حين اجتمع مئات المتظاهرون حول
القصر الرئاسي في (جاكرتا)، لم تكن النية الاحتجاج أو التنديد
بالنيوليبرالية التي تهيمن على اندونيسيا، أو المطالبة بالقضاء على الفساد
المستشري في البلاد كالنار في الهشيم. لا أبداً، في الحقيقة وفي نظرة أشد
تركيزاً، نلاحظ أن هؤلاء الذين يبدو عليهم الغضب الشديد بالعصابات البيضاء
المشدودة على رؤوسهم، قد أمسكوا بالصحون الفخارية الكبيرة والأباريق
المملوءة بمختلف انواع البخور، يرتل معظمهم تعويذةً شديدة الفاعلية لا
يُغلب عليها اطلاقاً لطرد شياطين الفساد الإداري؛ المس الذي أصاب الأمناء
على خزينة الدولة أو الانهيار الأقتصادي الخطير الذي تشهده البلاد.
إنه رجل الشعوذة مجدداً والذي لم يكن سيجرؤ على إقحام منتجات صناعة
الماورائيات في المجتمع سوى عندما وجد أن الأرض خصبة لزرع وتنمية أفكار
الخرافات، يتم الأمر ضمن استغلال غفلة الشعوب، والضعف والظروف السيئة التي
تمر بها، خاصةً أن قابلية ثقافة المجتمع المستكين، تجعله مستعداً لتبني كل
جديد في عالم الشعوذة والخرافة والغيبيات…
ماحدث في اندونيسيا كان بالتواطؤ مع السلطة السياسية، وفي حالة التظاهرة
الغريبة في جاكرتا، هناك مشاركة واضحة بين الخرافي والسياسي الذي يفترض أن
يكون مثقفاً بشكل أو بأخر.. أو على الأقل قد تلقى تعليماً جامعياً رفيع
المستوى.. ربما (الأنتلجينسيا) هي أول من يرفض أن يعترف بثقافة صاحب السلطة
الخاصة. رئيس اندونيسيا يجد نفسه في دوامة الأزمات وتصريحات المعارضة،
يستدعي أصحاب الطرق وأتباع الخرافة ثم يأمر بحرق كميات هائلة من البخور
أمام دارته في أفظع عملية لتغييب الفكر العقلاني تشهدها الألفية الثالثة،
لصالح تطهير النظام من الآثام والشياطين..!!
في الجغرافية ذاتها، ضمن حدود دولة أشد قرباً إلى الخارطة العربية، في
الباكستان تحديداً تشيع أجهزة الإعلام الرسمي هناك عن قيام رئيس البلاد آصف
علي زرداري بذبح عنزة سوداء حصراً..! من أجل درء عيون الشر وحمايته
الشخصية من السحر.. الأسود طبعاً. الماعز الذي يساق إلى الذبح يومياً أمام
عتبة بيت الرئيس يوزع (صدقةً) من أجل التقرب إلى الله، والحماية من مصائب
الزمن ونوائب الدهر الخفية..!!. عنزة سوداء واحدة تذهب للفقراء كل صباح،
وهم إما معدودون على الأصابع لذلك يتقاسمون لحم ذبيحة واحدة، أو أن الرئيس
زرداري لا يملك فكرة واضحة تماماً عن نسبة الفقراء والمشردين والعاطلين عن
العمل في (الباكستان)… اللهم اعفِ عنا شر العطالة..!!
في المقابل ثمة سؤال يطرح نفسه: أين يقف المثقف من كل هذا.. وكيف ينطلق؟
حسناً ليست ثمة إجابة حاسمة في هذا الشأن مع فقدان مجتمعات العالم الثالث
الثقة بدور الثقافة الفعال، بالتزامن مع انهيار الرمز السياسي والاجتماعي
أيضاً، في ظل استبداد سياسي قهري ومتخلف يعمل على تشويه القيم، ويحول
الجماهير من التفكير إلى الإيمان بالخرافة والشعوذة بشكل غير مباشر، ومباشر
بوقاحة أحياناً. هكذا يتضح موقف المثقف السلبي من المؤسسة الثقافية
الموجهة: يختار المغادرة إلى المنفى، وهناك إما تسقط أوراقه على طرقات
الغربة، أو يصبح صدى مرتداً لنفيه (القسري) لكن حريصاً على استعادة نظريته
الفكرية التي تسقط هي الأخرى جراء التقادم..!
من جهة أخرى يقع التفكير الخرافي، إن صح التعبير، في موقف الضد من
العقلانية، الهوة واسعة بينهما لكن منح المنطق الخرافي آليات الرأي العام
والتأثير النفسي الباطني من قبل سطوة السياسي الشديدة التأثير في الجمهور،
يطلق يد الشعوذة ثم يغلب النسق الخرافي والماورئيات ضمن تفكير الجماعة
البشرية..
موقف (الأنتلجينسيا) الهزيل من الأمر، والرافض للادعاء الثقافوي للسلطة
بآن، يذكر بصفحةً من تاريخ عصر النهضة تناقض مواقف المثقفين الحالي، أثناء
مجابهة رواد الفكر للعادات والتقاليد الخرافية السائدة، بالأخص (دانتي)
وخطابه الذي استند على الكلام الدارج الموجه إلى الشعب الإيطالي، واستطاع
على المستوى الأدبي في (الكوميديا الألهية) تجديد اللغة بعيداً عن الخطاب
الرسمي المعهود،.. ناهيك عن دور كتابه الرائع في تعزيز آلية التفكير
العقلاني من أجل المشروع العام في التغيير.
في البلاد العربية حدث ولا حرج! ثمة رجل دجال استطاع الحصول على مقعد في
المجلس النيابي في الأردن في الماضي، كانت الفضيحة مدوية على جميع الأصعدة.
بكل الأحوال تستطيع أن تتخيل أن مشعوذا واحداً على الأقل في قائمة زوار
هذا المسؤول أو ذاك.. التالي..؟ تنتظر على الباب بفارغ الصبر قارئة الفنجان
المودرن مع الركوة الرشيقة… يا ولدي!!