في مقالٍ ممتعٍ جدّاً بعنوان "بانوراما عن الفلسفة الفرنسيّة
المُعاصِرة"، يحاول الفيلسوف الفرنسي آلان باديو أن يعثر - في خطوة أولى-
على جذورٍ فرنسيّة خالصة للفكر الفرنسيّ الذي نشأ في النصف الثاني من القرن
العشرين وبتحديدٍ أكبر ما بين "الوجود والعدم" (1943) لسارتر وصولاً إلى
"ما هي الفلسفة؟" (1991) لدولوز. يعثر باديو على ضالّته في الفلسفة
الفرنسية للنصف الأوّل من القرن العشرين وبالتحديد في مؤلّفين رئيسيين في
الفكر الفرنسي في تلك الحقبة، والمقصود هنا كتاب هنري برغسون "الفكر
والمُتحرِّك" (1934) و"مراحل فلسفة الرياضيات" (1912) لليون برونشفيك. يجد
باديو في كتاب بيرغسون هذا فكرة "فلسفة الحياة والصيرورة" التي سيمتدّ
تأثيرها على الفكر الفرنسيّ حتى نهاية القرن العشرين، بينما يجد في كتاب
برونشفيك حول فلسفة الرياضيات "فلسفة المفهوم" التي سوف تطبع الإنتاج
الفلسفي في فرنسا ما بعد الحرب العالميّة الثانيّة. لا يكتفي باديو بالعودة
إلى النصف الأوّل من القرن العشرين ليُجذِّر الفكر الفرنسي في الأرض
الفرنسيّة، وإنما يُلمِّح إلى إمكانية العودة إلى ديكارت كجذر أبعد مؤسِّسٍ
لذلك الفكر، حيث يقول: "لنُلاحظ أنه بإمكاننا أن نرجع أبعد من ذلك وأن
نقول في نهاية المطاف، أنّ هناك إرثاً ديكارتياً، وأنّ الفلسفة الفرنسية في
النصف الثاني من القرن العشرين هي نقاش ضخم حول ديكارت1". رغم الحجج
الرائعة التي يتقدّم بها باديو في مقاله ذاك، إلا أننا لا نتّفق معه في هذه
القراءة، ولا نعتقد أنّ الفلسفة الفرنسية في النصف الثاني من القرن
العشرين كانت تبحث عن أيّ رابطة مع جذورها القوميّة، بل إننا نجد أنّ تلك
الفلسفة، على العكس من ذلك، كانت في ذلك الزمن فلسفة ثائرة متمرِّدة على
كلّ ميراثها الفرنسيّ. لقد كانت فلسفة تنظر بعين النقد والشكّ إلى ذلك
الإرث القوميّ، وكانت ترغب دون شكّ في تفكيكه وتجاوزه. لهذا استعانت
الفلسفة الفرنسية لما بعد الحرب العالمية الثانية (غير الرسمية- أو ما كنّا
قد أسميناه في مقالٍ سابق بفلسفة الهامش) ببعض التيارات الفلسفية
الألمانية الحديثة والمعاصرة بعد أن قامت بالاشتغال عليها ومواءمتها
لأغراضها الخاصة.
وللتدليل على ثورية الفلسفة الفرنسية في النصف الثاني من القرن العشرين،
لنتحدّث عن الوجودية الفرنسية، التي عملت على استيراد الفلسفة الألمانية،
متمردةً بذلك على واقعها وميراثها الوطنيّ عاكسةً في مرآتها واقع الفكر
والثقافة الفرنسيين لفترة ما بعد الحرب. هكذا وفي غضون سني الأربعينات
والخمسينات من القرن العشرين، أصبح سارتر- الذي كان قد بدأ إنتاجه الفلسفيّ
والأدبيّ تحت تأثير هوسرل وهيدغر- وريث الوجودية الألمانية وممثّلها
الأبرز في فرنسا. لقد كانت هذه الفلسفة بأحد المعاني المرآة التي عكست
مرحلة اليأس الذي ترافق مع نهاية الحرب العالمية الثانية، ولكن الذي ما لبث
أن خلف مكانه سريعاً لحالةٍ من التمرّد والثورة. هكذا ابتدأت هذه الفلسفة
بمفردات اليأس وانتهت بمفردات التمرُّد والمقاومة والحُرّية. وإذا ما
مثَّلت الحرب العالمية الثانيّة قطيعة في تاريخ الفلسفة الألمانيّة التي
انكفأت على نفسها باحثةً عن جذورها العقلانيّة الكانطية، ومتخلّيةً عن
ميراثها النيتشويّ الهيدغريّ المتّهم بعلاقة غامضة مع النازيّة، فإنّ هذه
الحرب ستمثِّل أيضاً قطيعةً في تاريخ الفلسفة الفرنسية الباحثة عن الخروج
من نفق الفلسفة المدرسية التي مثّلتها البرغسونية وفلسفة الوعي المثالية
البرنشفيكية.
من الصحيح أن فرنسا قد خرجت هي أيضاً من الحرب العالميّة الثانية مرعوبةً
من وحشية الإنسان "الحديث". ومثلما عبّر هيدغر ومدرسة فرانكفورت في
ألمانيا كلٌ على طريقته عن قلقهما من تطور التقنية وهيمنة العقلانية
(الأداتيّة النفعية بالنسبة لمدرسة فرانكفورت والتي تعمل على الإمعان في
حجب الوجود ونسيانه بالنسبة لهيدغر)، فإنّ الفلسفة الوجوديّة الفرنسيّة قد
وجدت هي أيضاً في المفردات السوداوية اللاصقة بالوجودية الوسيلة الأمثل
لتُعبِّر عن حالة القلق والعدم والعبث والغثيان والاغتراب الخ. لقد تحوَّلت
الوجودية في فرنسا في تلك الحقبة إلى طريقة في الحياة، ويعود سبب انتشارها
على نطاقٍ واسع وشعبيّ إلى الكتابات الأدبية لسارتر وكامي وسيمون دي
بوفوار الذين جذبوا، بأُسلوبهم الأدبيّ وفكرهم الجديد، جمهوراً غفيراً من
القراء مخرجين الوجودية بذلك من حقل المفاهيم الفلسفية عسيرة المنال على
غير المختصين.
رغم الجروح والندوب التي خلّفتها الحرب العالمية الثانيّة على مفردات
الوجودية الفرنسية، إلا أن فرنسا كانت جاهزة لقلب صفحة الحرب وبدء صفحة
جديدة في تاريخها السياسي والثقافي المعاصر. هكذا ستستعيد باريس مكانتها
كعاصمة للثقافة العالميّة، وستشهد مفردات الفلسفة الوجوديّة نغمة جديدة حيث
سيُخلي ذلك الحسّ السوداويّ المتشائم المكان شيئاً فشيئاً لنغمة متمرِّدة
ومقاوِمة. هكذا وعلى الرُّغم من "الباب الموصد" والسقوط المتكرِّر ﻟ "صخرة
سيزيف"، ستجد الوجودية الفرنسية في تلك المرحلة إمكانية الاحتجاج على
الشروط الإنسانيّة القاهرة. وبكلمة أُخرى، ستبحث الفلسفة الفرنسية- ممثلة
بالوجودية حينها- عن أُفقٍ جديد وبداية أُخرى في "الأزمنة الجديدة"،
مؤكِّدةً على قيم الحُريّة والمقاومة التي تُعبِّر عنها بوضوح أعمال ألبير
كامي: "صخرة سيزيف"و"الإنسان المُتمرِّد"، وكذلك الأعمال المسرحية لسارتر
مثل مسرحية "الذُباب" و"الباب الموصد". إنّه اليأس الذي يمنح الأمل، إنّه
"أمل اليائسين" لو استعرنا توصيف فالتر بنيامين الجميل. لقد كانت الفلسفة
الفرنسيّة متمرّدة منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين، لقد كانت
متمرّدة ضدّ كلّ شيء، وسوف تتمظهر هذه الروح المتمرِّدة بشكلِ واضح في سني
الستينات عبر مجموعة من الثورات، الجنسية والاجتماعية والثقافيّة، والتي
ستؤكِّد جميعها قدرة الفلسفة على المقاومة والتمرُّد والرفض والاحتجاج.