في ربيع عام 1979، عندما بدأنا
نفكرـ بوعلي وأناـ بالرحيل إلى بيروت، لم يكن قد انقضى غير شهور على
انتقالنا وأسرتينا إلى اللاذقية، هو من دمشق، وأنا من حلب. ومن بين ما
دفعنا إلى ذلك الرحيل، كان الضيق بالعمل الوظيفي: هو في مديرية التخطيط،
وأنا في تدريس اللغة العربية، وكذلك كان الحلم بتحصيل لقمة العيش من
الكتابة، والحلم بالعيش في الفضاء الفلسطيني اللبناني: فضاء الثورة اللاهبة
والحرب الأهلية اللاهبة. في مطلع تشرين الأول من ذلك العام شددنا الرحال.
وكانت محطتنا الأولى في مكتب الكاتب الفلسطيني الصديق يحي يخلف الذي نقلنا
وحقيبتنا إلى شقة صغيرة وأنيقة كان قد دبّر لنا استئجارها من زينة فرنجية،
وكانت الشقة تطل على سينما البيكاديلي في مستهل الحمرا. وقد استقل كل منا
بغرفة ليبقى الصالون مشتركاً مثل المطبخ والحمام. ومنذ يومنا الأول استعاد
كل منا عهده زمن الدراسة، غير أنني كنت أكثر ترتيباً من بوعلي، وتلك كانت
أولى المفاجآت: هذا الذي يبدو بالغ التنظيم، والذي تربّى في ألمانيا على
ذلك، يميل إلى أن يكون طالباً قليل العناية بنظام العيش في السكن الطلابي!
كان إيجار الشقة متهاوداً، ليس فقط لأن يحي يخلف وصاحبتها من اليسار
اللبناني الفلسطيني، بل لأن المستأجرين أيضاً من اليسار السوري. والأهم أن
لقاءنا الأول بزينة أرسى للصداقة، فتكررت لقاءاتنا، في الشقة نفسها وفي
منزل زينة الفسيح البهيّ. وسوف نتصارح، بوعلي وأنا، بعد عودتنا الخائبة من
بيروت، بأن كلاً منا كان يحسب أن الآخر يغازل زينة وزينة تغازله، لذلك كان
يفسح لصاحبه، حتى خاب الخائبان وحُقتْ عليهما لعنة زينة. ولكن ليس لهذا
السبب انتقلنا من شقتها إلى أخرى بالغة التواضع، بل لأن إيجار الشقة
المتواضعة أيسر بكثير، ولأن موقعها قرب الجامعة العربية، يجعلنا في مأمن
أكبر. على أن العكس هو ما تأكد من بعد، حين دمرت الغارة الإسرائيلية مكاتب
للجهة الديمقراطية، على بعد أمتار من شقتنا الجديدة. في أيامنا البيروتية
الأولى كنا ننتقل من دعوة غداء إلى دعوة عشاء. كانت الدعوات احتفائية،
وعبرها تعرفنا إلى ماجد أبو شرار وغانم زريقات ويمنى العيد وحسين مروة
والياس خوري ومهدي عامل وسهيل إدريس ومحمد دكروب وكثيرات وكثيرين من أهل
النضال والآداب والفنون واليسار الذين كانت تمور بهم بيروت، سواء من كان
منهم في زيارة عابرة لها أم مقيماً فيها. من الذين كانت لنا بهم من قبل
صلات متفاوتة: حيدر حيدر وجورج طرابيشي وفيصل دراج وسعد الله ونوس والياس
مرقص وبشير الداعوق والمرحوم سليمان صبح الذي كان قد أسس للتو دار ابن رشد،
وسرعان ما ذاع صيتها، مثل دار الكلمة التي كان أسسها للتو أيضاً المرحوم
حسين حلاق. ولأن سيل الذكريات يدفق، فليس بوسعي إلا أن أنصاع لفوضاها.
وهكذا يقودني ذكر سليمان صبح إلى طلبنا مساعدته في فتح حساب مصرفي باسمينا،
فأكد لنا أن ذلك غير ممكن، وأثار ذلك عجب بوعلي، وصادف عقب ذلك أن زرنا
دار الفارابي، فاستشرنا مديرها أو أحد العاملين فيها، فسخر من سذاجتنا:
انتو ببيروت مانكن بالشام. وأطلق بوعلي قهقهته المعهودة ساخراً من كل شيء:
من غباء سليمان أو استغبائه لنا، ومن المبلغ الذي لا يستحق أن نودعه في
البنك، ومن جهل المتخصص في الاقتصاد ـ يعني نفسه ـ والخبير بالنشر والمال:
يعنيني. بالطبع، لم يكن للدعوات الاحتفائية أن تستمر، حتى لو استمرأناها،
فكيف إن كنا نتعجل العودة إلى العمل، أي إلى القراءة والكتابة، فهذا هو
العمل الوحيد الذي يسعنا أن نقوم به. ولذلك بتنا نسأل على استحياء عن عمل
ما في مؤسسة ما من المؤسسات الثقافية التي يولم أصحابها أو مديروها على
شرفنا. ولما توالت الإجابات الغامضة، بدأنا نرتبك، فما تركه كل منا لأسرته
محدود، وبالكاد يكفي لشهور معدودة، مثله مثل الذي أودعناه في بنك بيروت
والبلاد العربية. ويبدو أنه كان لابد لشهر أن ينقضي من بعد شهر، حتى ندرك
بالملموس، وليس بالوعي النظري الذي كنا نتشدق به، أن أية مؤسسة ثقافية هي
تابعة ذليلة أو (طابو) لفلان أو علان من عتاة الثورة الفلسطينية بخاصة،
وأنه لابد لك لكي تعمل، من أن تنخرط في تلك التبعية. وقد أمضّ ذلك بوعلي
وجعله ينطوي على نفسه، فبات يقضي جلّ وقته في الشقة، يقرأ ويكتب، بينما كنت
أتسلل من الشقة في المساء غالباً، لأجد متنفّساً ما بصحبة أحدهم أو
إحداهن، وأحياناً: في عزلة فيلم إباحي مما كانت تعرضه سينما الكومودور أو
سينما البيكاديللي نفسها! ذات عصر، جمعنا موعد مسبق بيمنى العيد في أحد
مقاهي الرصيف. وإثر ذلك دعتنا إلى سهرة في بيتها أو في بيت مهدي عامل، ما
عدت متيقناً. وكان بوعلي كلما اقترب الموعد يحوص حول عذر يعفيه من السهرة،
حتى إذا حلّ الموعد، وافتقد هو العذر، ركب رأسه وأصر على أن يتركني أذهب
وحيداً إلى تلك السهرة العامرة التي كان مهدي يجلجل فيها، كما كانت تضيق
بحيوية وصخب فيصل دراج وحسين مروة ومحمد دكروب ويمنى وزوجها وسواهم. وذات
عصر آخر جرفنا الحنين إلى زيارة جورج طرابيشي في منزله في الجديدة (أي في
بيروت الشرقية)، إذ كان نادراً ما يجازف بالوصول إلى عمله في دار الطليعة.
وكان علينا حسبما أرشدنا أحدهم ممن نسيت، أن نقطع مشياً ساحة الشهداء
المدمّرة الموحشة، والتي يجبهك الخطر في كل نظرة منها، حتى نستقل السرفيس
إلى الجديدة. ثم كان علينا أن نسير من حيث أنزلتنا التاكسي إلى حيث يقيم
جورج. ولأننا تهنا كان لابد من أن نسأل. ولما وصلنا أخيراً كان الغروب قد
أوشك، ولاقانا جورج بالرعب: كيف وصلتما إلى هنا؟ وقبل أن نجيب أمرنا
بالعودة فوراً قبل أن تعتم، وبألا ننطق بكلمة حتى نقطع ساحة الشهداء إلى
السيرفيس الذي سينقلنا إلى الجامعة العربية. لماذا؟ حتى لا تفضحنا لهجتنا
السورية، وتقع واقعة من واقعات التصفيات المتبادلة التي كان يجري تداولها
ليل نهار. وقد نفذنا ما أمر به جورج، وهتفنا له من مكتب ثوري مجاور للشقة
لنطمئنه بوصولنا سالمين غانمين، ثم هرعنا إلى تحضير العشاء على إيقاع قهقهة
بوعلي الساخرة من هلع جورج ومن غبائنا!
ماذا قلت؟ العشاء؟ حسناً: كانت الشائعات قبل عهدنا في بيروت تؤكد أنني أحضّر شوربا العدس
بدرجة خمس نجوم. وكان بوعلي مثلي، مدلّهاً بعشق شوربا العدس، وفاءً لعهد
الطفولة والجذور الفلاحية الفقيرة. هكذا كان عليّ أن أحضّر العشاء الأول في
شقة البيكاديللي، بينما بوعلي يقرأ في كتاب ويتلمظ. ولما طال انتظاره أخذ
يحوص، ثم أخذ يتفقد الطبخة ويزفر. ولما تفاقم الجوع به وبي، استسلمنا لعناد
العدس الذي أصرّ على ألاّ يلين، فقرطناه قرطاً، واندلع سخط بوعلي عليّ
وعلى الشوربا وعلى من كرسني خبيراً بها. وفي الصباح سبقته إلى النهوض
كالعادة ـ كان أحياناً ينام حتى الظهر، كما كان سهره يمتد حتى الصباح ـ
وأضفت الماء إلى الشوربا وأعدت غليها طويلاً، لكن العدس أصرّ على ألاّ
يلين. ولما كررت ذلك مساء وتكرر فشلي، أطلق بوعلي ياسين قهقهته الساخرة
وأفرغ الطنجرة في التواليت. وحين حددت سلمى (زوجته) وربما سميعة (زوجتي)
العلّة بإضافة عصير الليمون الحامض إلى الماء منذ البداية، تجددت سخرية
بوعلي من الإنجاز الوحيد الذي كنت أباهي به النساء أجمعين: الشوربا! وبعد،
لعل أحداً من المعمرين من أقراننا لا يزال يذكر المستعرب الفرنسي ميشيل
سورا المتزوج من حلبية، والذي كان مقيماً في بيروت عندما اندلعت الحرب
الأهلية اللبنانية. كانت الصحبة قد توطدت بين ميشيل وبيننا قبل رحيلنا إلى
بيروت. وفي بيروت تواصلت لقاءاتنا، ولكن في النهار فقط، وفقط في مقر عمله
عند جسر البربير، أي عند واحدة من نقاط التماس الخطرة بين بيروت الشرقية
وبيروت الغربية، حيث كان يحسن أن تنتقل سيراً على الأقدام، وأن تحذر أن
تثير لفتة منك أو خطوة أو صيحة ريبة عين ما تراك ولا تراها، فتقع الواقعة.
وقد كان ذلك يثير خوفي كل مرة. أما بوعلي فكان يمشي على هون، ويلتهم
سيجارته على هون، كأن ليس من خطر البتّة، حتى عندما فاجأتنا زخّات الرشاشات
في ظهيرة شتائية غبراء، بعيد خروجنا من مكتب ميشيل سورا. لقد اكتفى بوعلي
بالتوقف والتلفت يمنة ويسرة، ثم رمى سيجارته في الوحل وتقدمني خطوات. ولما
لحقت به أسرع والرصاص يلعلع ملء السماء والجهات. وحين انعطف بنا الرصيف
أسند بوعلي ظهره إلى جدار رخامي أسود وتنهّد عميقاً، وهمس: نفدنا، بسّ ما
كل مرة بتسلم الجرة. تلك كانت زيارتنا الأخيرة لميشيل سورا الذي سيختطف بعد
حين في لبنان، وسيذهب ضحية الوحش الذي كان يعربد على هواه في تلك الحرب
المجنونة. ثمة الكثير مما هو أكبر أو أقل أهمية بينن ذكريات تلك الرحلة غير
الميمونة إلى بيروت: من إصدارنا لثلاثة كتب في سلسلة الرأي الآخر، إلى
مشروع كتاب الماركسية والتراث العربي الإسلامي الذي أصدرته دار الحداثة،
إلى عشق بوعلي الطفولي في برج البراجنة، إلى مشاهدة مسرحية كاسك يا وطن
(فيديو) في بيت أم هيثم أرملة ياسين الحافظ، إلى تتويج الرحلة بالخيبة،
فكان أن عاد بوعلي ياسين إلى اللاذقية، بينما تابعت الرحلة إلى المغرب، ثم
على فرنسا، وكل ذلك مما دأبت على طيّه كل هذه السنين، مؤملاً أن أكتبه في
رواية ما. ومن يدري، فقد تكون هذه الصفحات هي الشرارة.