أثناء مشاركتي في مهرجان الجنادرية الأخير صدرت عنّي عبارة متهوّرة تقول
ما معناه : نحن لسنا شرقا على عكس ما نتوهّم وإنّما غرب! الشرق الحقيقيّ هو
الشرق الأقصى الذي يبتدئ مع الهند والصين واليابان وأديان الشرق الأقصى
كالهندوسية والبوذية والطاوية والكنفوشيوسية. أمّا نحن وأوروبا فننتمي في
نهاية المطاف إلى تراث واحد أو متشابه. وهو يتشكّل من تيّارين أساسيين :
الديانة التوحيدية زائد التراث الفلسفي اليوناني. هذه العبارة أثارت غضب
رئيس الجلسة خاصة وأنّه عضو في هيئة كبار العلماء في المملكة التي تضمّ
فقهاء البلاد الأساسيين. فاستغرب كلامي جدّا وانزعج من هذا الخلط بيننا
وبين الغربيين وخاصة أنهم مسيحيون ويهود. بل اعتقد بعضهم أنّي أشتم أديان
الشرق الأقصى أو أحاول التبرّؤ منها.. فحاولت أن اشرح موقفي عن طريق القول
بأنّ كلامي ليس فيه أيّ تجريح لأديان ضخمة ينتمي إليها أكثر من نصف سكان
المعمورة من صينيين وهنود ويابانيين الخ. ولكني أسجّل فقط ملاحظة واقعة :
وهي أنّ الإسلام أقرب إلى اليهودية والمسيحية منه إلى الهندوسية أو
البوذية. فمرجعيته هي دين التوحيد الذي اخترعه اليهود في الأصل. وهي ملاحظة
سطحية في الواقع ويدركها أيّ شخص. ولكن بسبب العداء التاريخي بيننا وبين
اليهود مثلا أو بيننا وبين المسيحية الغربية إبان الحروب الصليبية فإننا
نعتقد بأننا أقرب إلى دين الهنود منا إلى دين اليهود! بل ونربأ بأنفسنا أن
تكون هناك أيّ علاقة بين ديننا ودين هؤلاء. معاذ الله..
للدلالة على ذلك أكثر سوف أروي هذه النكتة التي لا تكاد تُصدق.
عندما اجتمع كبار رجال الدين في فرنسا للتناقش حول بعض القضايا العامّة
فاجأهم البوذيون حتى قبل أن يجلسوا إلى الطاولة قائلين لممثلي اليهود
والمسيحيين والمسلمين : نرجوكم ألا تتحدّثوا لنا عن هذا الشخص الذي يُدعى
الله. فنحن لا نعرفه ولا نعترف به! صعق الحاضرون بهذه الصراحة ولكنهم قبلوا
في نهاية المطاف بأن يتناقشوا حول القضايا المشتركة. فهذه هي الحقيقة.
البوذية لا تقوم على فكرة الله والوحي كمرجعية أساسية مثلما هو عليه الحال
لدى الديانات الإبراهيمية. وإنما لها مرجعياتها الروحية والعقائدية الخاصة
بها والمختلفة تماما. وقل الأمر ذاته عن الهندوسية والكنفوشيوسية والطاوية.
والواقع أن معظم أديان الشرق الأقصى تشبه الفلسفات أو الحكمة القديمة أكثر
مما تشبه الأديان بالمعنى المتعارف عليه للكلمة. ولكنها بالنسبة لأصحابها
تُعتبر أديانا وتقدّم الطمأنينة والحقيقة المطلقة والعزاء في مواجهة مصائب
الحياة أو عدمية الموت والفناء الأبدي.
بناء على كل ما سبق فإننا نستنتج بأنّ العرب والأوروبيين ينتمون إلى نفس
الفضاء الفكري والحضاري رغم أنهم يتوهمون العكس! فأن تقول للأوروبي بأنك
تنتمي وإياه إلى نفس العمق الحضاري فإنّه ينزعج ويشمئزّ فورا وخاصة إذا كان
من الاتجاه اليميني المتغطرس. فكيف يمكن لك أنت المتخلّف الهمجيّ أن ترتفع
إلى مستواه وهو الحضاري؟! ولكن هذا الكلام قد يدهش أيضا الكثير من
المثقفين العرب وربما أصابهم بالذهول. لماذا؟ لأنهم لا يزالون أسرى
الايدولوجيا القديمة القائمة أساسا على الصدام مع الغرب باعتباره كتلة
واحدة صماء بكماء عمياء..إنهم من هذه الناحية يشبهون صموئيل هانتنتعتون
وبرنارد لويس ولكن بشكل معكوس. فنحن أيضا عندنا متطرفونا ومثقفونا
اليمينيون المحافظون. المحافظون الجدد موجودون في كلتا الجهتين لا في جهة
واحدة. وأيديولوجيتهم مرفوضة علميا وإنسانيا لأنها تحتقر الآخر أو تشيطنه
وتكرهه معتبرة إياه كتلة واحدة. وهي الايديولوجيا الغوغائية الديماغوجية
التي سادت منذ خمسين سنة أو أكثر والتي شوهت عقول ملايين العرب ولكنها الآن
في طريقها إلى الانهيار والانحسار لحسن الحظ. ولو صح لي أن أقلد كارل
ماركس لألفت كتابا كاملا بعنوان: بؤس الايديولوجيا العربية أو ايديولوجيا
البؤس والفقر الفكري المدقع. وذلك على غرار كتابه الشهير: بؤس الفلسفة، أي
الفلسفة التجريدية الطوباوية التي لا علاقة لها بالواقع(1). وهذه العقيدة
البائسة كنت قد دعوتها سابقا بالايديولوجيا القومجية- الأصولية لأنها تعتمد
ركيزتين لا ركيزة واحدة: مفهوم شوفيني متطرف للقومية العربية، ومفهوم سلفي
متطرف أيضا للإسلام. إنها ايديولوجيا استلابية بكل ما للكلمة من معنى. وقد
أدت إلى تعطيل عقول الشبيبة العربية بل وحرفها في اتجاهات انزلاقية أو
مغامرات خطرة دفعنا ثمنها غاليا في 11 سبتمبر ولا نزال..وكل فكر
الليبراليين العرب مكرّس منذ سنوات لتفكيك هذه الايديولوجيا الرثة وإحلال
الفكر النقدي العقلاني المستنير محلّها. وهم بذلك يتابعون مسيرة طه حسين مع
تطويرها بالطبع وتعميقها أو توسيعها أكثر فأكثر. من يستطيع أن يذكر اسم طه
حسين الآن أمام القومجيين العتاة أو الاصوليين السلفيين؟ والعياذ
بالله!..طه حسين، ذلك "الأعمى" الذي قال عنه مرة جان كوكتو هذه العبارة
الرائعة : مشكلة طه حسين أنّه "يرى" إلى أبعد مما تستطيع مصر والعرب أن
يتحملوه..والذي قال عنه نزار قباني هذا البيت الذي لا يقل روعة :
الق نظارتيك ما أنت أعمى إنما نحن جوقة العميان
ليس غريبا إذن أن يكون عميد الأدب العربي قد غادرنا يائسا وهو يردّد هذه
العبارة : "أترككم بالكثير من الألم والقليل من الأمل".. وقد صدق. فلو عاش
ورأى كلّ ما حصل منذ وفاته وحتى الآن لجنّ جنونه!
لكن لنعد إلى الأطروحة الأساسية التي ابتدأنا بها هذا الحديث. نعم نحن
والأوروبيون ننتمي إلى نفس الفضاء الحضاري رغم كلّ المظاهر السطحية التي
توحي بالعكس. ورغم "تطرّف" طه حسين في اتجاه الانسلاخ عن الشرق والالتحاق
بالغرب إلا أن منظوره العام يبقى صحيحا. لماذا؟ لأنّ التيارات الفكرية التي
سادتنا هي واحدة. فدين الغرب ولد في الشرق لا في أوروبا. بل إن الأديان
المسيطرة على المنطقة كلها آتية من جهتنا : اليهودية والمسيحية من فلسطين
والإسلام من شبه الجزيرة العربية. وبالتالي فالمسيحي الفرنسي ينبغي أن يشعر
تجاه المسيحي العربي بأنه يدين له بشيء ما.. وحتى اليونان التي تعتبر
المصدر الآخر للفكر أو للفلسفة في حوض البحر الأبيض المتوسط فهي أقرب إلى
الشرق منها إلى أوروبا. فبينها وبين تركيا أو سوريا أو مصر والإسكندرية
مسافة قصيرة. في حين أنها بعيدة جدا عن انكلترا أو ألمانيا هذا ناهيك عن
البلدان الاسكندينافية. أما الحداثة التي تهيمن على الجميع اليوم فقد ولدت
في أوروبا المتوسطية ذاتها على شواطئ ايطاليا إبان عصر النهضة وذلك قبل أن
تنتقل لاحقا إلى فرنسا وانكلترا وهولندا وألمانيا الخ..وتولد عصر التنوير
الكبير..بل ويمكن القول بأنها ولدت عندنا أولا في بغداد العباسية أو مصر
الفاطمية أو قرطبة الأندلسية قبل أن تنتقل إليهم وتساهم في نهضتهم إبان
القرن السادس عشر. وبالتالي فطه حسين على حق إذ يقول بأنّ العلاقة بيننا
وبين أوروبا أقوى بكثير من العلاقة بيننا وبين الشرق الأقصى(2). من يستطيع
أن ينكر ذلك؟ ولكن بما أننا مصنفون شرقا فإننا نعتقد أننا نحن والصينيين
شيء واحد. أو قل نعتقد أننا أقرب إلى الصينيين والهنود منا إلى الأوروبيين
الذين يقفون في مواجهتنا على الضفة الأخرى من المتوسط.
نعم إن الشرق الأقصى البوذي- الهندوسي- الكونفوشيوسي ينتمي إلى فضاء
حضاري آخر ومرجعيات دينية مختلفة تماما. ومع ذلك فإنّ بعض مثقفينا يتوهمون
بأننا شرق أو أقرب إلى الشرق منا إلى الغرب! وهذا خطأ كبير. فمن منّا يعرف
شيئا كثيرا عن أديان الشرق الأقصى وفلسفاته وعقائده؟ إنها غريبة عنا كل
الغرابة. هذا في حين أن المسيحية أو اليهودية جزء لا يتجزّأ منا. بل انك لا
تستطيع أن تفهم القرآن جيدا إن لم تدرس التوراة والإنجيل لأنه متأثر بهما
كثيرا. وقصص أنبياء بني إسرائيل وعيسى وموسى وزكريا ومريم وهارون وسواهم
تملأ القرآن الكريم من أوله إلى آخره تقريبا. ولذلك يدعو بعض العلماء الآن
إلى تأسيس كليات في كل الجامعات العربية لتدريس تاريخ الأديان المقارنة.
فبدون المقارنة بين اليهودية والمسيحية والإسلام فإننا لن نفهم جيدا هذه
الأديان. ولن نفهم تراثنا الخاص بالشكل الصحيح. فبالمقارنة تتوضح الأشياء.
ولكن للأسف فإن النزعة المحافظة السائدة عندنا لا تزال تمنع مثل هذه
الدراسات والكليات. فهي تعتقد أننا سنقضي على خصوصية الإسلام إذا ما
انخرطنا في مقارنة كهذه. وهكذا تؤخر التحرير الفكري في العالم العربي إلى
أجل غير مسمى..وبالتالي فوحدهم القومجيون والأصوليون يعتقدون أننا من جنس
والغرب الأوروبي كله من جنس آخر! وهذا مزعم لا يصمد أمام الامتحان
التاريخي. أضيف قائلا بأن عظمة الإسلام كتراث روحاني كبير أو كتجربة
إنسانية ضخمة مع المطلق الإلهي لن تتجلى على حقيقتها إلا بعد القيام بهذه
المقارنة او مواجهة هذه المصارحة الصعبة- والتحريرية! - التي أصبحت على
الأبواب.
الجذور التاريخية للصراع
ولكن هناك مشاكل بالطبع بيننا وبينهم! وليس هدفي هنا أن انتقل من تطرف إلى
تطرف معاكس أو أن أنكر حقائق التاريخ..فلنحاول إذن أن نقدم صورة مرنة عن
الأمور، ولكن صورة تفتح على المستقبل وتسمح بالأمل : أقصد تسمح بحوار
الحضارات لا صدامها كما يفعل المحافظون الجدد عندنا وعندهم. اذ أقول هذا
الكلام فإني اعتبر القومجيين الأصوليين عندنا بمثابة محافظين جدد أيضا : أي
القطب المضاد للمحافظين الجدد واليمين المسيحي واليهودي المتطرف عندهم.
لتوضيح جذور الصراع يمكن أن نستشهد بعبارة للمؤرخ البلجيكي المعروف هنري
بيرين. وهي واردة في كتابه : محمد وشارلمان(3). وفيها يقول بما معناه: مع
الإسلام ظهر عالم جديد على ضفاف المتوسط. وحصل عن ذلك تصدع أو كسر لا يزال
مستمرا حتى يومنا هذا.
ما الذي نستنتجه من هذه الكلمات؟ نستنتج أن المسيحية كانت مسيطرة على حوض
البحر الأبيض المتوسط شمالا وجنوبا، شرقا وغربا، حتى ظهور الإسلام. لقد
كانت تهيمن على كلتا الضفتين لا على ضفة واحدة كما هو عليه الحال الآن.
ولكن بعد ظهوره لم تعد تهيمن إلا على ضفة واحدة. فقد اكتسح الإسلام كل
الضفة الجنوبية والشرقية بل ووصل إلى الضفة الغربية حيث احتل اسبانيا وأسس
الحضارة الأندلسية لمدة ثمانية قرون. وبالتالي فالصراع مع أوروبا ابتدأ منذ
ظهور الإسلام في الواقع وليس منذ الحروب الصليبية في القرون الوسطى أو
الحروب الكولونيالية في القرن التاسع عشر أو حتى الصراع العربي الإسرائيلي.
انه صراع مستمر منذ أربعة عشر قرنا: أي منذ الفتوحات الإسلامية الكبرى.
وبالتالي فمنذ ظهور الإسلام وحتى الصراع العربي الإسرائيلي السائد حاليا لم
تتوقف النزاعات بين الطرفين إلا لماما..وكلما تحاربت الشعوب المتواجدة على
كلتا الضفتين ونبذت بعضها بعضا شعر المفكرون ورجال الدين العقلاء بالحاجة
إلى عقد الحوارات الدينية والثقافية لتهدئة الأوضاع المتفجرة والعيش بسلام
دون أن يستطيعوا التوصل إلى حسمها بشكل نهائي . ثم ازداد الصراع على
المنطقة منذ قرن تقريبا بسبب البترول. فالغرب يواجه قوى مضادة لهيمنته على
المنطقة وعلى البترول في آن معا. ولذلك اتبع سياسة الاحتواء والردع حتى
حصلت ضربة 11 سبتمبر المشؤومة. وعندئذ قرر تغيير استراتيجيته واتبع سياسة
أكثر هجومية وعنفا. ولم يعد يكتفي بالأساليب الدبلوماسية للاحتواء والردع.
وسيطرت عندئذ عقيدة بوش الابن والمحافظين الجدد على المسرح العالمي أو على
الأقل المسرح العربي الإسلامي. وهي العقيدة المتهورة التي يتخلى عنها
الرئيس أوباما حاليا. وأعتقد شخصيا أن أوباما يستوحي أطروحات ريتشارد
بولييت التفهمية الإنسانية لا أطروحات برنارد لويس المنظر الأساسي
للمحافظين الجدد والذي لا يعترف بأيّ مسؤولية للاستعمار الغربي عن تخلف
العرب. وبالطبع لا يعترف بأي مسؤولية لإسرائيل! وهنا يكمن التحيز الفاضح
وعدم الموضوعية لهذا العالم الكبير المتبحر بتاريخ الإسلام..إذ أقول هذا
الكلام فاني أعتبر أن وضع حد للصراع العربي الإسرائيلي عن طريق تأسيس دولة
فلسطين إلى جانب الدولة الإسرائيلية والاعتراف المتبادل هو الشرط الأساسي
الذي لا بدّ منه لكي ينتصر تنوير العرب.
ولكن هذا لا يعني أن تاريخنا مع الأوروبيين كان كله صراعا في صراع!
فالواقع أننا عشنا أحيانا فترات سلام طويلة حول هذه البحيرة الجميلة
الهادئة التي تدعى : البحر الأبيض المتوسط. وتبادلنا السلع والأفكار
والمنافع في آن معا. ونحن محكومون بالتعايش إلى أبد الدهر. ضمن هذا المعنى
نفهم تشكيل الاتحاد الأوروبي- المتوسطي، أو العربي الإسلامي الأوروبي، سمّه
ما شئت. قلت الإسلامي لأنه يضم تركيا المرشحة لقيادة المنطقة بل وربما
مفاوضة إسرائيل نيابة عن العرب. فهي وحدها القادرة على لجم جماح إسرائيل
وغطرستها. ولكنه يصطدم بعراقيل هائلة وأوّلها بالطبع الصراع العربي-
الإسرائيلي المذكور. فما لم يحسم بشكل ما، ما لم ينتصف للشعب الفلسطيني
المغدور بشكل ما، فان المشروع سيظل حبرا على ورق وسيتأخّر تنفيذ الحلم
الكبير لطه حسين وجاك بيرك وفيرنان بروديل ومحمد أركون(4).
لمكافحة التيارات الأصولية المهيمنة على الشارع العربي- الإسلامي، وكذلك
على الشارع الإسرائيلي- الأميركي، فانه ينبغي تطبيق مناهج العلوم الإنسانية
الحديثة على دراسة الأديان كلها بما فيها الدين الإسلامي بل وبخاصة الدين
الإسلامي لأنه هو الوحيد الذي لم يستفد حتى الآن من تطبيق مناهج الحداثة
عليه، وذلك على عكس المسيحية الأوروبية او حتى اليهودية وإن بدرجة أقل. فلا
يمكن أن نحجم التطرف الديني أو الحركات الظلامية الاستلابية إلا إذا نشرنا
المعارف المحرّرة للعقول على ضفتي المتوسط وفيما وراءهما لكي نصل إلى
منطقة الخليج والجزيرة العربية حيث يسود تعليم قروسطي غير مقبول للدين في
هذا القرن الواحد والعشرين. وهذا التعليم الظلامي للدين الإسلامي وتراثه
العريق هو المسؤول عن تخريج جحافل المتطرفين في كل أنحاء العالم العربي
والباكستاني الخ…انظر ظاهرة الطالبان وما تشكله من خطر على الحضارة
الإسلامية والعالمية. ينبغي على دبلوماسية الوقاية والعلاج الاستباقي أن
تتفاوض بكل مرونة مع إيران وتركيا وسوريا ومصر والجزائر والسعودية وقطر
وبلدان الخليج كلها بل وجميع الدول الأخرى لكي تقبل بإدخال مادة تاريخ
الأديان المقارن إلى جامعاتها ومعاهدها العليا بل وحتى مدارسها الثانوية.
لقد آن الأوان لتدريس الدين الإسلامي بطريقة علمية، فلسفية، تاريخية،
حديثة، مسؤولة. وعندئذ لا يعود المتطرفون يتخرجون بالآلاف المؤلفة من
بلداننا ويرتكبون الأعمال الإجرامية والتفجيرات باسم الإسلام. وعندئذ لا
يعود شبح الحروب الأهلية يهيمن على بلداننا ويؤخر تطورها قرنا آخر..
المثقف العربي
كجسر بين الضفتين
نحن جميعا وسطاء ثقافيون بدءا من أكبرنا طه حسين وانتهاء بأصغر مثقف عربي
معاصر. أقصد وسطاء بين كلتا ضفتي البحر الأبيض المتوسط : أي بين العالم
العربي الإسلامي وأوروبا. ولكن للأسف فان مشروعه الكبير في كتابه الرائد:
مستقبل الثقافة في مصر، أجهض من قبل المشروع الصهيوني (وثقافيا ليس فقط
الشعوب الواقعة بالفعل على ضفافه وإنما كل الشعوب العربية والإسلامية بما
فيها الخليج العربي وإيران وبالطبع تركيا. ومعلوم أن طه حسين عرف كيف يربط
مصر والفكر العربي ككل بحوض البحر الأبيض المتوسط وحضارته الممتدة منذ
اليونان والرومان وحتى حضارة أوروبا الحديثة. فأقاموا عليه الدنيا وأقعدوها
واتهموه بشتى التهم والنعوت : عميل للغرب، متنكر لأصوله العربية
الإسلامية، خائن للتراث، الخ.. لماذا أيها السادة الكرام؟ ألم تكن حضارتنا
الكلاسيكية أو ما ندعوه بالعصر الذهبي عبارة عن تفاعل خلاق مع الفلسفة
اليونانية بدءا من المأمون والترجمات الكبرى؟ ألم تنهض حضارتنا الحديثة على
يد محمد علي بعد الاتصال بأوروبا والاستفادة من علومها وخبراتها؟ أين
العيب في ذلك؟ بل إن الحضارة الأوروبية نفسها ما كان لها أن تنهض وتزدهر
لولا الأندلس وترجمة علمائنا وفلاسفتنا إلى اللاتينية في طليطلة وسواها من
مراكز الترجمة الأوروبية آنذاك. لقد ترجموا عنّا مثلما ترجمنا عنهم ونقلوا
عنا مثلما نقلنا عنهم. بل وسيطرت الفلسفة الرشدية عليهم مدة أربعة قرون
وربما أكثر. وكانوا يفتخرون بأنهم يعرفون مؤلفات ابن رشد ويشرحونها
لتلامذتهم في السوربون وأكسفورد وبولونيا بايطاليا وسواها مثلما نفتخر نحن
الآن بأننا نعرف كانط او هيغل.. وبالتالي فهذي بضاعتنا ردّت إلينا! (هنا
أسقط في الديماغوجية قليلا، ولكن لا بأس.. أريد فقط توضيح الفكرة حتى ولو
عن طريق الكاريكاتور والمبالغات. وأنا شخص مهووس بالإيضاح والتوضيح).
نعم لقد أخذوا عنا وأخذنا عنهم في تفاعل جدلي مبدع وخلاق حول هذه البحيرة
الوديعة التي نطل عليها من فوق بالطائرة كلما سافرنا من باريس إلى عواصم
العرب بمغربها ومشرقها. نعم هناك حضارة متوسطية ولكن تعددية، تناقضية،
غنية. والأمة العربية هي جزء لا يتجزأ من هذه الحضارة، بل إنها تشكل أحد
مكوناتها الأساسية. نقول ذلك رغم اهتراء الوضع العربي حاليا وضعفه وتشرذمه.
ولكن مستقبل العرب أمامهم لا خلفهم. وهم لم يقولوا كلمتهم الأخيرة بعد!
ولذا فإنّ على مفكّري التنوير العربي أن يدينوا نزعات الحقد والجهل التي
تحاول أن توهمنا بأن الأوروبيين من طينة تختلف جذريا عن طينتنا وحضارتنا.
إنهم لا يرون إلا ما يفرق ويتجاهلون ما يجمع. وهذه هي سمة كل نزعات التعصب
القومي أو الديني. وما يجمع بيننا شيئان أو ثلاثة أشياء أساسية: الإرث
الديني التوحيدي(أي المسيحية في جهتهم والإسلام في جهتنا) زائد الفلسفة
اليونانية التي نحن الذين نقلناها لهم، زائد الحضارة العلمية والتكنولوجية
والفلسفية الحديثة التي أصبحت بحجم العالم والتي كانت من صنعهم. ويمكن
القول بأن المشاريع السياسية المعاصرة من مؤتمر برشلونة إلى فكرة الاتحاد
الأوروبي- المتوسطي أو الحوار العربي- الأوروبي ليست غريبة عن هذا الاتجاه
الفكري الذي شقه المؤرخ الشهير فيرنان بروديل بالإضافة إلى طه حسين وجاك
بيرك.