يصعب على القارئ المتتبع لكتابات المفكّر العربي محمد عابد الجابري أن
يتابع تحوّلاته الفكرية وانحداره السريع من الخطاب العقلاني إلى الخطاب
الديني. وينطبق هذا القول أكثر ما ينطبق على كتابات الجابري في الصحف
والدوريات العربية. وقد بدأت بوادر هذا التحوّل تتجلَّي في مقالاته التي
نشرها في مجلة "المجلة"، ولكنها تأخذ منحى أكثر وضوحا في المقالات التي
ينشرها في جريدة "الصباح" التونسية.
في عملية فهم خطاب ما، وموضعته وتقويمه، لا بدّ من معرفة مصدره. وتفسير
ذلك أنه لو جاء خطاب ما من رجل دين فإنّ تقويمه سيكون مختلفا عن الخطاب
نفسه إذا جاء من مفكر علماني أو عقلاني. وسأنطلق من هذه الزاوية في محاولة
فهم إحدى أواخر مقالات الجابري التي نشرها في "الصباح" مؤخرا.
المقالة التي أعنيها نشرت في عدد 24 آذار (مارس) الماضي، وقد عنونها
الجابري بـ "الشهادة والشهداء والحور العين." (1) وقصد منها أن يقدم درسا
تربويا للفتيان الذين يقومون بعمليات انتحارية وفي ظنهّم أنّهم ماضون إلى
الجنّة مباشرة للتمتّع بالحور العين والخمر المعين.
لكنت صفقت بحماس لمقالة الجابري لو أن الذي كتبها كان الشيخ البوطي أو
الغنوشي أو القرضاوي، أما أن تأتي من كاتب "نقد العقل العربي،" فلا بدّ من
التوقف عندها مليا قبل القبول بها.
يقول الجابري إنّ ما حمله على الخوض هنا في هذا الموضوع هو ما ورد في مقطع
من فيلم بثته مؤخرا قناة فضائية عربية، يعرض صورا لشبان أثناء استعدادهم
فرحين مستبشرين للقيام بـ "عمليات استشهادية،" وهم يحسبون أنهم ماضون قدما
للنوم مع الحور العين في الجنّة.
ويفند الجابري هذا القول من ثلاث نواح. فأوّلا، يبدأ بمحاولة لتعريف
الشهادة والجهاد، تقوم على أنَّ "الشهداء" هم الذين يقتلون "في جهاٍد
استكمل شروطه (…)وفي مقدمتها أنها حرب دفاعية عادلة تقوم على مواجهة عسكرية
بين المُعتدَى عليه والمعتدِي ولا يُقاتَل فيها إلا الذين يشاركون في
قِتال المسلمين. ويضيف الجابري أن الله قد وعد الشهداء بالتمتع في نعيم
الجنة، ولكنه يسأل: "متى يبدأ نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار؟" ويجيب أن
جميع ما ورد في القرآن حول البعث والثواب والعقاب إنما يكون بعد قيام
القيامة.
لا أعرف من أين جاء الجابري بتعريفه للشهيد في الإسلام، ولا بتعريفه
الجهاد. ولنبدأ بالأخيرة. لم يقدّم القرآن أيّ تعريف للجهاد، ولكنّ
المفسّرين والفقهاء اختلفوا في تفسيره. فمن فتوى متحضِّرة أصدرها المجلس
الأوربي للبحوث والإفتاء حول موضوع الجهاد ونفي علاقته بالإرهاب، التي رأت
أن "للجهاد معاني عدّة منها: جهاد النفس بتزكيتها، والجهاد بالمال والقلم
واللسان والعلم والتقنية، بل الجهاد بالقرآن نفسه،" (2) إلى تفسير راديكالي
حاسم للإمام ابن القيم (3) الذي يقول إن الله أذن للنبيّ في الهجرة، "وأذن
له في القتال. ثم أمره (التشديد كلُّه من عندنا) أن يقاتل من قاتله، ويكفّ
عمّن اعتزله ولم يقاتله. ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله،"
وهو ما يدعمه سيد قطب في قوله: "إن غاية الجهاد في الإسلام هي
هدم بنيان النظم المناقضة لمبادئه وإقامة حكومة مؤسسة على قواعد الإسلام في مكانها واستبدالها بها وهذه
المهمة … غير منحصرة في قطر من الأقطار، وذلك أنها فكرة انقلابية لا تؤمن
بالقومية، بل تدعو الناس جميعا إلى سعادة البشر وفلاح الناس أجمعين،" فأي
التفسيرين نأخذ في فهم الإسلام للجهاد، ولماذا علينا أن نصدق تفسير الجابري
ولا نصدق تفسير سيد قطب؟
وحتى في القرآن، ثمة تباين بين آيات الجهاد. فإذا قرأنا الآية 190 من سورة
البقرة التي تقول: "وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ،" سارعت الآية التي تليها مباشرة (2: 191) إلى دحض الرؤية
المتسامحة فيها: "وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم
مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ…" ثم
الآية 91 من سورة النساء: " سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ
يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمهمْ، كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَة
أُرْكِسُوا فِيهَا، يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمهمْ،
فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمْ السَّلَم، وَيَكُفُّوا
أَيْدِيَهُمْ، فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ،
يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّواْ
أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ
وَأُوْلَـئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا." فههنا
لا يمكن للجابري أو غيره من معتدلي الفكر السلفي أن يجدوا تفسيرا معتدلا
لفكرة القتال والجهاد.
أما تعريف الجابري للشهيد والشهادة فهو تفسير غريب أيضا. لقد وردت كلمة
شهيد في القرآن أربعا وعشرين مرة، لم تكن ولا واحدة منها تعني القتل في
المعركة. وإنما وردت جميعها بما تعنيه الآية التالية (سورة 22 - آية 78) "
وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ
سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ
شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا
شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ." وكذلك وردت كلمة شهداء ثماني عشرة مرة، كانت كلها بمعنى
ما يرد في الآية التالية (سورة 4 - آية 135): " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى
أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ
فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن
تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرًا."
إذن، إن مفهوم الشهادة بما هو الموت مقتولا في سبيل الله أو أي سبيل آخر
هو مفهوم ما-بعد قرآني، ونراه قد تسلل إلى الأحاديث النبوية، كما سنرى
أدناه، ولكنه تكامل وتفرّع وأثمر على يد مشايخ الحرب فيما بعد من القرون.
بعد ذلك ينفي الجابري ما يروى عن "سؤال الميت في القبر" قبل قيام الساعة.
أما محاولة بعض المفسرين إسناد ذلك ببعض الآيات القرآنية فهي، بالنسبة
للجابري، ليست سوى "نوع من التأويل بعيد، أبعد من تأويلات الباطنية." وهو
في ذلك يحاول أن يثني الانتحاريين عن عزمهم القيام بعملياتهم، لأن الحساب
لا يأتي بعد الموت مباشرة، وإنما عندما تقوم الساعة. يا له من سجال يقوم به
مفكّر عقلانيّ مع الإرهاب: لا تقوموا بعمليات انتحارية لأنّ الثواب لا
يأتي مباشرة بعد الاستشهاد! ثمة مائة مرجع إسلامي على الأقلّ سيعتبر تأويل
الجابري هرطقة، ولن أغوص في هذا الأمر الشائك الآن، على أنه سيكون أسهل
الأمور الاستشهاد بالحديث النبوي الذي رواه أحمد: "لاَ تَجِفُّ الأَرض من
دم الشَّهِيد حتى تبتدره زوجتاه، كأنهما طيران أَضَلَّتَا فَصيليهما ببراح
من الأرض، بيد كلٍّ منهما حُلَّة خير من الدنيا وما فيها." فمن سيصدق
الانتحاريُّ يا ترى الجابريَّ أم شيخَه المؤيَّد بالحديث الشريف؟
أما النقطة الأخيرة التي يجد الجابري نفسه متورّطا فيها فهي تفسيره للحور
العين في الجنّة، إذ لسبب ما يستنتج المفكر العقلاني السابق أنّ الحُور
العِين لسن فتيات من جسم ولحم كما في الدنيا وإنما هنَّ مكافأة مجازية،
وتمثيل بقصد الترغيب. وهو يرى أن أولئك الشبان الذين يُقدمون على العلميات
الانتحارية باستبشار "قد فهموا (أو أفُهِموا) هذه الآيات ومثيلاتها التي
تتحدث عن نعيم الجنة فهما لفظيا ماديا متخيلين أن الحور العين في الآخرة هي
هي كما في الدنيا، تماما كما فهم مشركو قريش الآيات التي تتحدث عن عذاب
النار فهما لفظيا كذلك، فاحتجّوا بعدم معقولية وجود شجرة الزقّوم في نار
جهنم مع أنّ النار تأكل الأخضر واليابس." ويردّ الجابري على مشركي قريش
وعلى الإرهابيين الإسلاميين بأنّ القرآن قصد بالترهيب بالنار معنى مجازيا،
ليجعلها "فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ."
تدهشني مقدرة الجابري على تفسير الأمور على هواه. ويفاجئني، وهو المفكر
والباحث المدقق في كتبه الأولى، استسهاله لإيجاد الحلول الجاهزة القريبة.
والأدهى أن الجابري اختار لإثبات وجهة نظره أكثر السور وضوحا في هذا
المجال، وهي سورة الواقعة، حيث نقرأ عن نعيم أهل الجنة أنهم «عَلَى سُرُرٍ
مَوْضُونَةٍ (منسوجة بالذهب)، مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ.
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (يهرمون ولا يموتون)،
بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِين (من خمر جارية)، لَا
يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (لا يصيبهم الصداع من شربها ولا
يسكرون)، وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ، وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا
يَشْتَهُونَ، وَحُورٌ عِينٌ (فتيات كبيرٌ بياضُ أعينهن) كَأَمْثَالِ
اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (…) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً35
(خلقناهن من دون ولادة) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا36 (عذارى)، عُرُبًا
أَتْرَابًا لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (عاشقات لهم متساويات في السن)."
أما "أصحاب الشمال" المشركون فإلى جهنّم حيث سيعانون "فِي سَمُومٍ
وَحَمِيمٍ (ريح حارة ودخان)، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، (دخان شديد السواد)
لا بَارِدٍ ولا كَرِيمٍ. وهم "لَآَكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ.
فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ."
لا يتردد الجابري بعد أن يتكبَّد عناء سرد الآيات السابقة من سورة الواقعة
مع شرح مادي صرف لها من الاستدراك بأنّ شجر الزقوم والحور العين ما هي إلا
مجازات يسردها القرآن ترهيبا للناس وترغيبا لهم. ولكنّ الجابري لا يقول
لنا - إذا أردنا أن نصدق تفسيره – ما الذي نفعله بكلّ الأحاديث النبوية عن
الحور العين بوصفهن نساء حقيقيات ومواضيع جنسية. ففي الحديث الذي يرويه
الترمذي وابن ماجه بإسناد صحيح عن المقدام بن معدي كرب قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من
دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر،
ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوته منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج
اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقربائه." وروى
البخاري ومسلم عن أبي هريرة قوله "لكل واحد منهم زوجتان، يرى مخ سوقهما من
وراء اللحم من الحسن". وقال ابن عباس : إن في الجنة حوراء يقال لها لُعبة
لو بزقت في البحر لعذب ماء البحر كله. مكتوب على نحرها من أحبّ أن يكون له
مثلي فليعمل بطاعة ربي عزّ وجلّ". وورد في مسند أحمد وسنن الترمذي بإسناد
صحيح عن معاذ رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تؤذي
امرأة زوجها في الدنيا، إلا قالت زوجته من الحور العين : لا تؤذيه قاتلك
الله، فإنما هو دخيل عندك يوشك أن يفارقك إلينا". وإذا لم تكن الحور العين
موضوعا جنسيا، فلماذا يعطى الرجل قوة مائة رجال؟ عن أنس عن النبي قال:
"يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا من الجماع . قيل يا رسول الله، أو يطيق
ذلك؟ قال : يعطى قوة مائة رجل". رواه الترمذي.
في ظنِّنا أن محاولة الجابري ثني الإرهابيين عن عملياتهم الانتحارية،
بتفسيره الخاص للجهاد والشهادة، ومن ثَمَّ بأن الثواب مؤجل وليس معجلا،
وأخيرا بإقناعهم أنهم لن يجدوا في الجنة حورا عينا للجماع بل مكافأة رمزية،
هي محاولة بائسة، لأنها لا تقوم من ناحية على أساس ديني متين، ومن ناحية
ثانية تحمل في طياتها تبريرا لأعمال الإرهابيين إذا ما كان التفسير المقابل
صحيحا. بكلمات أخرى، يحمل جهد الجابري رسالة تقول إنه لو كان ثمة حور عين
للجماع في الجنة، لفهمنا رغبة الانتحاريين في الاستشهاد. ولكن لأنّ الحور
العين هو موضوع ترغيبيّ بحت، فإنّ العمليات الانتحارية لا معنى لها.
ولنلاحظ أن الجابري لم يقم بإدانة الأعمال الإرهابية (سواء أكانت انتحارية
أم غير ذلك) وكذلك لم يفعل أي من قادة الرأي الإسلاميين المرموقين الذين
يظهرون على شاشات الفضائيات آناء الليل وأطراف النهار. وإنما صبَّ جهده كله
لثني الإرهابيين بدعاوي باهتة، لن يقبلها الأصوليون والسلفيون
والراديكاليون، كما لن يقبلها العقلانيون سواء أكانوا مسلمين أم غير ذلك.
البديل عن جهد الجابري هو أن يقال بملء الفم إنّ قتل البشر، بما هم بشر،
حرام على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وألوانهم وأعراقهم، وأنّ على المسلمين أن
يعوا أنهم يعيشون على هذا الكوكب مع أربعة أمثالهم من البشر الآخرين الذين
لا يشاركونهم دينهم ولكنهم يشاركونهم إنسانيتهم، وأنهم بهذا المعنى إخوة
في الإنسانية وجيران على هذا الكوكب، بقطع النظر عن لونهم ودينهم وعرقهم
وجنسهم، وأنّ علاقاتهم ينبغي أن تقوم على أساس ما يربطهم على هذه الدنيا،
وليس على أساس تقويمهم في الحياة الأخرى، التي يمتلك كل منا تفسيره الخاص
لها.