْتبس والمظلوميّة المسيحيّة ونظريّة "أحفاد القَتَلَة": بيد أنّ مقالة القومييّن العرب أولاء، ككاتبنا هنا، في العموم لا تعبّر عن
هواجس ووساوس قوميّة عربيّة مُتكاثرة إزاء "واقعٍ كرديّ" يتشكّل على حساب
"العراق العربيّ" و"الأمّة العربيّة" كما يعبّر عنها هنا وهناك وحسب
(الأمر الذي يمكن الخوض فيه بمجادلات مطوّلة)، بل تذهب إلى أبعد من ذلك
بأشواط عديدة.. وهي تنطوي على رصيد عالٍ من اللامسؤوليّة الإنسانيّة
والأخلاقيّة كما تبيّن المعاني الأصيلة التي تنهض عليها المقالات تلك،
مهما تدثّرت بغيرها من مزاعم مبثوثة بلا تدبّر حقيقيّ أو رضوخاً لمسؤولية
الكلمة بما هي "البدء". ويبدو أنّ ثمة حاجة ملحّة إلى العودة مراراً
وتكراراً إلى المفاهيم التي تروّجها النخب القوميّة العربيّة بكيفيّة
تناقضيّة لافتة عن العلاقة بين القوميّات في المنطقة وتحديداً إزاء
القوميّات "المُستضْعَفَة"؛ التي يُراد لها أن تبقى كذلك، ما أمكن. ولا
بأس من استخدام هذا الوصف، إذ لا شيء آخر يفي بالغرض في هذا السياق.
على سيرة "سوابقه" الكردية، التي اعتمدها الكاتب كمراجع رصينة في مقالته
الجديدة مستشهداً بصحّة أقواله بكلامٍ من ..مقالاته نفسها(9)، يمكن أن نضع
بين يدي القارئ مقالة كتبها صاحبنا إبّان الهجمة التي تعرّض لها مسيحيّو
العراق في الأعوام الفائتة. ففي معرض مقالة مدائحيّة وبكائيّة بنفس الوقت،
غير نقديّة، عن دور المسيحيين العرب والمظالم المرتكبة بحقّهم في العراق
على يد الميليشيات الطائفية والتنظيمات الإرهابيّة((جماعات المقاومة))
يصوّر الكاتب الأكراد في صياغة عنصرية صاخبة بـنعتهم "أحفاد قتلة
الأمس"(10) حين كان إقليم كردستان-العراق، وما يزال، المكان الآمن الوحيد
في العراق للمسيحييّن كي يمارسوا طقوسهم الدينيّة ومعتقداتهم الخاصة
والنشاط السياسيّ بحرية تامّة، سواءً كانوا من سكّان الإقليم أو من
المهجّرين إليه على يد جماعات العنف والإرهاب التي يواليها جمهرة من
المثقفين القومييّن "العلمانييّن". وفي مقالته هذه يتجلّى الاستخدام "غير
اللائق" (كي لا نقول أوصافاً غير لائقة) للسرديّة "التاريخيّة" القائمة
على زعم الأقدميّة الأزليّة للمسيحيّين في المنطقة، دون غيرهم، التي
تعوزها الكثير من الأدّلة العلميّة…
ففي مقالته "المسيحيون العرب : مصائر مجهولة في بلاد مضطربة"(11) التي
تصحّ علماً على أدب الكراهية والعنصريّة يقول الكاتب "…وها هم أحفاد قتلة
الأمس يطاردون اليوم أحفاد الضحايا، ويهجرونهم من ديارهم الى ديار الأقوام
المجاورة.
بدأت الأقوام الجبلية الكردية تنزح من الجبال الى مناطق السريان وتحل
محلهم بالتدريج، وبالقوة أحيانا كما حدث في المذابح التي قادها، لاحقا،
الأمير الكردي بدرخان. والمعروف ان القامشلي مثلا ومعها الحسكة ودير الزور
كانت مدنا سريانية خالصة. واليوم باتت الغلبة الكردية واضحة في بعض انحاء
هذه المناطق مثل عامودا والمالكية والدرباسية التي بدأ الأكراد يتدفقون
عليها منذ العام ١٩٢٥ فصاعدا عقب فشل تمرد الشيخ سعيد النقشبندي الكردي في
تركيا. ثم جاءت مجزرة عامودا ضد السريان في سنة ١٩٣٧لتبدأ الخطوات
المتسارعة في هجرة السريان نحو الغرب". وبالطبع هذه الجملة الأخيرة التي
يمرّرها الكاتب في نصّه، ككلّ كلامه المنحاز، كأنّها من البدهيات المعروفة
مخالفة لما جرى في الواقع آنذاك. حيث لم تكن هناك "مجزرة" ضد السريان في
عامودا قطّ. وهذا افتراءٌ مشين وانتهازيةٌ فاضحة. وعلى العكس تماماً
فالمجزرة الحاصلة فعلاً حينها كان ضحاياها من الأكراد الثائرين في وجه
فرنسا التي قصفت بلدة عامودا الصغيرة بالطائرات وخلّفت مئات القتلى من
سكّانها الأكراد وخراباً كبيراً في البلدة؛ والحقيقة أن الانتفاضات
الشعبيّة كانت تعمّ الجزيرة السورية كما في باقي أنحاء سورية ضدّ الانتداب
الفرنسي. وكان هناك ميل لدى قطاعات مسيحيّة كثيرة إلى المراهنة على فرنسا
المحتلّة والتعاون معها دون باقي التكوينات الاجتماعيّة التي حاربت
الانتداب والاحتلال. حيث أوكلت سلطة الانتداب المهام الإدارية والاقتصادية
إلى الأقلية المسيحيّة الصغيرة جداً التي تمادت في طلب حصّة من مواسم
القمح من الفلاحين الكورد الذين رفضوا هذا الإجراء.. وحصلت مقاومة كرديّة
للفرنسيين في عامودا تسمّى في الأدبيات السوريّة المنصفة، بانتفاضة عامودا
ويسمّيها أهل المنطقة بالكردية " توشا عامودي". على هذه الخلفية السياسيّة
حصل صدام كرديّ- مسيحيّ(12) موضعيّ؛ لكنّ الكاتب المتحيّز أبداً يسمّيها
"مجزرة ضد السريان" لأسبابه الخاصّة غير الغامضة!. لا نكيل هنا اتهامات
سياسيّة لأيّة جهة اجتماعية أو دينية ونقولها من باب السرد دون إضفاء حكم
قيمة تخوينيّ على الجهات إيّاها وبالطبع دون تخوين أبناء هؤلاء وسلالتهم
كما يفعل صقر أبو فخر إزاء الأكراد وذريّتهم من الأزل إلى الأبد. من
الضروري حقّاً الابتعاد عن إثارة الأحقاد والضغائن باستسهال إطلاق
المقولات التاريخيّة واستنباط دلائل سياسيّة وثقافيّة ثابتة من مرويّات
التاريخ، الذي يكتب عندنا غالباً تلبية لسياسات وأجندة معاصرة… سيما في
حقبة الحروب الأهليّة والصراعات الاجتماعيّة والدينيّة. وعلى العموم فإنّ
ممثّلي كلّ الفئات الإثنية والدينيّة والطائفيّة( كورد – عرب- مسيحيين..)
من وجهاء ورجال دين وزعماء عشائر، في الجزيرة السورية على الأقل، بل في
عموم المنطقة سوريا- العراق- لبنان…. تعاملت مع السلطات المنتدبة،
الفرنسيّة والبريطانية، في فترة ما وبدرجات متفاوتة. هذا ما يطرح بقوّة
ضرورة إعادة كتابة تاريخ تلك الحقبة بروح واقعيّة موضوعيّة بعيدة عن
المجاملات، وبعيداً عن التخوين وإثارة الأحقاد على نحوٍ خاصّ وحصريّ…
وفي ما خصّ المذابح الأرمنيّة الرهيبة، التي يطالب الكاتب الأكراد
بالاعتذار من الأرمن، يمكن القول باختصار هنا أنّها كانت عَرَضاً
لـ"المسألة الشرقيّة" وأكثر تداعياتها خطورة حيث أطماع الدول الأوربيّة
والغربيّة في "الرجل المريض" على أشدّها والرغبة الروسيّة- التي كانت
تسيطر على جزء من أرمينيا المقسمّة بينها وبين العثمانيين- في استغلال
العنصر الدينيّ لدى الأرمن لإضعاف الإمبراطورية العثمانية التي كانت
بدورها تخسر أجزاء من أراضيها تباعاً في مناطق عدّة بعد الحرب الروسية
العثمانية 1877-1878م". حيث وقفت الدولة العثمانية وحدها أمام المشروع
السلافي الروسي لإقامة دولة بلغاريا الكبرى وتهددت سلامتها بوصول الجيوش
الروسية إلى مقربة من الآستانة"(13). وكان أن "أعلنت روسيا مراراً عن
برنامجها لتقسيم الدولة العثمانية وأن تكون العاصمة العثمانية والممرات من
نصيبها".(14) في هذا السياق المفعم بالصراعات والنزاعات الدولية
والمؤامرات وخوفاً من تمادي الاحتجاج داخل حدود الإمبراطورية المقبلة على
انهيار وشيك كان الأتراك من جماعة " تركيا الفتاة" و"الاتحاد والترقّي"
المسيطرين على الحكم، المهجوسين بعقدة إمبراطورية- قوميّة قد اتخذوا
قراراً صريحاً ومكتوباً بإبادة الأرمن تهجيراً وتقتيلاً، ما نجم عنه مأساة
إنسانيّة رهيبة في تاريخ المنطقة والعالم(15). وهذا ما تذكره جلّ المصادر
المتوافرة حول نكبة الأرمن، وهي كثيرة. فآخر مادة قرأتها حول الموضوع كانت
مقالة مترجمة لأستاذ تركي في جامعة ميتشيغين، فؤاد دوندَر، صاحب ثلاثة كتب
بالتركية في «نكبة» الأرمن بعنوان: سيناريو الإبادة الأرمنية في الوثائق
العثمانية(16)، إذ يقول بهذا الصدد: "..وكان بين الاتحاديين فريق مصمم على
«حسم» المسألة الأرمنية، على قولهم، و«إماطة اللثام» عن الأرمن واحداً
واحداً. فأعد طلعت باشا، أحد قادة «تركيا الفتاة» ووزير الداخلية يومها،
وثيقة سرية هي مجموعة نصوص وإحصاءات وخرائط تعود معطياتها الى 1914، وجمعت
معاً في 1916". ويتكلّم الباحث عن "دفتر طلعت باشا" (ولم يكن معروفاً من
دفتر طلعت باشا إلا مقتطفات نشره، في 2005، صحافي «حرييت» مراد بارداكشي.
وعاد فنشره كاملاً في 2008. وهو يقول إن عائلة طلعت هي مصدر الوثيقة(.
وفيه نسب وأرقام و"عتبات" لما ينبغي أن تكون نسبة العناصر غير التركية حسب
المناطق.(..ففي المناطق التي تناولتها خطة «الإصلاح» في 1914، ويتهددها
الاستقلال، وهي ديار بكر وسيفاس وطرابزون وفان وبيتليس وأرضروم
ومامورتولازيز، أمر طلعت بألاّ يبقى أرمني واحد فيها…) (وفي الأثناء، عمدت
السلطة التركية «الفتية» الى تهجير جماعات أخرى من السكان وبعثرتها. وطاول
التهجير الكرد والألبان والبوسنيين والشركس وغيرهم. والغرض واحد، وهو
تقليص نسبتهم الى 5 - 10 في المئة، في الأناضول).
ليس الغرض من هذا التوكيد على القرار القاضي بإبادة الأرمن إلاّ لإبراز
الحقيقة التاريخيّة أوّلاً وتحديد الجاني الرئيسيّ صاحب القرار والمصلحة
والتنفيذ.
وعن ذلك يكتب أرنولد توينبيّ، المؤرّخ البريطانيّ الشهير، في شهادة
علميّة قيّمة تضع المجازر الأرمنية في سياق تاريخيّ : لم يكن هناك تعصّب
مثلاً في سلوك الأكراد الجتا(17) الذين ارتكبوا جزءاً من الأعمال الشنيعة-
ولكنهم لا يمكن أن يتحملوا المسؤولية، إذ لم يتجازوا كونهم قطّاع طرق
ومجرمين لم تتغاض الحكومة عن أعمالهم فحسب بل حرضتهم كذلك…وكذلك ينفي
توينبي المسؤولية عن "الفلاحين الأتراك" كما ينفي البعد الدينيّ في هذه
المجازر.(18)
والحال هذه يسعنا القول بعدم "مسؤولية كرديّة" أساسيّة في إبادة الأرمن،
بالمعنى المغرض الذي يتحدث به من يريد أن يفعّل الألم الناجم عن المجازر
والمأساة لغايات سياسيّة ونفعيّة آنيّة، أو من يريد نسب صفات البربريّة
والهمجيّة، الموروثة جينيّاً، للكورد المعاصرين وعلى مرّ العصور.
أمّا الضلوع المؤكّد لعناصر وقطاعات كرديّة كثيرة، من حملة التعصّب
الدينيّ في أسوأ صوره الذي رسّخه الحكم المتخلّف للعثمانيّين لا سيما في
الأوساط الجاهلة والفقيرة الباحثة عن لقمة عيش التي كانت عماد "الفرسان"
الحميدية(1891-1923) التي تشكّلت بقرار عثمانيّ كأداة في الأحداث، فمّما
لا يجدي إنكاره، ولا أظنّ أنّ أحداً يقوم بذلك، لكن ينبغي وضعه ضمن اللوحة
العامة كالتالي : لم يكن ثمّة مشروعٌ قوميّ- سياسيّ كرديّ من هذا القبيل
ولا سلطة كرديّة مقرّرة أو منفّذة ولا مصلحة كرديّة متوخّاة من وراء ذلك.
وفي المقابل هناك الكثير من الشهادات المؤكّدة حول دور أساسيّ لعناصر
كردية كان لها دور كبير في إنقاذ الكثير من الأرمن الفارّين (في الجزيرة
السورية مثلاً).(19)
وكذلك كانت الجرائم المرتكبة في حق الأرمن، قبل النكبة الأرمنيّة الكبرى،
بدورها وفق قرار السلطان العثمانيّ وتنفيذ الميليشيات الحميدية التي لم
تكن تمثل إلاّ قلة منبوذة في المجتمع الكرديّ فالعديد من وجهاء العشائر
الكردية رفضوا المشاركة فيها وأدانوا المتورّطين فيها، نظراً لسلوك
"الفرسان" الحميدية الهمجيّ واللصوصيّ حتّى بين الأكراد أنفسهم.(20)
من وجه ثانٍ هناك شهادات كثيرة ووقائع موثقة عن دور القادة الأرمن
المتطرّفين في الهجوم على قرى وعشائر كرديّة بدفع من الروس. كما عن طموحات
الحركة القومية الأرمنية آنذاك (وكان نشوؤها أسبق من ظهور الحركة القوميّة
الكرديّة) التي كانت تطالب بضم غالبية المناطق الكردية إلى دولة أرمينيا
الكبرى بما فيها كبرى المدن الكردية، دياربكر. وقد قتل عشرات الألوف من
الأكراد على يد التنظيمات الأرمنية قبل وقوع المأساة الأرمنيّة.
لن يطول الأمر كثيراً حتى تتضح المؤامرة الكبيرة بكامل أبعادها. فبعد
الفراغ من امّحاء العنصر الأرمنيّ، شرع قوميّو "تركيا الفتاة" وضبّاط
"الاتحاد والترقّي"، وقد أصبحوا السلطة الوحيدة والنافذة كليّاً، نحو
إفناء العنصر الكرديّ في تركيا الحديثة وارتكاب المجازر والفظائع بحقّ
الكورد في تركيا. ومنذ ذلك الوقت على الأقل التقت الجهود الكرديّة
والأرمنيّة على مستويات عديدة (سياسيّة وثقافيّة وإعلاميّة) من أجل مواجهة
الغطرسة التركيّة والقومية الطورانيّة المعادية لحقوق الشعوب غير
التركيّة. وليس سرّاً أنّ اندلاع ثورة كردية عارمة في كردستان تركيا،(
انتفاضة آكري1927-1930) رُفع خلالها علم كردستان سنة، إلاّ قليلاً، في
جبال كردستان كان بتنسيق بين الحركة القومية الكردية( ممثّلة بتنظيم
خويبون) والحركة القومية الأرمنيّة (ممثّلة بحزب الطاشناق).(21)
وفي الوقت الذي تطالب فيه النّخب السياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة
الأرمنيّة، في دولة أرمينيا والشّتات، تطالب تركيا – الدولة، لا الكورد،
بالإقرار بالمسؤولية السياسيّة والأخلاقيّة، وتبعاتها القانونيّة
والإنسانيّة، إزاء النكبة الأرمنيّة، يجاهد بعضهم ،عبثاً، في تحميل الكورد
المسؤولية عن ذلك ويطالبونهم بالاعتذار للأرمن، كما هو حال صاحبنا في
مقالاته… سيما وأنّ هذا "البعض" لم يعتذر، إلى اليوم، للأكراد عما يعنيه
في المأساة الكردية على يد أنظمةٍ قاهرة تمثّل ثقافة هذا البعض من أوجهٍ
عديدة: ثقافة الكراهية والضّغينة؟
لكنّ منطق الاعتذارات نفسه بحاجة للكثير من الضبط والتدقيق، بافتراض حسن
النوايا. لماذا نعتذر، نحن أبناء اليوم، عن جريمة لم نقترفها نحن. وهل
كلُّ عربيّ أو تركيّ أو كرديّ ….مسؤولٌ عن أيّ شاردة وواردة في تاريخ
"جماعته".
"أدب" النَّفير القوميّ العربيّ…. وأخيراً نطرح سؤالاً كبيراً وأساسيّاً : هل يناصر السيد أبو فخر قضيّته
الفلسطينيّة، فقط لأنّه عربيّ- فلسطينيّ ، أي من منطلق قوميّ - عصبويّ
وحسب، وهو كذلك بالتأكيد، أم لطابعها الإنسانيّ- الكونيّ ولأنّها تستحقّ
العدالة بحدّ ذاتها كذلك. ولمّا كان الجواب جليّاً في السؤال فإنّ تساؤلاً
آخر، غير محايدٍ في الحقيقة، يبرز هنا في السياق : لماذا، إذاً، مطالبة
الكورد، الذين لم يكونوا قوميّين عرب؟!، بأنْ يكونوا فلسطيينّين أكثر من
الفلسطينين والعرب ما دام الشرط الأخلاقيّ- الإنسانيّ مختلاًّ هنا؟ ثمّ
لماذا هذا الإلحاح على "جرّ" الكورد إلى ساحات الوغى والمقاومة ماداموا
"أحفاد القَتَلَة" لا يعوّل عليهم؟ أم أنّ أباطرة القوميّة العربيّة هم
مَنْ يقرّرون كيف، ومتى، وأين يكون الأكراد "أحفاد صلاح الدين الأيوبي
محرّر القدس" أو "يتامى المسلمين"(22)( على زعم العطف والأخوّة وفق صياغة
إسلاميّة هذه المرّة) وإلاّ فهم "أحفاد القَتَلَة" لو تخلّفوا عن النَّفير
القوميّ العربيّ، الذي لو قيّض له التحقّق تامّاً لأنزلَ ويلاتٍ وكوارثَ
أخرى بالأكراد و..بالعرب…بناءً على ما نقرأ وحسبما نرى من حولنا…؟!